ذات ربيع، فرح مبرمجو نسائم الحرية العرب بمقعدهم خلف شاشات الحواسيب، وإدارة صراع متقدم مع قوى النظم التقليدية البائسة لأنهم استطاعوا في غضون أشهر معدودات أن يشعلوا الخرائط ويزيحوا الطواغيت. لكن التكنولوجيا لا تعترف ببصمات الأصابع ونوايا المبرمجين بعد أن أثبت الدكتور عبد الرحيم على من خلال وثائقه الويكيليكسية الصادمة أن الهواتف الذكية ليست ذكية للغاية، وأن دخول شبكات العنكبوت ليست كالخروج منها، وأن حروب الميادين سجال.
واليوم تؤكد أوكرانيا مرة ثانية عجز التقنية المهين عن مواجهة العصي المكهربة والأحذية الغليظة، وأن اللعب مع الكبار أخطر ألعاب الفيديو، لأنها لا تضر العينين المتشوقتين لفجر مختلف وفقط، ولكنها تتجاوز الجباه العريضة إلى الأقفية والمؤخرات المكتنزة. فجأة، اكتشف شباب أوكرانيا المتمرد أن أجهزته الذكية ليست سوى أسلحة صدأة من مخلفات عهد النكسة، وأنه قد وقع ضحية بروباجاندا مصرية متخلفة، أوقعتهم فرادى وأبابيل في قبضة سلطات أمن البلاد.
ولأن رسائل الثائرين لا تأتي دوما بخير، تصفح شباب الميادين الأوكرانية بريدهم على إثر نغمات ميدان ناشزة ليجدوا رسالة ترحيب من سلطات القمع تبشرهم بقرب القصاص: "عزيزي المشترك، لقد تم تسجيل اسمك كأحد المشاركين في أعمال التخريب وإثارة الشغب، وإن غدا لثائره قريب." وعندها، أسقط في أيدي الثائرين، وأسقط من أياديهم آخر سلاح كان حتى عهد قريب مصدر ثقة معتبر.
لم يعد استخدام التكنولوجيا سلاحا ثوريا متقدما بعد أن أثبتت شركات المحمول في أوكرانيا ولاءها الكامل للنظام، وانحيازها التام للنجوم اللامعة فوق الأكتاف العريضة، ولم يعد أمام ثوار أوكرانيا إلا الاصطفاف المهين أمام أقسام الشرطة رافعين هواتفهم الغبية، أو البقاء حتى الرسالة الأخيرة في ميادين محاطة بالشبكات الموجهة.
لكن معركة الكر والفر بين الفصول ورعاتها مرشحة للتصاعد في كل ميادين أوكرانيا لأن النظام هناك لم يترك ثمة مخرج من شبكاته الضيقة نحو أي فضاء للتصالح. ويظل العنف والإقصاء والتهميش والحرب الإلكترونية القذرة نارا تأكل في هشيم البلاد المحتظر. والخاسر في كل المعارك وطن يلفظ تقنياته كلها في ميادين صراع غبية بين قوى فيسبوكية شابة ونظم ويكيلكسية عميقة.
وبين ميادين أوكرانيا وميادين القاهرة ثمة فصول، تتأثر مدا وجزرا بدقات الهواتف هنا أو هناك، فالهم واحد والبؤس مشترك، والبلاد على شفير حرب إلكترونية قذرة قد تأتي على أخضر البسطاء ويابسهم. الثورة في أوكرانيا لن تنتهي برسالة كما لن تنتهي ثورة مصر بتسجيلات ويكيلكسية مسربة، وصراع الميادين لن ينتهي بعنف إلكتروني موجه أو تهديدات فيسبوكية باغتيال ضباط أو الاعتداء على أسرهم.
ولن ينتهي صراعنا التكنولوجي العقيم حتى تستخدم التكنولوجيا في تطوير المجتمعات وتثقيف البسطاء الذين خلت ميادين السياسة من كل من يعبر عن صوتهم الخفيض وآمالهم المستحقة. من حق الشباب أن يحلم، ومن حق القائمين على شئون البلاد والعباد أن يحافظوا على استقرار الأوطان ووحدة أراضيها، دون أن يستغل هؤلاء عضلاتهم الفتية في إثارة الفوضى، أو يستغل أولئك قبضتهم الحديدية في القهر والاستبداد. ومن حق المواطن الذي لا ينتمي وأوقعه حظه العاثر وسط الميادين المراقبة أن يعترض على رسائل التخوين التي تصله من كافة جبهات الصراع. ومن حقه أن يشتري جهازا ذكيا غير مراقب.
إضافة تعليق جديد