آخر الأخبار

قصة الثورة المالوكسية (الأخيرة ).

أمام مدخل ملغى ومهجور يفضي إلى غرفة المستخدمين, ثمة جدارين متقابلين من الإسمنت وثلاث أو أربع درجات,اعتدنا الجلوس عليها أثناء الفرص.

صار هذا المكان المنسي يدعى لاحقا ب"مجلس الثورة المالوكسية".

فقد ارتقى طالبان نحيلان هذة الدرجات وكتبا عليه تلك الكتابة ,بحبر قلم "بيك" فاير.

لم يدر في خلدنا أن تلك الكتابة ستشغل المدرسة والإدارة والمسؤولين الأمنيين -وستعرض بعض الزملاء ممن يصغروننا للتحقيق- لفترة من الزمن وهم يحاولون فك لغز تلك الكلمات الثلاث

قال البعض اننا شباب ضائعون لم نعد نعلم ماذا نريد,وقال البعض الآخر أننا ماركسيون نتخفى بقناع آخر ,

والبعض قال هم شلة صغيرة منعزلة عن واقعها,وقلة أشارت إلى أننا أردنا إلقاء حجر في ذلك المستنقع الذي كان يكبر ويمتد ويكاد يبلع كل شيء,

ولكن هل كنا شلة صغيرة منعزلة منغلقة بعيدة عن واقعها؟

أقول مجيبا :كلا.

فقد كان تأثيرنا في محيطنا وتفاعلنا معه منذ البداية قائما . أرسينا روح التضامن فيما بيننا أولا ومع الزملاء من مختلف الاتجاهات يمينا ويسارا , وأقمنا تبرعاتنا الخاصة لمساعدة الزملاء المحتاجين أو الذين يمرون بأزمات,وأقمنا رحلاتنا وكم من مرة نصب مخيمنا في الجبال في رحلات كانت تستغرق أياما ,وأقمنا مهرجان للقصة والشعر في الصف العاشر ودوري للشطرنج ,وكنا مرارا ما نعيد تلك الألواح الحجرية للمقاعد لمكانها على الكورنيش والتي سرعان ما كانت تزاح عنه وتلقى على الأرض"كما هي العادة" برغم ثقلها وكبرها على أيادينا النحيلة,ومرارا دعونا "ونفذنا" مع أهل الحارة حملة نظافة وكنس الشارع وزرع الأشجار,وكنا نقيم الحفلات ,خاصة في رأس السنة حيث كانت تستقطب حفلاتنا جيلنا وأجيال تكبرنا وتصغرنا من الجنسين,ووقفنا ضد الظلم في المدرسة ولم نسكت على المظالم إن كان بالكلمة والموقف وصولا إلى الإضرابات ,ولم ننس الهم الكبير هم الوطن فجهرنا بالرأي وكتبنا القصائد التي تنتقد السلبيات وتفضح الفساد ,وانصب غضبنا على الجرائم التي ارتكبها الإخوان ومجدنا المقاومة ووصل الأمر إلى تطوع بعض رفاقنا في العمل الفدائي أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 1982).

كل هذا كان يجعلنا في قلب الأحداث على مستوى المدرسة والحي والمدينة,بل لقد كنا في مراحل كثيرة من صنّاعها..

 

 

وعينا باكرا الاستخدام السيء للنظريات ,ولم ننحز لإحداها بالمطلق أو بالتعصب الأعمى دون مناقشة وتحليل ,وأخذنا منها ما يعيننا على فهم الواقع واستبصار الآتي .ورأينا البون شاسعا بين ما نقرأه في الكتب وبين ما نراه على أرض الواقع ,ووجدنا أن القصة هي كما كانت في جميع الأزمان صراع طبقات متحكمة نافذة تحت مسميات مختلفة " تجار ,عسكر ,دينية, قومية , امبريالية, أممية, وأخيرا..عولمة" وبين فئات ضعيفة مستلبة مقهورة لا تملك إلا عملها أو موادها الأولية,.

وبدت الحرية وهما,والعدالة سراب,وسيادة الوعي والعقل حلما بعيد المنال, و أن القوة هي التي تحكم وتنص قوانينها.

وبدا هذاالفهم وهذا التحليل المتجهم للأمور ينعكس سخرية مرة في سلوكنا وفي كتاباتنا , فكتبت القصيدة الصاروخية (1)المعلقة على حبل المشنقة , وكتب عمرو "سقطت ضفدعتي وانكسرت" ,

وبدأنا نجتمع في منزل عمار خيربك ..ونقوم بإلقاء تلك القصائد ,وكنا نؤدي أحيانا مقاطع ساخرة ناقدة عن القمم العربية "وكان وقتها موعد انعقاد قمة فاس وطرح مشروع فهد للسلام مع اسرائيل كما أذكر " وعن العادات المتخلفة في المجتمع

 

 

 

نجحت الإدارة في تطبيق نظامها الجديد ,ضاربة بعرض الحائط بكل الاحتجاجات وبالعملية التعليمية نفسهاو في الخارج نجحت الحكومة بفرض الأمن أخيرا بعد دحرهاالإخوان.

كان ما سيتم تركيبه فيما يلي والعمل عليه بناءا مشوشا وخليطا غريبا من سوء الإدارة المترافق مع الإعتبارات الأمنية التي أخذت الصدارة وكان هذا من تداعيات حرب الإخوان العبثية.

أحست الإدارة بالزهو بعد أن فرضت رؤيتها في المدرسة , وكذلك الحكومة التي بدأت تجني ثمرات نصرها ضاربة بعرض الحائط أية احتجاجات مطلبية أو أية رغبة إصلاحية في تصحيح المسار الذي بدا يعوجّ.

وكان من جملة (الضحايا) على الطريق الأفكار التنويرية والتحرر المجتمعي وهامش الحرية "النسبي" الذي كان متاحا في بداية السبعينيات

حتى تلك العادات المحلية الجميلة والاحتفالات الشعبية قد تضاءلت ثم اختفت مع الزمن .

فقد سادت الأفكار الغيبية وبدأت القيم الجمالية تذوي مع الزمن حتى باتت مدننا كائنات معادية قبيحة ومنفرة بشكل غريب وانتشرت قيم الربح السريع وخرق القانون والرغبة في الإستئثار.

وبدأت سوريا بخسارة الكفاءات والعقول بنزيف لم يتوقف من وقتها وبدأت مجموعات بشرية متجذرة في الأرض السورية بالهجرة,

وبدا أن التصحر الطبيعي والفكري يغزوان ويقضيان على ما تبقى من بؤر خضر وما تبقى من تنوع مجتمعي ثقافي حضري .

وكما في الطب, بدأت بالبروز متلازمة تحمل في طياتها الكثير من المفارقة والتناقض وقد لازمت الكثير من المثقفين والمهتمين بالشأن العام حتى وقتنا هذا وهي :

أنهم بعد حملة الإخوان الدموية ,باتوا مضطرين للدفاع أو على أقل تقدير للسكوت عن حكومة وسلطة وممارسات كانت لا تمثلهم ولا تشبههم بل وكانت في مراحل كثيرة على النقيض منهم . وفي الظروف العادية كانوا هم أول المبادرين بنقدها وضرورة تغييرها .

وتحت عسف الصراع وانحداره للحضيض بعد تطييفه ومذهبته وعنفيته, لم يعد أمامهم أي خيار.

وكان على الفقير من أية طائفة أن يرضى باستغلال الغني له لأنه من طائفته فقط .

وكان الجانب الآخر للقصة ,هو أنهم لم يكونوا يعترضون على السياسة الخارجية بل كانوا بمعظمهم من المؤيدين للخط السياسي المتبع والذي كان على أقل تقدير معاند للسياسات الغربية في المنطقة

ولكن الخلاف كان في استثمار هذا الموقف داخليا , وكان على السياسات الداخلية.

فقد دفع السوريون ثمنا لهذه المواقف من دمائهم ومن مستوى معيشتهم, وكانوا يتألمون من جديد لرؤية قلة من أصحاب الإمتيازات والنفوذ أولئك الذين يجنون ثمن صمودهم ومعاناتهم.

وأمام فكر تكفيري إقصائي يبشر بكيانات طائفية متبلورة ويقسم المجتمع عموديا وممارسات سلطوية إقصائية ,لم يكن هناك أية فسحة أمل في تكوين بنى أفقية مطلبية عابرة وموّحدة وكان على العبيد أن يجروا خيباتهم وراءهم..

ونحن مساقون مطأطئي الرؤوس , كان على أحد ما أن يرفع راسه , وأن يصرخ.

 

 

* * *

 

 

كان عمرو الخير مدمن ربو ,وكنت أعاني من بداية تقرحات معدية .وكان يحتفظ بذلك البخاخ العجيب,وببخة واحدة تنتهي الأزمة ,وكنت احتفظ بحبوب "مالوكس-بلص" في جيبي ,وكان يشرح عن ذلك البخاخ وأهميته في إخماد تلك النوبات اللعينة,وكنت استفيض في تحليل أهمية حبة المالوكس المكونة من قسمين أبيض وأصفر وفي مشوار على كورنيش جبلة فاتحت عمرو الخير أولا بالقصة ,فأبدى حماسة . ..

في ذلك الجو المثقل بالإحباط وانحطام الآمال وانسداد الأفق,كانت تلك الحبة الصغيرة الملاذ .

أطلقنا تسمية (الثورة المالوكسية) و

انتشر الاسم أولا غامضا كالأشباح ,وبقي لمدة يتداول همسا ,وثار جدل حول الاسم ,وماهيته, من هم أنصاره,وما هي معتقداتهم؟

كان لذلك الحجر الذي ألقي,أن يرج ويحرك المستنقع ويستفز.

وحدث أن استدعي مجموعة من الطلاب في الصف الأدنى منا,وطلبوا للتحقيق في أحد الفروع الأمنية, وتم سؤالهم عن تلك الأمور وما هي المالوكسية ,ومن كتب تلك العبارة على الحائط

 "تم بعد فترة صب شريحة اسمنتية عريضة أمام ذاك المدخل ودهان مكان الكتابة"وأثناء تلك التحقيقات صرخ أحدهم في وجه أحد الطلاب ناهرا:ثورة مالوكسية آ...بدك ثورة ..يا كر.!؟

ولم بفت الكادر الإداري والتعليمي أن يدلوا بدلوهم فعندما سئل استاذ القومية عن هذة الظاهرة أجاب: راجعت كل المراجع والكتب , بل واطلعت على معجم المصطلحات الماركسية ,ولم أعثر على أي مصطلح بهذا الاسم ", والتبس الأمر على الكثير من الطلاب حتى باتوا يخلطون بينها وبين الماركسية.

وقال (التقدميون): كفانا شرذمة وانقسامات ,يجب نوحد صفوفنا.

بل وأصبحت شتيمة في مكان آخر ,فقد نقل عن أحدهم وكان عضوا في" جمعية المرتضى " في حديثة وتهجمّة على أحد الزملاء:"يلعنو ..مالوكسي كلب".

وفي نهاية الأمر عندما تم اجراء مسح سياسي للطلاب في ذلك العام تم تصنيفنا تحت الخانة"مالوكسيون".

 

 

 

 

بدا لي شبح الثانوية من بعيد ..

كانت الرياح تتناوح في ساحاتها الكئيبة التي غصت بأكياس البلاستيك والأكواب الفارغة,وكانت المياة تتسرب من دورات المياة مشكلة بركا كبيرة ,وعلى أسوارها تزاحمت الأكشاك وعربات الخضرة .

وفي الساحة لا مكان لمرمى كرة قدم أو يد ,سوى عارضتين مائلتين ,وبدا ملعب السلة الذي كان منارا في السبعينيات وكانت تجرى علية بطولة مدارس سوريا بكرة السلة , بداخاويا حتى من "بانية السلة",وصالة الجمباز التي كانت تحوي كل الأجهزة الحديثة من الحصان إلى الحلق إلى المتوازي ,تغص بالمقاعد المكسّرة ..ولا حلق ولا من يحزنون.

وسدّت الردهات بالبلوك ,وانتصب الحديد على النوافذ التي كانت مشرعة للهواء والضوء والحرية .

ولا مكان لعرق أخضر.

تناهى لسمعي صوت طقطقة بعيدة مكتومة ,كتلك التي تسبق الهزات عادة..

وبدا لي..وكأن أسوار المدرسة قد بدأت بالاتساع في كل الجهات.

في حين لاح من بعيد طيف طالبين نحيلين, بدأا بارتقاء المصطبة..

وشرعا بكتابة شيء ما..

على جدار مدخل منسي..ومهجور.

 

 

 

----- هوامش:  مقاطع