هذا ما كان....
لم يكن ثمة ما يشير إلى ما سيحدث,فمنذ قليل كانت الشوارع مزدحمة وكانت الفوضى تملي قوانينها وتسير شؤون الناس,وثمة قطط تغوص برقابها في حاوية الزبالة في حين تتجول بجانبها وتترقب مجموعة من الدجاجات مع ديكها الحامي لها دورها لكي تدلي ..برقابها.
فجأة دوى صوت انفجار قوي ,تبعه صوت تحطم زجاج وأصوات جلبة بدأت تتصاعد في الشارع وعلا أصوات الأولاد في المدرسة المجاورة بالصراخ والبكاء.
تخرج للشرفة مستطلعا ليقابلك مشهد عمودين من الدخان الأسود في الشارع الموازي لشارعك ,وتتسارع الأولويات في رأسك بين تهدئة أهل بيتك والإطمئنان على الوالدة في الطابق الأدنى ..ثم إلى الشارع ,حيث تم صرف الطلاب من المدرسة وأسرع بعض الأهالي لاصطحاب أطفالهم ,بينما بقي العشرات منهم معزولين تائهين وخائفين .
تسرع نحوهم وتوجههم لمنطقة آمنة وتسلمهم لسيدة مسنة تسكن في الطابق الأرضي من البناية بانتظار حضور أهاليهم ,وتتصل بمن يحمل رقم أهله لكي يطمئنوا ويحضروا..وفي غمرة الفوضى والجلبة
تاتي سيارة مسرعة محطمة النوافذ وتقف قربك ,تتعرف على الوجه إنه الدكتور باسل صديقك ,يطلب إليك بعجلة ان تساعده بإغلاق الباب الخلفي للسيارة.
تتجه للخلف لتفاجىء بوجود شاب ممدد على المقعد الخلفي تغطيه الدماء ولا تبدو عليه آثار للحياة ,تتدلى رأسه وتمنع إغلاق الباب الخلفي ,تتراجع قبضة يدك عن الباب مشفقة ربما على رأسه من أن يحشر ,وتتجمد لثوان ..قبل أن تستعيد رباطة جأشك وتطلب من أحد الموجودين بقربك المساعدة.
.
.
مرت ثوان كانت كافية لتفضحك ,أنت أيها العقل المثقل بالكتب وبالشعر,لم يسعفك كل هذا أمام هذا الرأس المدمّى والمتدلي أمامك ,كان كل ما يجري يجعلك تنفر وتفرد (إفراد البعير المعبّد),وكان كل ما يجري حولك الآن يدعوك ...تعال ..تعال من هذه الكبرياء وهذا الوهم.
وأنت في كل هذا تسأل:لماذا ولمن تكتب الشعر ؟
أنت أيها الحزين والوحيد والعاجز أمام مشهد الدم حين يحملق في وجهك.
قد يرى الشاعر في الحرب ,حربا عليه شخصيا وعلى كبريائه وأحلامه وطموحه الدونكيشوتي بتغيير العالم ,وهو مهزوم سلفا,وقد يجد في وحدته وإفراده وفقره,نصرا, يشبه الشعر ..
لكنه نصر مسفوح وعار كمشهد رأس الحسين وجسد تشي.
.
.
منذ البداية كان السؤال:
هل ما ينقذ الإنسان ليس كامنا فيه ,بل خارجه.وهو بحاجة دائمة لهذا (التدخل الأسطوري).
لكن ابن الراوندي يقطع عليك الطريق كي لا تذهب بعيدا في هذا.
لمن تلجأ بعدئذ؟
للتاريخ ,للدين ...لكنهما يصفعانك بلا رحمة ويلقيان بك عاريا ,وحيدا كما أتيت,ويثيران بعقلك المستعر من الأسئلة أكثر بكثيرمما يقدمان من الأجوبة.
من تخاطب؟
المعلم الكبير ,طيّب :
أيها المعلم ,هل ستغفر لأبي العلاء وابن الراوندي وو...وبقية الضالين ؟
هل ستتفهم أخطاءنا وموبقاتنا التي ارتكبناها ولا زلنا ومانزال؟
(تشعر بالهدوء قليلا لفكرة بسيطة كثيرا ما تعود إليها)
فأنت أيها المعلم وكما قلت لنا تعلم ما خفي وما ظهر ,وأنت أدرى كم عمل هؤلاء (الضالون)للإنسان .
بدءا من أناكساغوراس وصولا لزياد الرحباني ,وكانوا أقرب إلى (الخليفة والصورة)من جحافل الحجاج والمصلين والمتولين النطق باسمك.
وهكذا أيها المعلم..أنت ترى أن من مصلحتنا نحن أن تكون كما قلت لنا.
بلا تزلف ولا رجاء ولا طمع ,
ها نحن نعلن عن أنفسنا كما نحن ,فقراء ,خاطئين,مطرودين,عراة ...
سنظل نقيس المسافات بالقمم ,والحدود بالعشب والسماء بالطيور,ونعدّ الأرض بالينابيع .
وذلك حتى يتاح للإنسان فرصة للإفلات من تلك الوحوش التي تتناسل من تغييب العقل ومن تسخيره للفساد ..والتي تطبق عليه من جميع الجهات.
هذا هو قدرنا..
هذا ما كان..وسوف يكون.
إضافة تعليق جديد