قلة من الناس، ربما هي التي تتابع القاموس الجديد للشباب الذي يولد من رحم
الأجهزة التكنولوجية الحديثة، فالكلام العربي حين يدخل المحمول أو الكومبيوتر أو
حين يطلع على الشاشات التلفزيونية، يكتسب خصائص جديدة، لم تكن له من قبل،
فالانقلابات جذرية تطال المفردات والتراكيب، لكنها تطال قبل هذا وذاك الذهنية بشكل
خاص. العربية تتغير وهذا طبيعي، لكن مجمع اللغة يتفرج، وأحد لا يستطيع أن يتخيل أو
حتى يحاول ان يفهم الى أين نحن ذاهبون، في ظل وافد يكاد يبتلعنا، في ما مستوى
المعرفة باللغة العربية ينحدر صوب هاوية سحيقة. فأي لغة نتكلم ونكتب، ومن يقعّد
ويراقب ويجتهد، ولماذا استقال اللغويون من مهماتهم؟
لم يعد غريبا ولا من باب التظارف، عندما يتعثر فهمك لأفكار محدثك، أن ينبهك
محذرا: «خليك اون لاين». كذلك وصف المستمع السلبي في جلسة عامة بأنه «خارج نطاق
التغطية»، أو «خطه مفصول حالياً»! وربما ستكتفي بابتسامة عابرة، إذا وصلتك رسالة
عبر المحمول: «ما تحن علينا يا بيه، مديها طناش ليه؟ ما تخفف علينا الكانسل، وكتر
من اوكيه».
غزت مفردات لغة الوسائل الرقمية، من الكومبيوتر والهاتف المحمول، اللغة المحكية،
وبالأخص بين الشباب، كونهم الشريحة الأكثر استخداماً لها.
وما بين الجد والهزل، تكاد تكون عبارة التغزل «بحبك تكوني كمبيوتر وكون أنا
الكيبورد والحروف»، تعبيراً بليغاً عن المكانة التي تحتلها التقنيات الحديثة في
حياتنا المعاصرة، لتتجسد بوضوح في خطاب يومي، انتقل بدوره من إطار المشافهة إلى
الحيز الكتابي عبر المحمول والانترنت.
كما انعكس تنامي هذه الوسائل على انتشار لغة مستحدثة، ولم يعد وفود المصطلحات
والمفردات على اللغة المحلية محصوراً بالكلمات التي لا مقابل لها. فكلمة رسالة
تستبدل بكلمة «مسج»، وتخضع للاشتقاق بالعربية، فيقال «مسّجلي» بالتشديد، بدل «أرسل
إلي»، وكأن يكتب أحدهم متحدياً «هلق رح تشوفو التمسيج»، وهي واحدة من مئات الرسائل
تبث على قنوات للأغاني، توفر خدمة الرسائل القصيرة، ويتحدى صاحبها باقي المشاهدين
بقدرته على كتابة وإرسال الرسائل إلى القناة. ما يفد على لغتنا لم يعد مجرد مفردات
متناثرة، بل قاموس حجمه آخذ بالتزايد، وقد لا يطول الزمن حتى يتحفنا بقواميس رديفة
تشرح مفرداته على هذا النحو: كلمة «مسج، اسم بتسكين السين، وجمعها مسيجات، والفعل
منها مسّج بتشديد السين؛ مضارعه يمسج، تمسيجاً...».
طبعاً هذه التنبؤات، ليست محض خيال لغوي من وحي لغة عابرة تعبر عن طيش العصر
وكسله فقط، وإنما نتائج متوقعة، لمقدمات باتت واقعاً مقروءاً ومسموعاً، ومكتوباً
أيضاً، حين ينكفئ دور مجامع اللغة العربية، وتعجز عن ردم بعض من الفجوة اللغوية بين
العربية ولغة التطور الرقمي المتفجر في العالم. الكارثة أن اللغة الهجينة تتكرس في
المحكي اليومي عبر أكثر الوسائل الإعلامية جماهيرية، في التلفزيون والانترنت
والهاتف المحمول، فحتى اللغة العربية المبسطة المعتمدة في الصحافة، راحت تتراجع
أمام المد العاصف للغة تدرج على الأثير، ليس جراء اتساع رقعة مستخدمي تلك الوسائل،
مع عدم استبعاد هذا العامل، لكن بالدرجة الأولى بسبب تهافت تعليم اللغة العربية في
المدارس العربية عموماً من المحيط إلى الخليج. بينما لو أن الشباب العرب أمسكوا
بشيء من ناصية الفصحى المبسطة، لما احتاجوا إلى ابتكار تلك اللغة العجيبة، بل على
العكس ربما كانت وسائل الاتصال، لتتحول مساحة لتكريس العربية كإحدى أهم الروابط
الجامعة للعرب.
لكن تعليم اللغة العربية شهد تراجعاً مخيفاً، من الصعب إيجاد تفسير منطقي له،
سوى الانحطاط العام المهيمن بالتزامن مع فورة المعلوماتية، وعودة الاستعمار بصيغته
القديمة إلى منطقتنا. مع عودة الاحتلال الأميركي المباشر للعراق، وغير المباشر
لكامل الرقعة العربية، والذي بدوره أعاد معه من جملة ما أعاد الهويات الضيقة، وما
ارتبط بها من عشائرية وطائفية وعائلية، وبتعبير آخر، المناطقية داخل البلد الواحد،
كل ذلك سيجد تعبيراته في اللغة، فتغدو «الضاد» «داد»، أو «الثاء» «ساء»، و«الجيم»
«ييم»، و«القاف» «كاف» أو «جاف»..
إلخ من ألفاظ مغرقة في محليتها تخرج من المسلسلات الدرامية والبرامج الترفيهية
والإعلانات، لتصبح لغة التخاطب المستعملة في الانترنت والمحمول، وتتسلل حتى إلى لغة
التبويب والتصنيف والإرشادات؛ فمثلاً ثمة مواقع لا تتردد في عنونة أقسامها على
النحو التالي: (فيك تبعت موضوع جديد بهال القسم / فيك اترد على المواضيع تبع هادا
القسم / بس ما فيك إتعدل المواضيع الي انتا كاتبها بهادا القسم / بس ما فيك تحط
تصويت بهادا القسم /ما فيك ترفق «اتحمل» ملفات بهذا القسم) ألا يبدو غريباً استخدام
مفردة بالعامية ونظيرتها بالفصحى معاً، كي تشرح الواحدة الأخرى، مثل هادا وهذا، من
دون أي حرج؟!
كيف يمكن فهم هذا الخلط بعيداً عن فكرة العبث باللغة وتحطيم الحامل الثقافي
للعروبة، كرد فعل انتقامي على الذين صادروا مستقبل مجتمعاتهم باسم هذه العروبة، في
مساع تأتي بالتعاضد مع إهمال العناية باللغة العربية الفصيحة، على المستوى
الجماهيري، لتبقى اللغة الفصحى هي لغة الأدب والثقافة، المحصورة ضمن دفتي الكتاب
الثقافي المطبوع والمحدود الانتشار؟!
ولا بد أن يستوقفنا قول فتى في مقتبل العمر لوالده المثقف، عن متحاورين في برنامج
ثقافي لا يفهم ما يقولانه: «إنهما يتحدثان مثلك». لا يخلو هذا الوصف من دلالة قوية
على اتساع الهوة بين لغة الأجيال الناشئة، ولغة جيل الآباء، ممن تربوا على احترام
سلامة لغة هي جزء من كينونتهم القومية والثقافية.
وكما أن الأبناء لا يفهمون لغة الآباء، فإن على الآباء بذل مزيد من الجهد لفهم
لغة الأبناء، أو بمعنى آخر لغات «جيل الديجتال»، لمواكبة سرعة العصر في ابتكار لغة
جديدة تدعى «الأرابيش» الناجمة عن دمج العربية مع الانكليزية من Arabic و English،
وهي كتابة العربية بأحرف لاتينية. جاء هذا الابتكار مع بداية انتشار الانترنت، حيث
وجد المغتربون العرب صعوبة في التواصل مع أهلهم وأصدقائهم في البلاد العربية، لعدم
معرفة معظمهم باللغة الإنكليزية من جانب، ومن حانب آخر، وهو الأهم، لعدم توفر برامج
دعم اللغة العربية في بلاد الاغتراب، فكان أن بدأت كتابة العربية بأحرف لاتينية، ثم
راحت تظهر صعوبة في إيجاد نظير للعديد من الحروف العربية التي استعيض عنها بأرقام
تشبهها من حيث الشكل، مثلاً: 2 = ء /3 = ع / 5 = خ / 7 = هاء + ح / 6 = ط + ت / 9 =
ص.
فنقرأ رسالة من مغترب سوري قلق على حال بلده
oly shu hal al 5abryat 5eerbi faza3toni ana raj3a hal saif
oly ra7 tejeni jalta men 5aberyatkom al mo7zeni ...laken honalek doman amal
youneer darbi wa dareb jamee3 tafa2alo be al 5eer tajedonah وترجمة الرسالة لمن
لا يجيد هذه اللغة:
قلي شو هالخبريات خبرني، فزعتوني انا راجع هالصيف. قلي رح تجيني جلطة من خبرياتكم
المحزني. قل لكن هنالك دوماً أمل ينير دربي ودرب الجميع، تفاءلوا بالخير تجدوه. كما
استفادت لغة «الأرابيش» من الاختزال الذي مورس على اللغة الإنكليزية في كتابة
الرسائل القصيرة، والتي عادة تستخدم حرفا واحدا من الكلمة بالإضافة الى استبدال
الرقم بكلمة أو ضمير مثل ، لك = 4 فور، مثلاً ( mar7aba 4u aol)، وتعني: «اقول لك
مرحبا»، وهنا استخدم حرفu اختزالاً للضمير المخاطب بالإنكليزية you، وكذلك رقم 4،
مع «أقول» و«مرحبا» العربية بالأحرف اللاتينية.
بمعنى آخر لا نعرف ما القاعدة التي تحدد متى تستخدم العربية أو الإنكليزية، غير
تقصير الزمن الطويل اللازم لكتابة رسالة قصيرة، لتكون قصيرة فعلاً. حيال هذه اللغة
لا نملك إلا أن نشكر الله على أن سيبويه رحل عن دنيانا، قبل أن يكحل عينيه بهذه
اللغات المتشظية والمرقعة، وإلا لمات كمداً من عجزه عن فهم الأسباب التي تجعل أبناء
العرب يبطشون بلغتهم على هذا النحو المشين. لعل من أكثر المفارقات غرابة، لدى
مناقشة أحد مواقع الدردشة تأثير لغة «الأرابيش» على سلامة اللغة العربية، ما جاء في
رد إحدى المشاركات: «لا أعتقد أي لغة في العلام حتاثر ولو بشى بسيط على اللغه
العربيه لان لها مجدها والقراءن الكريم نزل بلغة العربيه»!!
فعلاً، لغة الارابيش لن تؤثر على اللغة العربية، والدليل أن هذه المشاركة، امتلأت
بالكلمات إياها، ولم تكتب حتى كلمة «القرآن» الكريم صحيحة، مع أنها اعتبرت أن مجد
العربية مستمد منه، وإنما أخطأت في كتابتها!! ولو بررنا تلك الأخطاء الجسيمة
بالسرعة التي يتطلبها التفاعل في الحوارات المكتوبة، كيف نبرر لخريجي جامعات
وصحافيين شباب، اكتظاظ نصوصهم بأخطاء أساسية لا يستهان بها، أهمها عدم التمييز بين
التاء المبسوطة والتاء المربوطة، أو استبدال حركات التشكيل بأحرف، وعلى سبيل المثال
تكتب كلمة «مقارنةً» على هذا النحو «مقارنتاً»، وكلمة «مُختلفةٌ» «موختلفتن»!! حيال
هذا النوع من الأخطاء، يصبح التساهل مع الأخطاء الشائعة أمراً نافلاً، والتعامل مع
الأخطاء الأخرى غير الشائعة نوعاً من الترف، فنمر مرور الكرام على استخدام كلمة
«استمريت»، بدل «استمررت»، وتعبير «مكبل بالحبال» بدل «مربوط بالحبال»، بل ان
التخبط في استخدام التعابير في غير مكانها، يكاد يصبح سمة العصر التي تنعكس
تلقائياً على اللغة. فنقرأ في مقال صحافي تعريف العنف بأنه: «كلمة كثيرة التراود
على الصعيد الدولي»، ولا ندري بالضبط لماذا استخدمت التراود، وليس
الترداد، والترديد. هذا ناهيك عن اعتماد صيغة اللغة المحكية في تدبيج المقالات
الصحافية، كأن يقال سافرت على حمص، بدلاً من سافرت إلى حمص، وهكذا دواليك.. من
تخبيص يعجز عتاة اللغويين عن إعادته إلى أصوله الصحيحة، لأن الأمر هنا يتجاوز
الترجمة إلى إعادة ترميم ما تخرب من اللغة، كي يصار الى فهمها. ولنقرأ مثلاً هذا
التساؤل الذي طرح في موقع إلكتروني تعليقاً على خبر حول إطلاق قناة تلفزيونية
جديدة:
«هل نستطيع الكلام بحرية على هزة القناة. بكره من زكر بعض.
على كلاً نتمنى لكم التوفيق». وهزة هنا ليست من هز يهزهز هزهزة، وإنما «هذه»،
وكذلك «من زكر» تعني «نذكر»، أما «على كلاً»، فهي (كلٍ). وبدورنا نقول على كل حال،
لا يحتاج مستخدمو الانترنت لمترجم أو لمرمم لتلك الخلطات والجلطات اللغوية المميتة،
بل ربما العكس تماماً بتنا بحاجة لأن يلم هذا الجيل ببعض من اللغة السليمة، على
سبيل حفظ النوع من الانقراض.
فإذا كان هذا حال هذا الجيل، فإن الأجيال اللاحقة مرشحة لتصبح اللغة العربية إحدى
منسياتها. ودونما مبالغة، المشكلة صعبة ومعقدة، ومرتبطة بالهوية العربية بالدرجة
الأولى، وبالدرجة الثانية، ربما وبالقوة ذاتها، مرتبطة بعقدة النقص تجاه الآخر
المتقدم الذي نحاول الالتحاق به، واستعارة لغته على نحو كسيح، كأن تهجين اللغة
المحلية مع لغة الآخر المتقدم تجعلنا على لائحة التقدم.
بينما هي في الحقيقة، عملية استلاب كامل تضع ما تحمله اللغة العربية من المخزون
الثقافي على شفير الهاوية، «لأن الأمر يتعلق بالدرجة الأولى بالاستسلام الكامل
(للآخر) الثقافي، وليس بالتبادل المعرفي المتوازن ولو بعض التوازن معه»، كما يراه
الشاعر شاكر لعيبي الذي أطلق صرخة استغاثة لإنقاذ اللغة العربية من التهافت على
شبكة الانترنت. وإذا سلّمنا بالسيرورة التاريخية لحركة تطور المجتمعات، فإن تطور
وحيوية اللغة العربية، لابد أن ينجما عن واقع قادر على إنتاج لغة تعبر عن ذاتها.
وأخيراً، لا بد من التوجه لمن لا يفهم لغتنا من جيل «الديجتال»، أن لسان الضاد
يستغيث قائلاً لكم بلغة المحمول: «يا مشمت دول ودول، يا مفرح العزال، اديتك الف رنه
اديني مس كول».
سعاد جروس
الشرق الاوسط