- 1-
اعتدتُ، منذ أن تيسَّر لي الأمر، أي منذ فترة قريبة، أن أقومَ كلّ سنة في الصيف بزيارة الى قصابين، القرية التي ولدتُ فيها. أقول: «منذ فترة قريبة»، لأنّ هذه الزيارة لم تكن ممكنة بسبب من الأوضاع الشخصية والعامة. فقد بقيت مُبعداً عن سورية عشرين سنة كاملة لم تطأها قدماي (1956 - 1976)، ثم أضيفت إلى هذه السنوات، سنوات الحرب الأهلية في لبنان، حيث اضطررت للسفر الى باريس والإقامة فيها.
زرت قصّابين، هذه السنة، مبكراً، في الشتاء، لكي أشاركَ الأخوة والعائلة جميعاً في إقامة احتفال لمناسبة مرور مئة سنة على ولادة أمي، واستقبال عامها الأول بعد المائة. وقد فوجئتُ برفضها الفكرة كلياً. ولم أشأ أن أسألها عن سبب هذا الرفض، احتراماً لرغباتها وأسرارها.
ربما رأت في هذا الاحتفال، بفعل حكمتها القروية نوعاً من الوداع الصاخب، لا تريده. كأنها تُحبّ أن تذهب إلى الموت، أو يأتي إليها، في صمتٍ كاملٍ يكون استمراراً لصمتها هي، ولصمت أيامها.
- 2 -
جبلة - بلدة يمكن وصف حيّها القديم بأنه بين أجمل الأحياء القديمة في المدن المتوسطية ويمكن وصف مَسْرحها الذي يعود، في شكله الأخير، إلى العصر الروماني، بأنه بين أجمل المسارح الرومانية في حوض المتوسط. لكنه، على مدى السنوات التي تفصلنا عن تاريخ بنائه، تهدّم وهُدّم، وخُرّب، ولا يزال خُرْبةً!
أما الحيّ القديم فساحةٌ لاستقبال النفايات من كل نوع!
أولو الأمر، وأعوانهم المثقفون، لا يكرزون إلا بتكفير البشر الذين يحيدون عن التراث. غير أنهم لا يفعلون، هم أنفسهم، إلا الاستهتار بهذا التراث أي هدمه، على النحو الأكثر تنظيماً - لا التراث السومري، البابلي، الفينيقي وحده، وإنما كذلك التراث البيزنطي، والتراث العربي.
وكيف يحدث أن النظافة هي من تعاليم الدين الذي يؤمن به سكان جبلة، ولا يُعنى بها أيٌّ منهم؟ وهل يمكن أن يكون الإنسان مؤمناً حقاً إذا لم يكن «نظيفاً» حقاً؟
- 3 -
كورنيش جبلة جميلٌ، خصوصاً أنه لا يزال قريباً إلى الطبيعة، إضافةً إلى غناه التاريخي بمآثر الأسلاف وبقاياهم المحفورة في الصخر.
ينقسم الى قسمين: شمالي وجنوبي. الحجاب هو العلامة الفارقة بينهما. نقطة «الحدود». للجنوب الحجاب. للشمال السّفور. أحياناً يحدث «تسلّلٌ» - اختراقٌ، وتمازجٌ، لكن من جهة الجنوب.
لا شكّ أن وراء الحجاب جمالاً. غير أنّنا مضطرون الى الاكتفاء بتخيّله. ونتمنى أن يسفر لتزداد الحياة جمالاً.
هكذا يستأثِرُ السّفورُ بحضور الجمال الطالع من الشمال. ويستأثِرُ الكورنيش، ويستأثر رعاةُ النجوم، وصيادو الشمس والقمر. خصوصاً أن المرأة الوافدة من قرى الشمال تحمل في جسدها الينابيع والجبال وكثيراً من خصائص الأودية والغابات. وتحمل تفتحات البراعم، وتحمل بهاء الفضاء، وشهوة الأرض.
- 4 -
«جمعية العاديات» (الآثار) في جبلة: أمّ أيهم، طه، جهاد، بدر، فايز، أحمد... وأصدقاؤهم، «عُمّالٌ» - يدورون كمثل الكواكب في فلك هذه المدينة. يحاولون تحريكها في اتجاه الفرح والحب والصداقة، أملاً في أن تنخرط كلها في العمل المبدع. بدأوا، تحقيقاً لهذا كله، عملاً متواضعاً، لكنه ذو دلالة عالية: إقامة مهرجانٍ سنويّ في الأسبوع الأخير من تموز (يوليو). مهرجانهم التأسيسي الأول، في السنة الماضية، نجح بشكلٍ باهرٍ. ومن المؤكد أنه سيكون هذه السّنة أكثر نجاحاً.
- 5 -
أعود الى جبلة.
مدينة جبلة واحدة، إدارة وسياسة. لكن ما أكثر المدن التي تتقاطع داخلها وتتنابذ. مدينة الزمن الأفقي الذي ليس إلا تراكماً. مدينة الزمن العمودي الذي يخترق الأنقاض والتراكمات ويتخطاها. مدينة المعتقدات المتناقضة المتصارعة في صمت كأنه صمت السيف أو صمت القبر. مدينة الحجاب. مدينة السفور. مدينة الصورة التي لا تكفّ عن التأوّه بحثاً عن معنى. مدينة الذاكرة التي لا تتذكّر إلاّ مَحْوَ الآخر. مدينة الحاضر الذي ليس إلاّ خِرَقاً ممزقةً مِن عباءة الماضي.
ملاحظة : الكتابة لأدونيس - بتصرف مني قصا وترتيبا(
إضافة تعليق جديد