ليس عبد الحليم خدّام شبيهاً بحلفائه اللبنانيين الذين أصابتهم النشوة لدى مشاهدته على الشاشة. فهؤلاء الأخيرون قد امتهنوا منذ زمن إلقاء المحاضرات عن العفّة. عبد الحليم خدّام، حين قارب الوضع اللبناني، كان يحاضر، على عكس حلفائه اللبنانيين، عمّا يعرفه تماماً، دونما ادّعاء لعفّة أو تواضع. لذا، بدا هذا الشقّ من حديث خدّام مهمّاً، بعكس ما تتقوّه به جوقة الحلفاء اللبنانيين الذين ما لبثوا يتخبّطون في مواقفهم، منذ أن طُردوا من جنّة المصالح التي وفّرها تلازم المسارين الأخويّين.
لا يبدو اتّهام عبد الحليم خدّام بالفساد بمثابة ردّ على أقواله. فقد كان الفساد جزءاً عضوياً من إمساك خدّام بالملف اللبناني. وهذا مدعاة فخر له. ولا يبدو تعيين رئيس وزراء لبنان في دمشق تهمة، فقد كانت التعيينات السياسية في لبنان من مسؤولية سوريا. وهذا مدعاة فخر واعتزاز بالأسلوب الذي كان يتّبع في تعيينات كهذه، مقارنة بما جرى بعد ذلك. فالصورة التي أراد نائب رئيس الجمهورية السوري السابق أن يشيعها ليست صورة <<نظيف الكف>> في مواجهة <<الفاسد>>، ولا صورة <<الشهيد>> في مواجهة <<القاتل>>. إنّها صورة السياسي المحنّك الذي يمثّله هو في مواجهة الغباء السياسي ممثلاً بخلفه في وزارة الخارجية السورية فاروق الشرع.
ليس في ذلك مدعاة للتصفيق. ومع ذلك، وجد عبد الحليم خدّام من يصفّق له من بعض اللبنانيين، ومن صفوفهم الأماميّة. وبدا ثانوياً أنّ يكون غضب خدّام ناتجاً عن رؤيته لما بناه من سيطرة سورية على لبنان، وقد انهار. بدا ثانوياً أنّ مشكلة خدّام مع الأسد الابن أنّ الأخير لم يستطع الاستمرار في إخضاع لبنان كما نجح خدّام وزملاؤه في السابق.
كان يمكن لظهور خدّام أن يفتح الباب أمام نقاش الحقبة السورية في لبنان ما بعد الحرب. بناء على أي تحالفات استطاعت تلك الحقبة أن تستمرّ؟ ما هي علاقة السياسي بالاقتصادي؟ ما هي شبكة المصالح التي رافقت التحالفات السياسية؟ ما هي الطبقات التي دخلت وما هي التي أقصيت؟ كيف وإلى أي مدى أدّت رشوة السياسيين السوريين لإطلاق اليد في لبنان؟ أين كان يبدأ إطلاق هذه اليد، وأين كان ينتهي؟ هل قصر أوناسيس و<<الهدايا>> الأخرى التي كانت تتدفّق على المسؤولين السوريين هي من مال خاص؟ وهل أدّى هذا الإنفاق الخاص إلى تأمين مصلحة عامة أم مصلحة خاصة؟ ما علاقة تلك الرشى بالفساد المتمثّل بنهب القطاع العام؟ هل سهّل هذا النهب أم حدّ منه؟
أسئلة كثيرة، لكنّ الوقت ليس ملائماً لطرحها. فالملفّ الوحيد الذي يريد لبنان والعالم أن يفتحه الآن هو وضع شهادات خدّام في خدمة لجنة التحقيق، وتسهيل الوصول إلى <<الحقيقة>>. لم يعد التاريخ هو المهم، ولا ماضي العلاقات اللبنانية السورية ومستقبلها. أمر اليوم لا يتّسع إلا للسعي إلى الحقيقة. فبعد أن ثبت تلازم الحقيقة مع إسقاط النظام السوري، ثبت أيضاً تلازم الحقيقة مع إسقاط السياسة في لبنان. إسقاط السياسة بالقتل ثمّ بحصرها في لعن القتلة.
فالشاشات، منذ فترة، لا تحتفل إلا بالقتلة. قتلة يبشّرون بالحرية، وقتلة آخرون يبشّرون بالقتل. وأنا لا يسعني، حين أشاهد عبد الحليم خدّام، وحين أشاهد من يضع الأكاليل على أضرحة الشهداء، إلا أن أردّد، مع سامر أبو هواش: <<تفرّجت على القاتل في التلفزيون، واحتجت إلى حمام طويل يا حبيبتي، لكي أخرج القاتل من رأسي، ونمت وركّبت المعادلة الصالحة: ليس عبثاً تنبت كل هذه الأشجار، ولا ترتفع الغابات من غير عظام، ولا يسقط الثلج هكذا لمجرّد أنه ثلج>>.
<<لا يسقط الثلج هكذا لمجرّد أنه ثلج