1
تنادي أم عمار على ابنها ناجي من شباك المطبخ المطل على زقاق مخيم يبنا في مدينة رفح جنوبي قطاع غزة:
ولك بيكفي لعب.. الله ينكبك يا بعيد. وكلمة ”ينكبك“ هي شتيمة فلسطينية منحوتة من النكبة.
ناجي بصوت مرتفع: طيب يمة هيني جاي.
ثم بينه وبين نفسه: حِلي عني يا شيخة خليني ألعب.
أمه: تعال يا إبن الكلب يا أصفر. والله غير اللعب في المجاري يموتك زي ما موت أخوك نضال.
ناجي ذو شعر أشقر وعينان خضراوان وبشرة صفراء. ولو أتيح له التخلي عن ملابسه المرقعة المهلهلة -التي يغيرها كل أسبوع مرة تقريبا- لكان مثل "الأجانب هالمعرّص"، كما كان يحلو لجدته التسعينية وصفه على الدوام.
لكن ما وراء صفرة وجهه يختبئ مرض فتك من قبل بأخيه نضال. إذ كان الأخير مغرما بالمشي في قنوات مجاري المخيم المفتوحة على مصراعيها، ويسير مع تعرجاتها التي تأخذ في زيارة لاستكشاف المخيمات المجاورة.
وقنوات المجاري هذه هي من صنع الأونروا (والأونروا هي الرديف السياسي الدولي الذي ابتدعته الأمم المتحدة للنكبة)، وقد أقيمت على عجل على سطح أرضية المخيم، حين بدا للأونروا أن العودة لن تكون قريبة.
ويمتد المجرى على أحد جوانب زقاق المخيم، ويلاصق تحديدا حافة الجدران الخارجية لبيوت المخيم. بدأ هذا النوع من المجاري يظهر في بعض المخيمات بعد سنوات من إنشائها، لتحمل اسم "المخيمات الراقية". أما المخيمات الأقل حظا من الرقي فيقع فيها المجرى في منتصف الزقاق، وتنساب ماء "القرص والبح" على أرضيته الطينية.
والمجرى عبارة عن خطين متوازيين من الباطون بطول المخيم، يفصل بينهما مساحة قدرها٣٠ سنتيمترا، وعمق يزيد قليلا عن 20 سنتيمترا في الأرض، وتجري فيه مياه الغسيل، والجلي، والحمامات، وما تفيض به المراحيض، وحفاظات الأطفال، وما خُف من القمامة: علب بلاستيك، عودان ملوخية، قشر بطاطا، قمع باميا، عجم فواكه.. وغيره.
وفي المخيم -الذي تتسلق جدرانه طحالب الفقر، وتجري على أرضيته الرملية الرطبة قنوات الموت- نشأ ناجي، أصغر إخوته، وتربى وسط أقرانه من أطفال الحارة. (والحارة هي الاسم غير الشرعي للمخيم).
ولناجي أربعة إخوة، هو أصغرهم، يفصل بين كل واحد منهم في العمر عام أو أقل. أما أكبرهم فهو عمار، يليه ياسر، ثم عرفات، وبعده جاء جهاد. ولم تحالف الحياة نضال فمات في السادسة من سوء التغذية. وناجي اسمه الكامل كما في أوراق الأونروا "ناجي العلي". فقد كان أبو عمار حريصا على أن يتخذ لأبنائه أسماء مرتبطة في ما كان يسمى "الثورة الفلسطينية". كان أبو عمار يحب كل الثوريين، إلى أن دهمه فجأة فيروس "أوسلو" فمات صريعا به.
وناجي ولد نحيف، له من العمر اثنا عشر عاما، لكن كل من رآه ولا يعرفه، يعطيه عمرا لا يتجاوز ستة أعوام. إذ إنه قصير القامة، مصفر الوجه، كث الشعر، مهلهل الملابس، حافي القدمين، وكأنه عضم تكوم على عضم. وكانوا في الحارة ينادونه أيضا بـ"الصومالي"، في إشارة إلى المجاعة التي ضربت الصومال في تسعينات القرن المنصرم، وأنتجت مشاهد بشعة للأطفال وللكبار أيضا.
ناجي أيضا، ولد نبيه، وتلميذ نجيب، لا يكتفي بالحصول على المرتبة الأولى بين زملاء فصله، الذين يربو عددهم على 50 تلميذا، بل دائما ما يكون الأول على مدرسة "أ" الإعدادية للذكور التي تديرها الأونروا.
وإن كان هذا مصدر فخر لأهله، فإنه في المقابل يغيظ غيره ممن هم حوله من الطلاب الأصحاء، الذين تنضح العافية من وجناتهم، خصوصا أبناء المزارعين والفلاحين الذين كان يطلق عليهم أبناء المخيم اسم "الأنصار"، على اعتبار أن أبناء المخيم هم "المهاجرون".
2
اليوم هو الأخير في امتحانات نهاية العام الدراسي 1992-1993. وما أن يفرغ الطلاب من امتحاناتهم عند الظهيرة تبدأ "مجزرة الدفاتر والكتب"، إذ يعكف ناجي وتلاميذ مدرسته، وعددهم 672 تلميذا، على تمزيق دفاترهم التي تكتظ بها مكتبة الفصل الصغيرة. يفعل ذلك كل الطلبة، والنجباء منهم يفعلونه تحديدا لأنه الطريقة الوحيدة عندهم للتعبير عن فرحتهم بانتهاء العام الدراسي، وهو بعض مما يمكن أن يشكل احتفاء منهم بالعلم، واحتفالا بالتفوق مسبقا.
كما يُعمِلون مشارطهم في كل ما تقع عليه أيديهم من كتب الفصل الأول الإعدادي. يفعل ذلك المتفوقون منهم والراسبون (السقايط)، إلا أن الأخيرين يفعلونه وهم مطمئنو القلوب إلى أن نظام ”الترفيع الآلي“ الذي تبنته الأونروا مؤخراً في مدارسها، لأسباب تتعلق بالاكتظاظ الطلابي، سيضمن لهم مقاعد في الصف الثاني الإعدادي العام المقبل.
يمزقون كل ما بين دفتي الدفاتر، من أوراق مُحَبّرة، ويبقون على الفروخ البيضاء لصنع طائرات من ورق. وفرخ الورق هي الصفحة والصفحة المقابلة لها المتصلة معها، لكن يفصلهما دبوسا الدفتر في منطقة الثني.
لكن قلة ومن بينهم ناجي، كانوا يحتفظون -بعد أن يمزقوا الدفاتر- بالصفحتين البنيتين الخارجيتين المقويتين للدفتر (جلدة الدفتر)، ليشكلوا بها سفنا تمخر عباب مياه قنوات المجاري في المخيم.
يلقي كل بسفينته في المجرى باتجاه سريان المياه ويتبعها مشيا أو هرولة من خارج القناة وفق سرعتها. يدفع البعض السفينة بيده، أو برجله بين الفينة والأخرى إن أوقفها وحل المجرى. لكن ناجي كان لا يقنع بما يقوم به أقرانه، إذ كان يشمر عن ساقيه، وينزل في المجرى بقدميه الحافتين، ويدفع سفينته بأمواج يخترعها بحركة من قدميه، كي تحظى سفينته بالسبق في المباراة.
3
"يهود وعرب": ينادي أحد أولاد المخيم بهاتين الكلمتين، فتتوقف على الفور لعبة تسيير السفن الورقية. وينطلق الأولاد مسرعين نحو حاوية القمامة الضخمة التي تتوسط ساحة رملية على حافة المخيم. يجمعون منها ملء أيديهم بقايا قشر البطيخ، وأنصاف حبات البرتقال المعصورة، وقشور الشمام، وفواكه خربة: خوخة معفنة، تفاحة معطوبة، بندورة مخرومة، خيارة دبلانة، عرانيس الذرة المُلتَهمة... وغيرها.
”يهود عرب“، هكذا كان يفهم أطفال المخيمات الصراع على أنه ديني ثم قومي بالأساس. كان ذلك قبل انطلاق الفضائيات العربية بسنوات وسنوات، والتي قلص كثير منها الصراع من عربي إسرائيلي، إلى إسرائيلي حمساوي، بفعل "الغسيل".
المهم، ينقسم الأولاد إلى فريقين كل حسب رغبته: فريق يهود، وفريق عرب، وتبدأ لعبة المحتل مع المقاومة. سلاح الأول رشاش من خشب، وطلقاته أصوات من الأفواه. وسلاح المقاومة كل ما وقعت عليه أيديهم من القمامة.
وعندما تبدأ الملاحقة في أزقة المخيم، وتنفذ الذخيرة، تصبح كل صفائح القمامة الصغيرة أمام المنازل ذخيرة احتياطية. وصفائح الزبالة الصغيرة هذه هي في غالبها صفائح زيت زيتون نفد، أو صفائح بوية طليت بها جدران، أو أقلان بلاستيك فرغت وأزيل سطحها العلوي. وما ذلك إلا "إعادة تدوير" للأشياء عرفها سكان المخيم قبل أن تفتح منظمة البيئة العالمية أبوابها!
4
بعد ساعات من اللعب، في تسيير السفن في المجاري، ويهود وعرب، وتطيير الطائرات الورقية، يدلف ناجي إلى المنزل قبل العصر بقليل. والمنزل هذا كان بالأساس خيمة قبل أن يرى ناجي عتمة المخيم على يد الداية أم خالد الشَّروَل.
يلمح ناجي أمه وقد تربعت في قاع الدار أمام لجن الغسيل الدائري الحديدي، وقد رفعت فستانها إلى ما فوق ركبتيها، وانحنت تفعك بيديها الطريتين القويتين الملابس المتسخة، بالماء والصابون. صابون شقحة النابلسي الشهير الحامي الذي يدمي اليدين.
يكره ناجي أن يدخل المنزل ويرى أمه على هذه الشاكلة، إذ عادة ما يعتبر هذا المشهد مؤشر على العصبية التي تجتاح جوارحها في مثل هذه اللحظات. وعلى الفور يتذكر كلمة أمه الشهيرة في هذه الحالة: "روحي في مناخيري".
غسيل... وعلى الإيدين كمان.. ربنا يستر: تمتم ناجي.
رأت أم عمار شفتي ناجي تتحركان، وإن لم تفهم ما قاله، أطلقت عليه صليتان من غضبها: شو بتقول يا أصفر؟ كيف كان امتحانك اليوم يا غنيمة أهلك؟ وغنيمة أهلك، هي شتيمة مخيماتية تحمل معنىً تحقيريا، خاصة إذا ما كانت مصحوبة بصوت استنكاري ونبرة سخرية.
ناجي محاولا تجنب الشرر المتطاير من عيني أمه وباقتضاب: كويس.
أمه: شو هو الكويس، الصفار اللي وجهك، ولا الامتحان، يا وجه الغراب!
تسمّر ناجي في مكانه، ولم ينبس ببنت شفه. وبنت شفه هي عبارة حاولت فهما منذ أن وقعت عليها عيناي للمرة الأولى قبل عقدين ونصف، لكني لم أفلح في فك مكنونها التعبيري!
أم عمار: مالك واقف زي الحيطة، تحرك اطلع فوق الخزانة، ودور على قوشانك علشان آخدك على العيادة بعد الغسيل، خلينا نعالجك من الصفار اللي في وجهك، بلاش تموت زي أخوك نضال.
والقوشان عند أهل المخيم هو شهادة الميلاد. أما قديما فقد كان يسمى "الطابو" قوشانا. والطابو ورقة تسجيل الأرض. وحسب ما أخبرني صديق "ضليع" باللغات واللسانيات واللهجات واللكنات و"اللكمات"، فإن أصل الكلمة تركي.
يقفز ناجي على السرير الوحيد في الغرفة، ويثبت كلتا يديه في قضبان شباك يعلوه، ويحرك قدميه على الجدار للأعلى، إلى أن يصل ظهر الخزانة، فيعتليها.
وظهور الخزانات في بيوت المخيمات هي المخزن الذي يحتفظ فيه اللاجئون بكل ما لا يريدون استعماله في الحال. ومن بين ما كان يلقى على ظهور الخزانات الهدايا التي تأتي للعائلات من بعضهم البعض، والتي سَتُهدى بدورها لاحقا بـ"التدوير" لمن قدموها.
وكان من عادة أهالي المخيم عدم فتح الهدايا -إلا ما ندر- تحسبا لزيارات مرتقبة، أو ما يطلون عليه "سد الزيارة"، خصوصا وأن نساء المخيم ولادات من الطراز الأول، إذ لا يكاد يمر شهر حتى تضع واحدة أو اثنتين منهن على الأقل مولودا جديدا، وتحتاج إلى طٓلِّة (زيارة).
وقد كان سطح الخزانة في بيت أم عمار عامرا بأطقم الصحون، والصواني، والكاسات، وأرطال من السكر في أكياس ورقية (الرطل ٢ كيلو حسب خبراء المخيم)، وكراتين البسكويت المربعة، وصفائح الشوكولاتة المدورة (كوفرتينا)، والمستطيلة (سلفانا) وعلب النوقة البلاستيكية الشفافة على شكل رأس قلب... وغيره. حتى أن العلب الفارغة، لا سيما علب الحلو المعدنية، كانت أم عمار تعيد تدويرها باستخدامها خزنات "بلا أرقام سرية" في حفظ ما صغر من أشياء البيت.
5
يبدأ ناجي رحلة البحث عن قوشانه ويتحرى ما هو فارغ من العلب. تقع يده على الأولى فيجد فيها إبر خياطة، إبر ملاحف، بكرات خيطان أشكال وألوان، زراير جميع المقاسات رجالي وحريمي. تشكه في أصبعه الأوسط (البعبوص) إحدى الإبر فيغلق العلبة بعنف وينتقل إلى الثانية، وفيها شفر حلاقة، مقصات، كروت التموين القديمة، بطاقات التأمين الصحي القديمة، وكروت الطُعمة القديمة، ففي المخيم لا يتخلص السكان من شيء. وكروت الطعمة القديمة. قٓلٓبتُ عليها الإنترنت فلم أعثر على صورة لواحد منها.
وفي العلبة الثالثة يجد ناجي أشرطة أدوية، أشرطة كاسيت (قبل أن يعرف العالم الأسطوانات المدمجة)، لولب نحاسي لمنع الحمل ”بورقته“. واللولب كان أول تدخل سياسي دولي في أرحام نساء المخيم، لمنع التكاثر تحسبا لزيادة مسؤوليات الأونروا تجاه اللاجئين. يفتح ناجي العلبة الرابعة فيجد فيها سبح صلاة، فلقات صابون، أكياس نايلون صغيرة، قداحات، أعواد ثقاب، عيدان خلة... وأشياء أخرى كثيرة بحثت عنها في غوغل فبصق في وجهي!
يبحث ناجي عن قوشانه.. يبحث.. ويبحث.. ويبحث. وكلما وقعت يده على علبة وصَعُبَ عليه فتحها عرف أنها من المحشوات بالحلو. يستمر في البحث متنقلا بين العلب نحو 20 دقيقة. يتعب، فيجوع، فتنبت لديه فكرة. يمط جسده النحيل من فوق الخزانة حتى يصل رأسه للحافة العلوية لباب الغرفة، فيلمح بطرق عينه اليسرى أمه وهي ما زالت مشغولة في الغسيل، فيرجع، ويمسك إحدى العلب المحشوة بالشوكولاتة، ويفتحها، ويلتهم منها 10 حبات على عجل، ويخبئ أغلفتها داخل العلبة ويغلقها ويعيدها إلى مكانها.
تستأخر أم عمار ناجي فتنادي عليه بغضب:
إيش يا ناجي لقيت القوشان ولا لأ.
لأ لسه ما لقيتو.
أنا عارفة إنتو ما بتفشو الواحد أبدا. هيني خلصت ألحين بآجي أطوله.
تطلب أم عمار من ناجي إنزال كل العلب المفتوحة. فيتناولها ناجي الواحدة تلو الأخرى، ويناولها لأمه التي امتشق قوامها وهي تتعالى على أطراف أصابع قدميها لالتقاطها.
فَرَدَتْ أم عمار العُلب على الأرض وفتحتها كلها دفعة واحدة، وأخذت تفتشها بالواحدة، بيدين مرتجفتين، وهي تساورها شكوك بأنها قد أخطأت في اختيار الهدية عندما زارت قبل أسبوعين جارتها أم حاتم، التي خرجت من المستشفى بعد أن خضعت لعملية جراحية في الرحم.
تُسرع وتُوسع أم عمار حركة التمشيط داخل العلب، وقد بدت عليها علامات الارتباك أكثر فأكثر، مصحوبة بخفقان مرتفع في ضربات القلب، وهي تنتقل من علبة إلى أخرى. أحس ناجي بذلك بوضوح، إذ كانت أمه قد خضعت لعملية زرع صمام بلاستيكي في القلب، ومع أقل جهد كان يمكن سماع نبضات صمامها تضرب بقوة وبسرعة.
تفتش أم عمار وتفتش، وناجي يراقب حركاتها وارتباكاتها وخفقات قلبها عن كثب، وهو ما زاد من صفرة وجهه. يتصاعد لدى أم عمار رويدا رويدا قناعة بأنها قد أهدت العلبة التي تحتوي على قواشين كل العائلة وأوراق أخرى مهمة، إلى جاراتها أم حاتم، عن طريق الخطأ.
6
يلعن د... تمتمت أم عمار. وكادت أن تكمل الشتيمة لولا أن قاطعها ناجي قائلا: لا تخافي يمة، راح تلاقيه إن شاء الله. وقد كان سكان المخيم يعرفون أم عمار بلسانها الحاد، ويصفونها في ما بينهم بأنها "أم لسان زفر".
تبادل أم عمار ناجي القول: طيب طير يا موكوس على دار "أم إبزاز" وشوف إذا العلبة ضايلة عندهم ولا لأ.
ناجي: قصدك دار أم حاتم.
أمه: بتلفلسف يا ابن الكلب! ورمته بفردة حذائها.
وعلى الفور أرخى ناجي ساقيه للريح نحو بيت أم حاتم. وأم حاتم اسمها الحقيقي "مَحْضِيّة"، مؤنث مَحْضِي، والمحض هو اللبن الخالص من كل شيء ولم يخالطه ماء، ويكون بلا رغوة. وكان سكان المخيم ينبزون محضية بهذا اللقب لأن ثدييها كبيرين، وبارزين بشكل لافت، على غير ما كانت عليه بقية نسوة المخيم. وكان أهل المخيم يعزون هذا الكبر، تحديدا النساء، إلى كثرة الإرضاع. وكان السكان يتندرون على أم إبزاز فيقولون ضاحكين، إنها تضع مولودا في أول السنة، ومولدا في آخر السنة. ويُقال أن سبب اللقب جاء لأن المرأة أرضعت معظم شباب المخيم، ولذلك كانوا يخشون التقدم لبناتها الخمسة (أصغرهن عمرها 27 عاما)، وينظرون إليهن على أنهن أخواتهن، فبُرنَ كلهن، ولم تتزوج منهن لليوم واحدة. وإن كان للغة لها ما لها من ربط بين الثدي واللبن، إلا أنه لم يكن لدى أي من سكان المخيم سابق علم بهذا الربط، وإن كان ربطهم العفوي هذا لتنحني له اللغة إجلالا، ويرفع له سيبويه وأبو الأسود الدؤولي قبعتيهما.
يطرق ناجي الباب، يخرج ابن أم حاتم البكر (25 عاما). يخبر ناجي القصة لحاتم. يدلف الأخير للبيت ويسأل أمه عن العلبة، فتخبره أنها قد أهدتها قبل أسبوع لإحدى قريباتها في حارة "بشيت" المجاورة بمناسبة خروج ابنها من السجن الإسرائيلي بعد أن قضى 18 عاما سجنا بسبب حيازة سلاح.
يعود ناجي للبيت ويخبر أمه ما خَبِره للتو من أم حاتم، فتطلب منه أمه أن يجمع أخوته الأربعة، وينتشروا في الحارات المجاورة ويمشطوا بيوتها بيتا بيتا بحثا عن العلبة المفقودة.
تولول أم عمار، وهي تضرب بكفيها على رأسها، وتدور في قاع الدار مثل المهووسة وتردد: يا خيبتي علّي جرالك يا خيرية. شو اللي خلاني أنهبل وانطس في عقلي وأحط القواشين في علبة حلو! يا وردي علي وأسود!
تتذكر أم عمار وهي على حالتها هذه، تفاصيل قصة مشابهة حدثت في غابر زمان المخيم. إذ كادت أن تفقد جارتهم فاطمة الزلوطية كل ثروة زوجها التي جمعها على مدار سنوات وسنوات من بيع السحلب وكرابيج الحلب أمام أبواب مدارس الأونروا في المخيم.
وكدأب بقية نساء المخيم، فقد كانت الزلوطية تحشو ما يجنيه زوجها من نقود في إحدى مخدات المنزل، أو ما يطلق عليه "الخزنة". وهناك من كان يخبئ النقود "تحت البلاطة". كان ذلك قبل أن يفتح البنك العربي فروعا له قرب مخيمات اللاجئين ويملأها بالخزائن الحديدية.
وقبل حلول عيد الأضحى بيومين طلبت الزلوطية من ابنتها الكبرى تعزيل (توضيب) المنزل، استعدادا للعيد. ولما بدا للبنت أن إحدى المخدات متسخة للغاية، ولا جدوى من غسلها، ارتأت رميها في الزبالة. وفي الزبالة عثر عليها أولاد الحارة بينما كانوا يجمعون بقايا الفواكه والخضراوات استعداد للعبة "يهود وعرب". ولأنها مصاري حلال، عادت إلى أصحابها بعد أيام، إذ سلمها مختار المخيم لزوج الزلوطية بعد أن أقام الدليل على أوصافها وعددها أمام شهود ثقاة من المخيم.
المهم، انتشر إخوة ناجي في المخيمات المجاورة. جرى عمار إلى بشيت، وياسر إلى بربرة، وعرفات إلى أسدود، وجهاد إلى البطاني)، وبقي ناجي يبحث في مخيم يبنا، حيث منزلهم. ومضى يتنقل هو وإخوته طارقين أبواب بيوت المخيمات، والهدف: علبة حلو حديدية مدورة مكتوب عليها كوفرتينا، وبها كل أوراقهم الرسمية، وأهمها القواشين.
واتفق الإخوة على أن يلتقوا بعد كل نصف ساعة من البحث عند مفترق طريق يجمع حواف المخيمات الخمس، لفحص ما إذا كان أحدهم قد وجد العلبة أم لا. كان ذلك قبل أن تعرف المخيمات الهواتف المحمولة، وأصبح هذا دافعا كافيا لدى عدد من المستثمرين الفلسطينيين ليأسسوا شركة جوال لاحقا.
ظل الأولاد يبحثون عن العلبة حتى جَنّ الليل. وإذ ما حل الليل على المخيمات حول أزقتها إلى سراديب مظلمة لا يكاد الشخص يرى فيها أصبعه. عادوا جميعا إلى نقطة الصفر، مفترق طرق المخيمات، كل ينظر في يدي الآخر. طأطأوا رؤوسهم وعادوا إلى المنزل وكأنهم قد فقدوا عزيزا.
7
استقبلتهم أمهم بلهفة: ها بشروا لقيتو العلبة يمة.
قال صغيرهم ناجي بثقة بينما أسند ظهر للحائط: راح نلاقيها إن شاء الله يمة، وين بدها تروح يعني. معروف ما في حدا في المخيمات بيفتح هدية. راح اتضلها تلف تلف تلف وبالآخر ترجعلنا.
أمه: طيب يا أبو لسان لِمِضْ. نقطنا بِسْكُوتَك. بكرة في النهار بتكملو لف على بقية بيوت المخيمات، يمكن تلاقوها.
تحرك ناجي قليلا مزيحا ظهره عن الحائط فسمع الجميع صوت قرقعة.
نهرته أمه: شو بتفصص! والفص بلغة أهل المخيم هو إخراج الريح إذ ما انتفخ البطن مصحوبا بصوت.
ضحك إخوته جميعا، وهو كذلك فعل. ولما ضحك تحرك جسده المركون إلى الحائط، فسمعوا طقطقة للمرة الثانية. وبدا لهم أن الصوت لا يتعلق بفصوص. فغمز ناجي إخوته بعينه اليمنى، ففهموا أنه يخبئ شيئا، وإن لم يتبينوا ما هو.
قالت أمهم بصوت فيه حدة: يلا روحوا على الحمام غلسو رجليكو وبعدين روحو نامو.
استمرت موجة الضحك في اجتياح ناجي، بينما صمت إخوته، فانبرت له أمه: ليش بتضحك، شو في من كلامي بضحك. تضحك من غير أسنان إن شاء الله.
ناجي: بضحك على الفصوص.
رجع ناجي إلى الحائط وقال: هي كمان فص. تقدم قليلا وقال: وهي فص ثاني. عاد مرة أخرى للحائط وقال: هي فص ثالث. تقدم قليلا وقال: هي فص رابع. ثم صاح بلغة عربية فصحى وبصوت مفخم وسط ضحك غير منقطع: هل تريدون فصا خامسا يا إخوتي؟
قالت له أمه: ولا أنت مخبي اشي ورا ضهرك وبتقطق فيه.. شو هو قولي؟ وبسرعة البرق حركت قدمها اليمنى في الهواء، فأصبحت فردة الشبشب في يدها.
حينها أعطى ناجي ظهره لإخوته صائحا: يوريكا يوريكا.. وجدتها، وجدتها، تيمنا بأرخميدس. وكشف عن ظهره فسقطت علبة الحلو الحديدية وتناثر القواشين على الأرض، وأوراق أخرى منها التأمين الصحي وكروت الطعمة وكروت المؤن التي استلموها حديثا... وغيرها.
سألته أمه وهي تلملم الأوراق فرحة: وين لقيتها يا حبيبي يا ناجي؟
ناجي: عند مرا عجوز في مخيم البطاني. وأردف: مش قلتك راح ترجع.. يعني راح ترجع!
وكان من عادة هذه المرأة العجوز الثمانينية التي تعيش وحيدة في البطاني، أنها لا تفتح أي علبة تأتيها، إذ كانت تتصدق بكل ما يأتها على من يزورها. ولما بلغ ناجي بيتها، وأخبرها بما يبحث عنه، أشارت عليه بأن يعتلي خزانتها ويبحث عن العلبة وسط ما تختزنه من كراكيب، فوجد العلبة مركونة هناك.
ملأت ابتسامات عريضة وجوه الأولاد الخمسة، وهم ينظرون إلى أمهم، وملؤهم الرهبة والخجل، وقالوا بصوت واحد ما اتفقوا عليه بأعينهم للتو: بدنا التحلاية طيب يا أم عمار يا بركة.
ضحكت أم عمار، حتى بانت لثة أسنانها وقالت لهم: حلت مرحبابكم يمة، هو في عندي أعز منكم.
ثم أشارت إليهم بفتح جميع علب الحلو الحديدية المغلقة فوق الخزانة، وأخذ كفايتهم منها، وتوزيع البقية على الجيران، احتفالا بعودة العلبة المفقودة، وتخلصا من كل ما لا يشف عما بداخله من العلب، تجنبا لتكرار الهدية الخطأ.
ومنذ ذلك الوقت سرى في المخيمات عرف، بألا يهدي أحد الآخر إن زاره في بيته أي نوع من علب الصفيح أو الكرتون مما لا يرى ما بداخلها، وظلت الهدايا مقتصرة على علب الحلو البلاستيكية الشفافة. حتى أن دكاكين المخيم أبدلت الأكياس الورقية بأخرى من النايلون خشية أن يختلط على الناس السكر والملح.
إضافة تعليق جديد