(14)
تدخل المنزل متجهما
ـ أحمد يابنى . مالك ياكبد أمك ؟
تتركها وتدلف إلى غرفتك قاذفا بنفسك على أقرب مقعد
تخلع نظارتك ملقيا بها على المكتب مجففا دموعك التى تتحسسها غير مصدق
تشعر بأنك شمعة تذوب مع كل دمعة تسقط
تترك دموعك نهرا يهطل من بين الأحداق .
وتحدق فى كل شىء حولك محاولا التمسك بالواقع حتى لاينفلت منك الزمام رغما عنك ... ورغم كل ماتشعر به إلا أنك تشعر بإلحاح غريب يدفعك للسفر للماضى ... فى حاجة أنت لذلك ... فى حاجة للتعلق بأغصان صفصافة ما .. أى صفصافة لتجد تفسيرا لذلك الذى يحدث حولك
تدقق النظر مرة أخرى فى كل شىء حولك
آثاث الغرفة هو هو.... لم يتغير
المكتب القديم خلفه المقعد المتهالك
الأريكة الطويلة فوقها الحشية الأسفنجية
المكتبة الصغيرة بين رفوفها بعض الكتب وفوقها أزهار أسفنجية ومنبه كبير الحجم ... وصورتك لازالت رغم السنين الطويلة فى الإطار البلاستيكى ... وعلى الجدران ورق ملون فوقه لوحات لبعض الأصدقاء القدامى وبعض من كتاباتك التى فشلت فى نشر أي منها فوضعتها فوق الجدران هى الأخرى ... كل شىء لايزل كما هو
فقط عنكبوت احتل الأركان وغبار غطى كل شىء .. فالغرفة لم يدخلها أحد منذ يوم سفرك الطويل بناء على تعليمات أمك .. حتى هذا المقعد الكالح لايزل هو أيضا فى نفس المكان .. وكانت أمك فوقه تبكى .... نعم ياعزيزى كانت تبكى .. وكنت أنت خلف هذا المكتب واضعا رأسك بين كفيك .. وأمك تقول لك فى توسل :
ـ يابنى حرام عليك كفاية غربة
نعم هذا ماقالته لك بالحرف الواحد . وقالت لك أيضا :
ـ كنت أعد السنين بالدقائق وأنت بعيد عن مصر
ثم استطردت بعد توقفها للحظات :
ـ وعندما عدت تريد الهروب للقاهرة
وضحكت من بين الحزن والألم محاولا التخفيف عنها . وأكدت لها أنك سوف تزورها نهاية كل أسبوع ..
و..
حملت حقيبتك خارجا من السمارة
كانت الساعة تشير آنذاك إلى الثامنة مساء
وفى عربة متهالكة غادرت القرية إلى السنبلاوين ومنها إلى القاهرة
فى الشهر الأول ..
نفذت ماوعدت به أمك
فى الشهر الثانى ..
بدأ وعدك لها فى التآكل
فى الشهر الثالث ..
تقزمت وعودك
فى الشهور التالية ..
أكلتك شـوارع القاهرة .. وابتلعتك دروبها
غرقت فى أضوائها
نهشتك
وكانت البداية عندما قال لك رئيس التحرير بعد أن استدعاك على عجل محدقا فى أوراقك الموجودة بين يديه :
ـ ماهذا التخريف ؟
و.... عندما حاولت الدفاع عما كتبته قائلا :
ـ إنه الواقع دون تحريف يذكر
قال ضاحكا فى سخرية :
ـ لهذا أنت حمارا
وبعد أن لقنك الدرس الأول فى الصحافة التى يرضى عنها الجميع . تساءلت فى دهشة :
ـ والضمير الصحفى ياسيدى ؟ والحقيقة ؟
عندها قال لك محتجا :
ـ الحقيقة أنك ستظل حمار
..........
والحقيقة قالتها لك أسماء عندما صاحت فيك ذات ليلة التقيتما فيها :
ـ كان بإمكانى الاحتفاظ بالجنين وأتحدى به العالم . لأنه جزء منك وقطعة منى ... لكننى تخلصت منه لأن أحمد الذى أحببته ذات يوم .. مات .. مات ...
تضع يديك فوق أذنيك محاولا ألا تسمع الصوت القادم من الماضى
تفشل رغم محاولاتك
تدور كالثور الذبيح بين أركان الغرفة
يدك أذنيك صوت أقوى قادما فى عنفوان :
أقـص عـن بــهـوت
أقص عن ياسين ... عن بهية
..........
ـ ياسين يرمز إلى الثورة التى تخططون لها لقلب نظام الحكم .. وبهية هى مصر التى تحاولون تدميرها بأعمالكم يا أولاد الـ ....
..........
يابهوت .... ياضحية
إيه .....كم أنت غبية
ـ أنت ماتعرفش إن الحاجات بتاعة نجيب سرور ممنوعة فى الجامعة ؟
..........
ـ " قصة الحضارة " لول ديورانت .. " لعبة الأمم " لمايلز كوبلاند .. " الإسلام وأصول الحكم " .. " الزينى بركات " ياخبر أسود كل دى مفرقعات ؟
..........
" هذا وقد تم ضبط عدد هائل من القنابل شديدة الانفجار لدى المتهم .. واقفل المحضر بعد اعتراف المتهم بالتهم المنسوبة إليه . "
اقرأ آخر خبر ......
" وزارة الداخلية تلقى القبض على إرهابي خطير "
ـ مش قلت لك ان السكة دى نهايتها مش كويسة ؟
(15)
دموع غزيرة تنحدر رغما عنك
تستند على حافة المكتب
تترك الدموع تتساقط
تتحسس كل جزء فيه
تظهر بين الأصابع ارتعاشة تحاول مواراتها لكنك رغم كل شىء تفشل
تمتد اليد المرتعشة الى أحد الأدراج التى تعرفها .... تفتحه ... تطالعك مئات الأوراق من يومياتك التى كنت تحرص على تسجيلها يوما بيوم ... تتطاير على مرأى منك أياما قد خلت وسنوات الماضى والليالى الجميلة ... تتقافز فى ألم عشرات القصص والحكايات التى استوحيتها من ذكريات الماضى وحياة الناس فى السمارة ... تمتد أصابعك إلى أوراقك القديمة التى غرقت فى مئات المواقف والأقاصيص
تنفض عنها الغبار وخيوط العنكبوت وفضلات الفئران ... كل يوم سطرته هنا تشم رائحته ... تحتضن يومياتك فى خوف وعشق وقلق
تفتح أحد أجزائها ... من بين الدموع المرتجفة فى الأحداق تدقق النظر فى السطور ..... تستسلم لها كالطفل فتأخذك فى أحضانها بعد انتظار سنوات طويلة
..........
جاموسة الواد عوضين الغلبان ماتت بعد فشله فى علاجها ... الواد عوضين كانت حالته وحشة.... قمنا سرا بجمع مبلغ من المال اشترينا له جاموسة تشبه جاموسته الأولى ... وضعناها سرا فى بيته ... عندما رآها احتضنها وانهال عليها تقبيلا وظن أن جاموسته الأولى عادت للحياه
*******
هنيه زوجة الحاج حسين مشيها وحش وبطال ... وجوزها أكبر منها وكانت هى والحق يقال . حلوة قوى وقمورة ... ومنذ أيام البت هنيه اختفت ... وليلة أمس وجدوها مقتولة فى غيط الدرة ... عندما سأل البيه ضابط المباحث أمها قائلا :
ـ هل هذه ابنتك ؟
أجابته :
ـ لاياسعادة البيه .. دى عمرها ماكانت بنتى .
*******
رأيته فى الباحة الواسعة التى يقام بها مـولد الشيخة سلمي كل عام
كان يعرض ألعابه وعرائسه ... زاغت عينى بحثا عن ابنته ... قال :
ـ ماتت ياولدى منذ سنوات . وتركت لك هذا القلب الخشبى
أهديته لها ذات يوم .. منقوشا فوقه اسمينا
سنون مرت من العمر وأنا بعيد عن السمارة
وكما دخلت وحيدا
خرجت من المولد أشد وحدة
*******
ـ ماذا تريد ياسيد يا ابن ست أبوها ؟
ـ حقى ياعمدة .. ألف جنيه ماينقصوش مليم أحمر
ـ وإيه رأيك فى الكلام ده يامحمود أفندى ؟
ـ وأنا موافق ياعمدة .. ألف جنيه وفوقهم بوسة .. وأنا آسف على غلطى فى سيد .
ـ وأنا متنازل عن حقى يامحمود أفندى
وتعانقا..
*******
حمل حقيبته عاقدا العزم على الهروب من السمارة إلى غير عودة
ـ حريقة يا أهل البلد
صرخة سمعها فى ميكرفون الجامع ..
خطوات
واستغاثات
وصرخات
أوانى
ومياه
ونساء
ورجال
نسى سفره وحقيبته واتجه مع أهل البلد لإطفاء الحريق وذاب وسطهم
*******
ـ الحقونا ياهوه
استغاثة شرخت سكون الليل الهادىء .. من كل مكان تجمع الناس .
ـ أراضينا شرقانه
ـ لكن ده دورنا فى الرى ؟
ـ ولو
ارتفعت الصرخات
احمرت الوجوه
شقت الفئوس طريقها فى الهواء
انفجر طوفان من الكلمات غير المميزة
المال ..الأرض .. العرض .. الموت
و.. اختلطت مياه الترعة باللون الأحمر
*******
فى مقهى البلد على المحطة تحلق كثيرون حول الفيديو لمشاهدة فيلم (ثقافى ) .. سحابة دخان كثيفة ملأت المكان ... زكمت الأنوف رائحة الحشيش ... جاء البيه ضابط المباحث فى العربة الزرقاء ... ألقى القبض على الجميع ... وظل الفيديو وحيدا
*******
بنات السمارة حلوين وطيبين ... وضحكتهم جميلة ... منذ أن دخلت الكهرباء بلدنا وامتلأت بالتلفزيونات ... وبنات بلدنا بقوا وحشين ... وضحكتهم اختفت
*******
قال أبى :
ـ تجمـعت عائلة البدراوى علينا بكاملها .. ضربونا .. وطردونا من بيوتنا .. لحظتها دعوت الله أن يرزقنى بعشرين ولد .. أربيهم ويكبروا ليثأروا لنا ..عندما جئتم للوجود نسيت ثأرى القديم . ودعوت الله أن يبعد عنكم كل مكروه .
*******
البت خضرة راحت للشيخة حسنة بعد دوخة على أهل الطب علشان الخلف ... الشيخة حسنة قالوا عنها أنها ست صالحة وفيها شىء لله ... الشيخة حسنة دخلت هى والبت خضرة غرفة ضلمة لزوم الحجاب ... بعد شهور ظهرت كرامات الشيخة حسنة وظهرت أعراض الحمل على خضرة ... وظهر كمان إن الشيخة حسنة راجل ومتخفى فى هدوم واحدة ست
*******
تردد اسمه طويلا فى عـالم الإجرام ... ليلة أمس فقط ذهبت لزيارته لكننى عدت بخفى حنين .. سألنى حفيده :
ـ هل رأيته ؟
قلت :
ـ مع الأسف لم يكن أحد بالداخل سوى عجوز هده الشلل والهرم
قال حزينا :
ـ ذلك ماتبقى من جدى
*******
ـ اصحوا يا أولاد .. الفجر أدن
كالقطط نستيقظ فى نشاط . فيوم شم النسيم لايجب التكاسل فيه
نسحب من أسفل الوسائد البصل الذى وضعناه ليلة أمس ... خلف هيكل جدتى نتحرك جميعا .. ماإن نصل للترعة حتى نخلع ملابسنا مثل جدتى ... نضحك من جلدها المترهل . وعروقها النافرة ... نلقى بما معنا من بصل فى الترعة ونحن نقول :
ـ يا بصله يابصلتى خدى كسلتى
ونقذف بأجسادنا خلف البصل ... ولانتردد فى ذلك وإلا أصابنا الوخم حتى العام القادم .
*******
ـ أضرب الرمل وأشوف البخت
خطوات وئيدة .. وجه مجعد ..طفلة فوق الصدر .. قفة فوق الرأس .. أسفل مقعدى تجلس ..
ـ ارمى بياضك
الأصداف على الأرض .. وخطوات متعرجة
سكة سفر ومخاطر وبنت حلال .. و .. تصمت .. تضطرب ... تجمع أصدافها وترحل وتتركنى حائرا غارقا فى ذهولى
*******
ـ استرها ياكريم .. عشان خاطرى يارب .. طب مش عشان خاطرى أنا .. عشان خاطر الأولاد الصغار اللى بيحبوها زى أمهم
أنظر إليه محاولا الاستفسار عما يحدث وأفشل فى مهمتى .. تقول أمه:
ـ سيكرمها المولى . قول إن شاءالله
ـ أصل الحبل السنة دى كان صعب عليها قوى
يخرج الطبيب .. يستقبله فى اضطراب
ـ خير يادكتور ؟
ـ مبروك .. جحش زى القمر .
يتركنى مكانى مبهوتا .. ويدخل ملهوفا ليطمئن على حمارته .
*******
التقينا بعد سنوات طويلة .. بحثت عن معانى السحر التى كانت تشدنى إليها فى الماضى ... وقعت عينى على فم واسع وشفاة غليظة وجسد منتفخ كالقربة .. وخمسة أطفال حولها يعبثون
ـ حمد الله على السلامة يا أحمد أفندى
قالتها دون أن تتعثر فى جلبابها الطويل كما كانت فى الماضى
ومضت من أمامى فى ثقة لم أعهدها فيها ذات يوم . بينما كان الخجل يعترى وجهى
*******
ـ هيه .. وماذا يقول شاعرك هذا يا أحمد أفندى ؟
ـ يقول :
هذه الكـعبـة كنا طـائفيها والمصلين صباحا ومساء
كم سجدنا وعبدنا الحسن فيها كيف بالله أصبحنا غرباء
ـ الله .. طيب وازاى المغفل ده يكون حاسس بالغربة وهـو فى حضن الكعبة ؟ هو حد يطول يروح هناك ؟
ـ لاياعم بيومى .. الشاعر يقصد بالكعبة الـ ..
و .. تركنى وامتدت يديه إلى صرة الطعام ... منها تناول بصلة .. على الأرض وضعها ... فى الهواء رفع يديه ... على البصلة أهوى ... تهشمت إلى قطع صغيرة ... يلقم منها قطعة كبيرة ... يزدرد خلفها كسرة خبز يابسة فى استمتاع غريب .. يرفع القلة على فمه الضخم . ويرشف منها المياه بصوت مسموع . ثم يتجشأ فى نشوى . فتزكم أنفى رائحة البصل ويتذكرنى أخيرا .. يلتفت ناحيتى قائلا وهو يمسح فمه بأكمام جلبابه المرتق :
ـ أيوه ياسيدى .. كنا بنقول إيه ؟
أبتلع رغما عنى كلمات لم أقلها وأنهض وأشق رحلة العودة إلى المنزل
*******
وسط المولد تلتقى نظرات حبلى بالأشواق .. بالحياة .. بالعشق الجميل .. وتختلط البراءة بالعقاب بسياط على الظهور الصغيرة التى لاتأبه بأى شىء ... وسط الذرة نلتقى أنا وأسماء ... فوق قدمى تلقى برأسها المتعب ... أحكى لها حدوتة الشاطر غريب وست الحسن والجمال
*******
السير على شاطىء الترعة عند العصارى له متعته الخاصة وسحره الذى لايقاوم ... تقع العين على أطفال يسبحون وسطها ... أصرخ فيهم محذرا من البلهارسيا والأمـراض متناسيا زمنا معى قد ولى ... وتتوه صورة أسماء بالشاطر غريب بست الحسن والجمال ... ويخرج الأطفال ريثما أمر بهم ثم رغم البول والدماء الغزيرة يعاودون القفز وسط الترعة
*******
كل شىء تم فى لمح البصر... صرخة قوية غطت على أصوات الزغاريد ... أعقبها انفراج الباب المغلق ... خرج العريس بعدها صارخا فى خيلاء :
ـ غسلت عارى
دخل الجميع لاستطلاع جلية الأمر ... كانت العروس ممددة جثة هامدة على السرير عارية تماما ... وعندما جاء الطبيب قال بعد فحصها موجها كلامه للعريس فى قرف :
ـ أيها الحمار .. غشاء البكارة سليم . فقد كان من النوع الغربالى
*******
عزم شقيقى على الانفصال عن العائلة .. بكته أمى طويلا ... وكنت رغم ذلك سعيدا فقد أضاف لمنزلنا منزل آخر ... وقالت أمى :
ـ كان منزل العائلة لايحتوى إلا على ثلاث غرف . ولم يكن به كهرباء أو تلفزيون .. وكنا نقطن أنا وأبوك فى غرفة .. وعمك وزوجته وولداه فى غرفة ثانية .. وفى الثالثة يقطن عمك الثانى مع زوجته .. أما جدك وجدتك فقد كانا يقيمان فى الصالة . وعندما كان يحضر لنا ضيوف كانت النساء تتجمع فى غرفة والرجال فى غرفة . وفى الغرفة الثالثة ينام الضيوف .. وكان منزل العائلة يمتلىء بالأرانب والعصافير والحمام
تصمت أمى وهى تنتحب .. أدقق النظر حولى ..
كل منا له منزله الخاص الذى يمتلىء بالأجهزة الكهربائية لكنه يخلو من العصافير والحمام .
*******
رباه ..
ماذا يحدث ؟
صورة القطار العملاق تأبى مفارقة مخيلتى ..
لونه أسود
من الضباب يخرج
الرأس التى تواجهه عنيدة .. تتمزق ألف رأس .. لاتأبه بألف قطار قادم .. تنزف دماء .. أحاول رغم كل شىء تمييزها .. لاأستطيع .. الوجه قريب من الذاكرة المجهدة . لكننى رغم ذلك مع الأسف لا أستطيع ..
*******
على عجل أرتدى ملابسى .. إلي مضيفة القرية أتجه لحضور الندوة الطبية التى دعانى إليها وكيل وزارة الصحة .. امتلأت المضيفة عن آخرها بمئات الفلاحين .. تطايرت من أفواه الأطباء عشرات المصطلحات الطبية .. المراهقة .. سن الخطر .. عقدة الكترا ..الانفصام .. وفرويد .. عندما انتهت الندوة لم يكن هناك سواى أنا فقط والأطباء والسيد وكيل وزارة الصحة .
*******
ـ أحمد يابنى .. اصحي شوف فيه إيه بره
خرجت من المنزل رغم سواد الليل والبرودة والمطر ... اتجهت الى مصدر نباح الكلاب ... عشرات من الأهالى يتحلقون حول قطعة لحم عارية ... الحبل السرى والدماء تؤكد أن الطفل خرج للحياة قريبا ... واريناه التراب ... وعاد كل منا إلي منزله وهو يحمل شرخا فى الصدر عميقا .
*******
جدتى الحبيبة ذات المائة عام والفم المثرم تحتفل بعيد ميلادها اليوم ..
تحدثنا معها عن أطفال الأنابيب ... والفيديو ... والإنترنت ... والكوكاكولا ... وعصرنا المتقدم عن عصرهم السحيق .. ضحكت فى ثقة لاأعرف مصدرها وهى تقول :
ـ ولو ..
*******
صداع حاد يحتل مقدمة الرأس .. ورعشة شديدة تنتاب الجسد المرهق .. والقطار الأسود .. والضباب .. والوجه ذو الملامح الغائبة عن الذاكرة .. يبدو أنها هلوسات الحمى .. لذا لن أتمكن من مواصلة الكتابة اليوم .
*******
ـ ياأهالى السمارة .. السيد أبو مندور فى مستشفى المقاطعة ومحتاج كيس دم .. اللى عايز يتبرع له . العربية واقفة على المحطة رايحه المستشفى دلوقتى
وبعد دقائق كانت هناك ثلاث عربات فى طريقها إلي مستشفى المقاطعة .
*******
مات عبد الحميد المجذوب .. استراح أخيرا من متاعبه .. قطعة من طفولتى كان .. ما ان نراه قادما من نهاية الشارع بملابسه المرتقة المتسخة وطربوشه الأحمر . وأعلامه المزركشة وسبحته التى تلتف حول عنقه . حتى نهرع إليه ونكيل له عشرات الألفاظ والطوب .. ويستقبلنا بما معه من حلوى وثمار يخرجها من أسفل ملابسه .. فنلتف حوله كالفئران ونلتهم مامعه .. يضحك وهو يربت على الرؤوس الصغيرة .. نعود إلي منازلنا ونتركه فى الشارع وحيدا ..
غيرتنا السنون وهو رغم الزمن لم يتغير .
*******
عزيزتى أسماء ..
هذه الرسائل التى تصلك منى كتبتها إليك . وبعضها وصلنى من أصدقاء . جزء من واقع أعيشه بين جدران المعتقل ..
*******
لا أذكر كيف كانت البداية
فقط أقدام ثقيلة
وبنادق ثم زنزانة
و ..
ـ معذرة يا أحمد بيه .. هؤلاء الأوباش ضلوا العنوان الصحيح لشخص آخر
ثم وهم يقدمون لى بعض الأوراق :
ـ وقع هنا يارجل ليتسنى لك العودة سريعا إلي منزلك
وأقرأ ..
" أنا الموقع أدناه ..
أعترف بالتهم الموجهة لى ..
حيث إنه ..
مقالات ..
تحقيقات ..
منشورات .. تمس أمن الدولة ..
قلب نظام الحكم ...... "
ياخبر أسود ..
ماهذا الهراء ؟
لكمة قوية
وظلام دامس ..
*******
أحاول يا أسماء تذكر ماحدث .. لا أستطيع .. عقلى مجهد .. وجهى متورم. بعضى يأكل بعض .. والليالى الحالكة .. والزنزانة الرطبة .. والجوع .. والأمراض .. الرؤية أمامى مهتزة .. أتحسس وجهى .. يمتلىء بالهضاب العالية والمنخفضات الداكنة .. والدماء الجافة .. ورغم كل الأوجاع .. إلا أننى رغما عنى أفشل فى إزاحة هذا الكابوس المخيف عن ذهنى ويهاجمنى رغم كل مابى .. القطار مخيف ياعمرى .. والوجه قريب إلي النفس .. لكننى لاأعرف لمن هذه الملامح والسمات التى تعلوه .. ولماذا لا أرى سوى هذا الرأس الواقف أمامه فى عنفوان وإصرار ؟ .. وتتحطم إلي ألف ألف رأس .. كل منها رغم الدماء والألم .. تتحدى ألف ألف قطار قادم من بعيد .. أسود .. عملاق .. يخرج من بين الغيوم .. ووجه أبى من وسطها يخرج قائلا :
ـ حذرتك من التمادى فى هذا الطريق ياولدى
والسياط تكوى الجسد الواهن .. وأنا .. .. أنا يا أسماء أفنى عن آخرى . ولايبقى منى سوى ذلك الوجع المتربع فى الأعماق .
*******
عزيزى / ......
شممت فى رسالتك الأخيرة ـ والتى وصلتنى مهترئة ـ ( لا شك إمعانا فى إخفائها بعيدا عن عيون إدارة السجن ) رائحة غير طبيعية ..
احترس ياولدى ولاداعى لأن تكفر بالوطن ... وحاول أن تسأل نفسك وسط هذا السواد الذى تعيشه : من الذى يقدم لك وجبات الطعام السرية ؟ ... من الذى يمنحك الماء ليلا حتى لاتموت عطشا ؟
ومن الذى يقوم بتهريب الدواء إليك ؟ ... تأكد إن الله أبدا لن يتخلى عنك .. وسيخرج حتما الفجر من رحم الظلام .. مهما كانت شدة سواد الليل .. إنها ليست كلماتى أنا بل هى كلماتك التى جاءت فى إحدى قصصك التى كتبتها بعنوان " من أوراق الصغير حنظلة " والتى نجحت فى تهريبها عبر أصدقاء يندسون داخل السجن الذى تقبع فيه ونشرناها لك وقرأها ملايين من القراء ... هل تذكرها أيها الأديب العزيز ؟ دعنى أعيد كتابتها لك حتى لاتغيب عنك أضواء فجرك القادم من بعيد :
*******
إهداء :
إلي ناجى العلى وكل الذين ينتظرون ـ مع الصغير حنظلة ـ إشراقة الفجر القادم من رحم الليل .
قصاصة أولى :
يتهموننى دوما بالجنون لأننى أنتظرك .. فمتى تعود ياصاحبى ؟
فى السجن :
تغلق الأذن عن كلماتهم وأصواتهم المشوهة
ـ لقد مات .... قتلناه ولن يعود
تموت خوفا وقلقا .. تغمض العين المتعبة داعيا الله أن يكون ماسمعته منهم مجرد كابوس ستفيق منه بعد قليل .. تصيخ السمع لترنيمة قادمة من الأفق البعيد .
" اهدأ قليلا ياصغيرى فالفجر سيولد ذات يوم ويخرج من رحم الليل رغم كل أسوار السجون.... "
قصاصة ثانية :
ستعود حتما ياصاحبى ؟ وعندها سترسمنى بفرشاتك فوق كل الأوراق .. ونعبر معا كل الأسوار .. ونعود إلي الوطن الذى نشمه مع كل إطلالة فجرجديد .
ذكريات :
وسألته ذات يوم :
ـ متى يرى الناس وجهى ؟
وأجابك لحظتها :
ـ عندما يأتى فجرنا القادم
ـ ومتى يأتى هذا الفجر القادم ؟
ـ يوم يعود الوطن إلي كل الغرباء مثلنا
ولمحت بين الأحداق دموعا وكلمات كثيرة ومرارة عالقة فى سقف الحلق .. وترك فرشاته جانبا وجلس متفكرا . فصرخت فيه محذرا :
ـ ويحك .. استكمل رسم يدى .
سكة سفر :
الرصاص
القنابل
المخابىء
الحصار
الجثث
الدخان
الخيانة والهزيمة العربية
والانكسار
وضياع كل الأوطان
وقالت ضاربة الودع :
ـ سكة سفر .. وغيم أسود .. وأطفال .. ومقاليع .. وحجارة
لحظتها توسلت إليه أن يبقى .. لكنه ربت على رأسك الحليق وقال :
ـ إنه القدر ياصغيرى ولا مفر
وسألته باكيا :
ـ ومن سيرسمنى بعدك ؟
ـ سيرسمك ذلك القادم ذات يوم مع الفجر البعيد
وصاحوا فيك ساخرين :
ـ قتلناه ولن يعود
فتصرخ فيهم متحديا :
ـ وبرغم ذلك سأنتظر إشراقة الفجر القادم
قصاصة ثالثة :
وبرغم السياط .. والأسوار .. والأشواك .. وليل السجون .. ستعود حتما ياصاحبى .. وستجدنى طفلا كما تركتنى ينتظر فرشاتك الملائكية
وتنفخ فى جسدى من روحك لأنمو .. وأكبر
انتظار :
فوق الجسد الصغير تتحسس آثار سياطهم .. تحدق النظر فى السماء من خلف القضبان .. يصدمك الليل الأسود ومئات الغربان .. تسمع رغمها ترنيمة هاربة من خلف الأسوار . قادمة إلي مسامعك .. ..
" نم قريرا ياصغيرى .. فالفجر البعيد .. لم يعد بعيدا .. "
فتنام بعد سنوات العذاب والانتظار قريرا . منتظرا إشراقة الفجر القريب
(16)
تنفض عن الذاكرة سنوات الزمن الضائع .. للحظات تعود للحاضر ثم تغيب فى سنوات الغربة
ومن بلاد الغربة عدت محملا بأوجاع تنوء بحملها ..
وانتظر الأصدقاء فتح الحقائب المكدسة بالهدايا والمفاجآت .. وحققت لهم ما أرادوا .. ووحيدا بعد أن استأذنتهم متعللا بإرهاق السفر انتحيت جانبا فى أحد أركان غرفتك التى رفضت أمك فتحها لأحد أثناء سفرك ..
وجلست وتقيأت فوق أوراقك أحزانا لايعرفها أحد سواك ..
ولن تقولها أبدا لأحد .. فقط كتبتها فى قصتك "رحلة السندباد الأخيرة "
..........
ـ هنا يا أسطى لو سمحت
على مشارف القرية تتوقف السيارة .. يحدق السائق فى المرآة الأماميه مليا .. يرمقه بنظرة مليئة بمعانى الدهشة .. من المقعد الخلفى ينزلق الراكب على الأرض
تلتهم العين كل ماتقع عليه
الليل أسود
المنازل تغلفها كتل ضبابية
من بعيد يأتى صوت الكلاب
والبحر يجرى لم يتوقف للحظة رغم البعاد والوجع والحزن الدفين فى الأعماق .. والقلب يدق بعنف .. يفيق من غفلته على صوت السائق ..
يدس يديه داخل حقيبته الصغيرة .. يخرجها ببعض النقود ويمدها إليه .. يقلبها السائق فى سخرية قائلا :
ـ والدخان يامحترم ؟
يؤكد له أنهما لم يتفقا إلا على هذا المبلغ وأن الـ .....
يعاود السائق ضحكاته الساخرة ملوحا للحقائب المنتفخة من حوله :
ـ يظهر انك كنت مسافر من زمان ؟
يلتفت إلي السائق مستفهما
ـ ياسعادة البيه كل حاجة بقت نار .. وانت ماشاء الله .. اللهم لا حسد يعنى
تندس اليد المرتعشة مرة أخرى إلي الحقيبة الصغيرة هامسا
" حتى أنت يابروتاس ؟ " ..
بعد قليل تخلفه السيارة فى قلب الظلام . متلفتا حوله . متحسسا طريقه فى وجل . لايدرى ماهو السبب الذى دفعه للتوقف فى هذا المكان بالذات رغم الحقائب الثقيلة والمسافة الطويلة التى تفصل بينه وبين المنزل ؟ أسفل ابطه يضع الحقيبة الصغيرة . بين يديه وفوق كتفيه يحمل حقائبه الأخرى ... لأيام قادمة سوف يصير حديثا لأهل القرية ومصدرا لحسدهم وهو يوزع عليهم السجائر المارلبورو .. والابتسامات العريضة التى تحمل غموض الرحلة ومتعتها . ولياليها الحمراء .. سوف يجبرونه على الاعتراف بمغامراته مع نساء ( بلاد برة) .. وإذا حاول مجرد محاولة أن يؤكد لهم أنه لم …. فإنهم سوف يصدونه ويقرصونه فى جنبه وهم يغمزون ويتلامزون فى سخرية . ويتوسلون له أن يحكى . ويؤكدون له أن سره فى بير .. فيضطر إلي اختراع حكايات تروى جوعهم وعطشهم وحرمانهم .. ولن تمتد يد أحدهم إلي كتفيه لتمزق ماعليها من ملابس لتبصر جراحه التى لاتزال متقيحة من حمل جوالات الأسمنت والحديد والطوب ... ولن تنغرس عيونهم وأفكارهم فى صدره لتستكشف أوجاعه المدفونه فى الأعماق
فقط مغامراته
ولياليه الحمراء
وحقائبه المكدسة بالهدايا
وملابسه الأنيقة
ونظارته المذهبة
وجوز الطيب
والميرمية
وكافة الأعشاب المقوية للجنس
ـ مين هناك ؟
صرخة شقت سكون الليل .. أتى بعدها خفير القرية حاملا بندقيته الخشبية فوق كتفه اليسرى .. وعندما وصل إلي حيث يقف . حدق فى وجه القادم صائحا :
ـ مين ؟ .. سعادة البيه ؟ .. يا ألف ليله بيضة يا أولاد ..
تلتقى الأحضان .. وتطرقع القبلات فى الهواء .. وتتقافز كلمات التحية والأشواق . والعين النهمة تختلسان النظر إلي الحقائب المنتفخة .. فتندس الأصابع إلي جيب إحداها لتخرج علبة سجائر يلقى بها إلي الخفير الذى يتلقاها وهو يقلبها غير مصدق :
ـ وسجائر أجنبية كمان ؟ .. دى بلاد برة حلوة قوى
هه ! ..
حلوة ؟
"ـ اذهب ياهذا وتسول فى بلدك
كان يمسح عن الوجه كل يوم آلاف الشتائم
ـ أى أجر تريده أيها المصرى بعدما قدمته لك من طعام ؟
ويدور فى الشوارع حائرا .. "
واستأذنه الخفير للاطمئنان على الأمن فى القرية ..
وفى بلاد برة لم يشعر بالأمان أسفل شمس الظهيرة ..
وفى ليل قريته الأسود يشعر بكل الأمان
ـ الحقنى يابيه
من بين ظلام الليل خرجت منكوشة الشعر .. لطخت الأصباغ كل وجهها .. الذعر بين الأحداق يبدو واضحا .. الأنفاس محترقة .. خوف .. وقلق وتوتر ونظرات مرتعدة من قادم مجهول .. اختفت خلف ظهره .. أحاطته بذراعيها صارخة :
ـ أنا فى عرضك يابيه
والعرض هناك . كان مثل الطول .. والليل كان طويلا ..
ـ أنا بريئة .. والله العظيم بريئة
والبراءة كانت هناك لاتعنى مجرد الاعتذار لابن البلد الذى هو صاحب الحق دوما .. بل يجب أن يصاحبها استسلام لرغبته وقرار بالترحيل فورا ومغادرة البلاد . بعد التنازل عن كل المستحقات ..
ـ احمينى الله يخليك
وقبل أن يلتفت إليها مستفسرا عما حدث اخترق سواد الليل شبحان عريضان .. يقبضان على بنادق أشد غلظة .. يتطاير من عينيهما شررا يعرفه جيدا .. ويحسه .. و .. قصدوها دون أن يتفوها بأية كلمة .. وسحبوها مثل الذبيحة إلي السواد والمجهول
ـ فى عرضك يابيه .. احمينى
ولم يستطع حماية نفسه عندما انهالوا عليه ركلا لأنه تجرأ وطالب بحقه وحق بقية العمال المصريين هناك .. وعندما دق باب السفارة المصرية هو ومن معه قالوا لهم ..
ـ غدا أو بعد غد ينتهى السفير من إعداد مراسم حفل أعده بمناسبة مرور عشر سنوات على بدء تطبيع العلاقات بين هذا البلد العربى ومصر ..
وعاد الخفير يشق الظلام بصوته الجهورى .. وسأله :
ـ مروا من هنا ولاشك ؟
ولم ينتظر الإجابة بل عاد يقول :
ـ كانت الليلة دخلتها .. العريس وجدها اللهم احفظنا واستر على ولايانا
شعر بغصة تملأ الحلق اليابس
المنازل بالمسلح
الفيديو فى المقاهى والمنازل
والدش
والخبز من الفرن الأفرنجى
والسهرة الصباحى حول الأفلام الممنوعة
و .. هو كان ممنوعا من دخول الصحف فى بلاد برة
ـ حتى الصحف تريدون احتلالها ؟
وقال له رئيس التحرير :
ـ كتاباتك صدقنى جيدة .. ونحن فى أمس الحاجه إليها .. لكن ما باليد حيلة
وعندما استفسر عن السبب أجابه :
ـ إنها أوامر عليا
ويتساءل :
ـ والإعلام الذى ينشد لروح الترابط والإخوة بين البلدين ؟
وضحك الرجل وقال فى ألم :
ـ لازلت صغيرا ياولدى وستفهم الواقع ذات يوم
ويخرج فى ذهول ......
ـ أنا بريئة .. والله العظيم بريئة
سيقتلونها الليلة .. والوفاة فى تقرير طبيب الوحدة الصحية ستكون طبيعية ... أما العمدة كتر خيره فلن يقوم بإبلاغ المركز فهو أيضا مقتنع بأن العار لايمحوه إلا الدم ... وكانت الدماء تنزف من كتفيه وهو يحمل فوقها الطوب والأسمنت ... وكانت الملابس متسخة والشوارب واللحى كثة ... والعيون غائرة ... والعروق من شدة الإرهاق والجوع نافرة ... ومع عشرة آخرين كان يقيم فى غرفة واحدة ... ودخان الجوزة والسجائر والأنفاس المحترقة ... والنوافذ مغلقة خشية هجوم الشرطة عليهم
والجوع
والعرق
والمرض
والليالى السوداء
والذكريات التى تأبى مفارقة مخيلته
ـ ابنتى لن تتزوج إلا ممن يسعدها
والسعادة هى الغرفة البلاكار .. والانتريه المودرن .. والسفرة .. والثلاجة .. والفيديو .. و .. سافر ..
وتزوجت هى من شخص يسعدها بما حمله لها من هدايا وعطايا
يمسح دموعا ملتهبة حفرت طريقها فوق الخد الساخن .. يشق شوارع القرية .. يتوجه إلي منزله .. يدق القلب فى عنف مع دقاته على الباب .. يطالعه وجه أمه من خلفه
ـ ابنى
تحتضنه بقوة
تذوب ملامحه بين ذراعيها
تختلط الكلمات بالنحيب بالقبلات
يتخلص من يديها برفق
يفتح حقيبته الصغيرة
يخرج منها عشرات الدولارات
يلقيها على الأرض بقرف
يخرج جواز السفر
يمسكه فى ضيق
يمزقه بإصرار
وبينما أخذت الأوراق تتساقط من حوله
غرس رأسه فى صدر أمه وأجهش بالبكاء
(17)
وقبل أن تنتهى من قراءة أوراقك ويومياتك وقصصك ورسائل هدتها ليالى السفر والترحال يطالعك وجه عادل رياض كالشبح من قلب الظلمة راسما فوق شفتيه ابتسامة شيطانية ذات مغزى لم تسترح إليها .. تنقضى اللحظات عقارب مسمومة فى نهايتها كان لابد من الانصياع لرغبة كان يخطط لها عندما علم بوصولك للسمارة .. يصاحبك شعور بالخزى . كأنك امرأة اغتصبوها على مرأى ومسمع من الجميع ......
(18)
حولك وحول عادل رياض يلتف الأهالى غير مصدقين .... تصدمك مئات الهتافات
وحبيبكم مين .. عادل بيه
أهلا .. أهلا عادل بيه
يا أهلى وعشيرتى أبناء قرية السمارة
أعدكم بعد نجاحى فى الانتخابات أن ...
وسوف ......
تصفيق
هتافات
أغانى ..
وتراتيل
ياأبو العلمين مدد
يارئيسة الديوان مدد
وسوف أشيد لكم خمسة مساجد دفعة واحدة
" ........ أيها الوغد إذا كنت لاتعرف الصلاة ولم ترتاد مسجدا طيلة عمرك فكيف ؟ .. "
آلاف العيون تخترق جلدك ..
يتفصد العرق غزيرا .
تشعر بالذوبان والتلاشى .. سامحينى يا أسماء فالتيار كان هذه المرة عنيفا
ـ أرجوك يابنى اذهب معه إنه وحش وبإمكانه تنفيذ تهديده ضدك
تحاول أن تعترض .. تصرخ فيك أمك :
ـ سيرك مع عادل رياض الليلة فى حملته الانتخابية لن يضيرك كثيرا
ـ والناس يا أمى ؟ .. وضميرى ؟
ـ سيعرف الناس الحقيقة ذات يوم . فقط أرجوك اذهب الآن معه . حتى لايلفق لك تهمة قتل أسماء خاصة وأنه أطلعك على صور ورسائل خاصة بكما معا . وشريط مسجل عليه أسرار لم يعرفها أحد من قبل .. ويعرف أيضا أنك ..
تغلق أذنيك حتى لاتسمع بقية حديث أمك
رباه كيف تتحول المشاعر . وأسرارنا الخاصة إلى تجارة تخضع للمساومات ؟
أى زمن نعيشه ياربى ؟
وأى ألم يقبع مستكينا فى الأعماق ؟
وأنا يا أسماء وحيدا رغم مئات الناس والزحام والطريق .. ولا أعرف لمن هذا الوجه الذى يرتسم فى مقدمة هذا الرأس الذى يقف فى مواجهة هذا القطار .. ؟
لا أعرف صدقينى وأحاول
..........
أحاول يا أسماء ...
.........
أحاول
..........
" طاخ "
ياساتر يارب
فيه إيه ؟
ماذاحدث ؟
خطوات ..
زحام ..
كتل بشرية هائمة على وجهها
يا الله مابالهم هكذا يندفعون ؟
وما بال هذا الجسد ملتهبا
ـ أحمد أفندى
ـ أحمد يابنى
ـ إسعاف يا إخوانا الجدع بيموت ..
ـ استرها يارب
ـ الست أسماء وأحمد أفندى فى ليلة المولد ؟
ـ إيه اللى بيحصل للسمارة ياعالم ؟
ـ حرام والله العظيم
" ..... أنت ورم خبيث يجب أن نخلص الناس منه
.......... وكانت المظاهرات مدوية
مين ياناس ياكلها مين . دى اللحمه بمية وتسعين
واللحمة اليوم غالية إلا لحم البشر ولا أحد يستطيع الاعتراض
يا إلهى نمل يزحف فوق الصدر
والقطار الأسود أراه لأول مرة وأنا مستيقظ
قادما وسط الزحام والناس
يندفع ولاتستطيع الكتل البشرية أن تصده
يتجه نحو هدفا يعرفه ..
والرأس عنيدة ..
والوجه يا أسماء أحاول تمييزه ..
وأنا متعب وأشعر بالإرهاق ..
ووجه عادل رياض يقف وسط الدائرة التى تحيط بهذا الجسد المسجى
أسماء يارب السموات هذه أنت أخيرا ..
لماذا خدعنى الجميع وقالوا أنك ..
حمدا لله أن الأمر كان بمثابة خدعة ولم يكن حقيقه ..
آه يجب أن أنهض الآن فلدى أشياء كثيرة أود أن أسر بها إليك .
وهذه المرة لن يتمكن عادل رياض من رصد كل ما أود قوله لك
ـ الإسعاف اتأخر ياعالم والجدع يهذى
وكنا نحلم يا أسماء بمنزل صغير يأوينا معا .
وأطفال .
وصفصافة شامخة لاتأبه بالعواصف ..
والحلم رغم بساطته كان بعيدا ..
لكن هاأنذا ألمس السماء بيدى .. والجميع لايعرفون أن الإسعاف لابد أن يتأخر ليتم كل شىء كما تم التخطيط له ..
لكننى سأكشف كل شىء
و ..
رباه لماذا تنحبس الكلمات فى فمى هكذا ؟
و ..
ياالله .. الجسد يخفت رويدا
أسماء إننى ..
إننى أموت
..........
ـ سترحل إذن ياشاطر غريب ؟
ـ وهل يملك مثلى غير الرحيل بديل ؟
ـ خبرنى بربك متى ستكف عن الرحيل ؟
ـ عندما يكفون عن مطاردتى فوق الأوراق .. وعن تفتيش عقلى عن حلم هارب من سياطهم
..........
هزمونا يا أسماء
قتلونا فى ليلة واحدة
والقطار أسود عملاق
والرأس فى المواجهة
والرصاصة استقرت فى الصدر
والوجه الذى يرتسم فى مقدمة هذا الرأس أشعر بأننى أعرفه
وأنا متعب
والرحلة كانت قاسية
والدائرة من حولى تكبر
وصرخات أمى تأتينى من بعيد :
ـ قتلوك يا أحمد .. قتلوك ياكبد أمك
والسماء تقترب
والرأس ينشطر أسفل عجلات القطار لألف ألف رأس
وكل منها يقف فى مواجهة قطار آخر
كل منها لها وجه
الوجه أشعر بأننى أعرفه
نعم أعرفه
هذا الوجه له نفس عينى
له نفس أنفى
وفمى
هذا الوجه يا أسماء وجهى
والرأس أيضا رأسى
رباه هل كان يجب أن أدفع عمرى ثمنا لاكتشاف هذه الحقيقة
وأنا وسط هذا المولد ؟
إنتهت
إضافة تعليق جديد