أن تعود من الحرب بعد عقود من الهزيمة لتجد كل شيء قد تغير، أرضك وسماءك ولون علمك وضحكة ممسوخة على وجوه لا تعرفها شيء أشبه بفنتازيا الخيال غير العلمي، لكن هذا بالفعل ما حدث مع هيرو أونودا. فقد وقف الرجل محتضنا سلاحه وعلمه تسعة وعشرين عاما في انتظار وفاء تانيجوشي بوعده. وعندما عاد الرجل إلى مسقط هزيمته، وقف أونودا على قدمين من صلابة ليؤدي التحية لقائده الفار.
في الثامن والعشرين من فبراير عام 1945، مالت الطائرات الأمريكية على جنود المشاة من اليابانيين ميلة واحدة، فقتلت منهم قوما وأسرت آخرين، بينما استطاعت ثلة من الجنود الصفر أن يهربوا بخرقهم البالية من فوق أسلاك الفلبين الشائكة ليعودوا منكسي الرؤوس إلى أهلهم وذويهم. أما أونودوا فلم يصدق ما أسقطته الطائرات المغيرة من منشورات، واعتبر ما جاء بها من أخبار مجرد حرب نفسية قذرة يشنها الأمريكان على مقاتلي الساموراي الأشاوس.
انتهت الحرب العالمية الثانية، وانتصر الأمريكان، ونكس اليابانيون راياتهم فوق كل البقاع، لكن علما واحدا فوق جزيرة صغيرة في أدغال الفلبين ظل عصيا على التنكيس ثلاثة عقود كاملة. كان أونودا وثلاثة من رفاق التيه يقفون كل صباح تحت رايتهم الشاذة ليؤدوا التحية لعلم سقط وامبراطور رحل، في انتظار تانيجوشي الذي قال لهم ذات ثقة: "سنعود إليكم اليوم أو غدا، وربما بعد خمس سنوات، لكننا حتما سنعود." لكن الرجل تأخر تسعة وعشرين عاما كاملة، رحل خلالها ثلاثة من الرفاق، ولم يبق إلا أونودا.
كان آخر الساموراي المحترمين يأكل الموز ليلا ونهارا، ويتخذ من أشجار البامبو سكنا، ويرقع ثيابه ويخصف نعله ويشحذ سلاحه في انتظار أوامر أخرى. لكن الأوامر التي جاءته متأخرة جدا طالبته بتسليم سيفه لماركوس زعيم الفلبين، وعندها أدرك الرجل أنهم قد خسروا الحرب فخر باكيا وأناب. وبعد عفو رئاسي عن جرائم ارتكبها أونودا خطئا بحق سكان الجزيرة، عاد الرجل إلى اليابان حيران أسفا.
عاد رجل الأدغال إلى ناطحات السحاب والقنوات المشفرة عام 1974، ليأكل البيتزا والكنتاكي ويسهر حتى منتصف الليل أمام قنوات اليابان المشفرة. لكن هزيمة الانفتاح كانت أشد فتكا بروحه المعذبة من نكسة التولي يوم الزحف. فقد كانت وجوه المارينز الموشحة بالسواد تخرج لسانها من ثقوب الهاتف ومقاهي الإنترنت وعلب الليل. وظل الرجل يسير بين ناطحات السحاب هائما على وجهه يبحث عن وطن حتى وافته المنية.
أخيرا وبعد صراع مع الهزيمة، قرر ساموراي اليابان الأخير أن يترجل. وفي السادس عشر من يناير الجاري، سقط سلاح أونودا إلى الأبد، لتختفي البيارق اليابانية من فوق الخارطة وتغرق اليابان إلى الأبد في مستنقع السلع الاستهلاكية والتقنيات المعقدة. رحل آخر الساموراي المحترمين، ليترك أعلام أمريكا ترفرف فوق أسطح المحطات الإعلامية وقنوات البث اليابانية المتأمركة لأنه أدرك مؤخرا أن بندقيته التي ظل ممسكا بها ثلاثة عقود كاملة لا تسمن ولا تغني من هزيمة.
يحق لأمريكا اليوم أن تعلن نبأ انتصارها الأخير على اليابان، وبالضربة القاضية. فبرحيل الساموراي الحزين، تسقط آخر راية يابانية مقاومة. وخلف جنازة رجل الأدغال المقاوم، ترحل كل الجينات اليابانية الرافضة للهزيمة، لينخر سوس الاستسلام حاضر اليابان ومستقبله. لم يبق فوق أدغال اليابان بعد رحيل أونودا رأس ترفض الهزيمة، ولا يدان تنظفان سلاحهما كل صباح. ولم يبق بعد سقوط سيف أونودا الأخير رجل يرفع رأسه عاليا فوق أي بقعة ذات ملامح مختلفة.
اليوم، يبكي اليابانيون وكل أحرار العالم رجلا فقد كل شيء إلا سلاحه ورايته، وظل عاضا على وطنيته في زمن التخاذل الكبير حتى آخر شهقة من هيكله الصغير. اليوم تسقط آخر قلعة للمقاومة الشريفة في هذا العالم، وتتشابه الثقافات وألوان البيارق، وموجات البث ونقوش الأسلحة. وقريبا يعلن العالم وفاة آخر إنسان في أدغال هذا العالم المسكون بالوحوش والمارينز.
إضافة تعليق جديد