في أواسط سبعينات القرن الماضي كنت محرر الصفحة الأخيرة في جريدة الثورة المعنية بالأخبار الثقافية والمنوعات . وقتها دعا الراحل مصطفى طلاس وزير الدفاع مغنية أميركية شهيرة تدعى جين مانسون لإقامة حفلة غنائية في دمشق .
في ذلك اليوم وقع بيدي خبر أوردته احدى وكالات الأنباء العالمية يقول ان مانسون هذه انطلقت من تل ابيب الى دمشق - عن طريق قبرص طبعا - بعد أن شاركت في احتفالات عيد استقلال اسرائيل وغنت نشيدها الوطني بالعبرية .
نشرت الخبر في صدر الصفحة مع تعليق حاد ومستفز كما يحدث لي احيانا في منشوراتي حاليا .
انتشر النبأ في الأوساط السياسية وكثرت ردود الأفعال عليه مما اضطر الراحل احمد اسكندر احمد وزير الاعلام الى عقد اجتماع بعد ساعات مع رؤساء تحرير الصحف وكنت بين المدعوين كمحرر الصفحة التي نشرت النبأ الذي أقام الدنيا ولم يقعدها .
مباشرة توجه الوزير نحوي بلهجة عتاب حادة ووجه عابس قائلا :
- خربت الدنيا ياقمر . ماكان لازم تعرف أنو هيك خبر حساس رح يثير بلبلة ومشكلة بين الناس ؟ معقول ماقدرت هالشي ؟ واذا قدرتو ليش ماإجيت لعندي وخبرتني كنا منشوف سوا اذا بتنشرو والا لأ ؟ هي بدي احسبلك اياها غلطة وبتمنى ماتتكرر تاني مرة .
قلت له:
- بتسمحلي استاذ احكي كلمة ؟
أجابني :
- طبعا تفضل .
قلت :
- أكيد استاذ انا قدرت خطورة الموضوع . بس لما وازنت بين وظيفتي ووظيفة وزير الدفاع تساءلت متل حضرتك ليش سيادتو ماقدر خطورة الموضوع قبل مايبعت الدعوة . هوي اللي لازم يكون قدر خطورة الموضوع مو أنا . أما بالنسبة لملاحظتك التانية كمان فكرت فيها بس لما قارنت بين مهنتي كصحفي عم يلاحق خبر لجريدتو وبين دوري كمخبر .. الحقيقة فضلت كون صحفي وماكون مخبر .
صعق الجميع وخيم الصمت على قاعة الاجتماع .
قبل مغادرتي القاعة أمسكني الوزير من كتفي وقال بابتسامة هادئة :
لو جاوبتني غير هيك كنت زعلت منك .
ذاك كان رجلا .
رجل دولة ورجل اعلام . عاشت في مرحلته الثقافة والفكر والصحافة أزهى أيامها وكانت دمشق قبلة المبدعين العرب والصحافة العالمية . وعندما أنظر حولي الآن يغمرني الحزن والغضب وانا أرى خراب كل شيء بناه أولئك الرواد على أيدي رجال لايتقنون سوى فن اللامبالاة والسقوط .
هذه المقدمة كان لابد منها قبل الدخول في رحلة مع واقع الاعلام الوطني اليوم من خلال تجربتي الشخصية .
إضافة تعليق جديد