خريف 1976، ولدت في منطقة سميت آنذاك شرقية ، وترعرعت فيها كما في مدرسة في المنطقة نفسها. ومنذ بدأت اكبر كنت أسمع من الأهل والمحيط ان المنطقة المسماة غربية آنذاك هي ال بعبع الذي يريد القضاء علي وعلى كثيرين مثلي. عدا والدي العسكري في الجيش اللبناني الذي كان عاضض عالجرح وساكت ولا يتكلم الا ليقول عبارة واحدة فقط: كلنا أخوة والله يسامح اللي كان السبب! عيب هالحكي شو مسلم وشو مسيحي؟
لا أذكر الكثير من تفاصيل الحرب غير اصوات القذائف والخوف الذي كنت اراه في عيون اهلي والآخرين ونبضات قلبي التي كانت تتسارع كلما وصلت مهرولة الى الملجأ.
وها عام 1994 يدخلني السياسة دون استئذان، مع انني كنت قد دخلت في معاركها عام 1988-1990 ولكن يومها كنت تابعة لرغبات اهلي والمحيط، أما عام 1994 وفي سنتي الجامعية الاولى بدأت ترتسم لدي ملامح سياسة مر عليها حوالي 5 سنوات وبدأت افهم قرارات عائلتي واختياراتهم بقناعة هذه المرة ودون تبعية.
انتخابات الهيئة الطلابية في جامعتي انتجت ولسنوات عن خيار واحد وكان الخيار مطابقاً وخياراتي وطبعاً خلال تلك السنوات كنت اقرأ عن مراحل الحرب اللبنانية، عن الميليشيات والاحتلال الاسرائيلي كما انني كنت اقرأ في عيون الطلاب عن الاحتلال السوري كما وأقرأه على حيطان جامعتي التي كان يقيم فيها السوريون اقامة مؤقتة تخدم وحدة المسار والمصير كما كانت الأخبار تتردد يومها.
بدأت وزملائي النضال في الجامعة ضد هذا الوجود من أجل وجودنا وفي بعض الأحيان كنا لا نفهم ان كان نضالنا ضد السوري او الشريك اللبناني الذي كان شريكاً لنظام اراد شرخ المجتمع اللبناني والسعي الى تقسيمه دائماً بين شرقية و غربية لاقناع الشعب اللبناني انه بحاجة الى هذا الوجود لأنه شعب قاصر وغير مؤهل لاتخاذ القرار بعد.
يومها لم يعد هناك شرقية وغربية في الجغرافيا اللبنانية انما في التاريخ والنفوس لم تكن لتمحى بسهولة اذ ان ذاك البعبع كان يكبر كلما قاطعت الشرقية الانتخابات وانتخبت الغربية لاثبات وجودها والابقاء على تمسكها بالسلطة، كان يكبر كلما تظاهرت الغربية فاعتبرت السلطة مطالبها محقة بينما اذا تظاهرت الشرقية تسلط عليها خراطيم المياه وقوى مكافحة الشغب بالعصي وأكعاب البنادق.... ذاك البعبع لم يكن من السهل قتله لأن النظام القائم آنذاك اراد احياءه دائماً خوفاً من وحدة اللبنانيين وتخطيهم الطائفية والانقسامات.
وفي منطقة سكني بالذات، كان هناك في الثمانينات عائلات يملكون أبنية عديدة وعرفوا بالزعيترية لانهم بأغلبيتهم من آل زعيتر كما وسميّت بعض أحياء المنطقة بحي الزعيترية، وكان هؤلاء قد تركوا منازلهم اثناء الحرب وعادوا الى مسقط رأسهم منطقة بعلبك. ففي العام 1999 ترددت اصداء بأن هؤلاء سيعودون لاستعادة منازلهم المصادرة، عندها كبر البعبع بالنسبة لي كما لكثيرين غيري وأصبحنا نشعر بأن هذا البعبع سيأتي للعيش بيننا وربما مكاننا، سنستيقظ صباحاً على صوت صلاته ونسهر ليلاً دون قمر بسبب رمضانه. كل تلك الأفكار والمخاوف راودتني ليل نهار بالرغم من انني أؤمن بأننا جميعاً ابناء الله ولا فرق بين مسلم ومسيحي لأن الله يجازي كل حسب اعماله وليس حسب طائفته، ولكن ما كان يشعرني دائماً براحة الضمير هو ان الآخر هو البعبع وليس انا، الآخر هو من لا يريد العيش المشترك وليس انا، الآخر هو الذي يرفض كلمة الاحتلال السوري وليس أنا، الآخر هو الذي كرامته محفوظة حسب قوله وليس انا، وكنت دائماً أفكر انه عندما تصبح المعادلة بين ابناء الوطن الواحد صحيحة عندها يموت البعبع بالنسبة لي ويعود اللبناني الشريك في الوطن المشترك بين الجميع.
وعاد آل زعيتر واستعادوا منازلهم، جيراني أصبحوا كالغرباء، لا يلبسون مثلي، لا يتكلمون مثلي، لا يعيّدون ولا يصلون ولا يصومون مثلي. كنت دائماً احاول ايجاد نقاط مشتركة لربما أتخذ من أولئك الجيران الجدد بعض الأصدقاء فلم أكن اجد شيئاً. يوماً بعد يوم تطلب قوى الأمن الداخلي لتهدئة الأجواء، مشاكل متتالية وفي بعض الأحيان اطلاق نار و سحب سكاكين . لم أكن أفهم ماذا يفعل هؤلاء في بلدتي، لماذا لا يبيعون الأبنية لسكانها ويعودوا من حين أتوا ؟
وكان آل زعيتر يملكون بأغلبيتهم سيارات أجرة ويحتلون زاوية من طريق الحي ويستعملوها كموقف خاص لهم ولم يسمحوا يوماً لأحد من غير جماعتهم بالمرور من هناك او التوقف لأي راكب كان حتى ينهالون عليه بشراسة ليشبعونه ضرباً أو يحممونه شتائماً فأصبح شباب بلدتي على أهبة دائمة للانتقام من أي شخص زعيتري أو بعلبكي لمجرد أن يلقي التحية حتى. عندها فعلاً بدأت أشعر ان لبنان لفئة واحدة من الناس، خاصة وأنه لم يكن احد في الدولة يعارض على موقف التاكسي غير الشرعي ذاك و لم يتم القبض يوماً على أحد منهم بل دائماً شباب بلدتي هم الذين يجرون الى المخافر. وغيرها الكثير من الأمور التي جعلت في نفسي وفي نفس كل سكان بلدتي ذلك البعبع كشبح يلاحقنا لا بل أصبح كوحش قد ينقض علينا في اي لحظة ويقض مضاجعنا ويحرمنا العيش بطمأنينة وراحة بال .
1
صحيح ان 14 آذار 2005 حاول رسم صورة العيش المشترك ولكن بعدها فهمت كما الآخرين انه لم يكن للوحدة الوطنية حينها اي صلة بما حصل لا بل 14 آذار 2005 كان متنفس لاهالي الشرقية ليفشوا خلقهم بعد كل تلك السنوات لأنهم شعروا انه أصبح لديهم شريكاً في الألم والنضال وان الغربية فهمت ولو متأخرة وبثمن غالٍ جداً ان الشرقية محقة باستعمالها كلمة احتلال وان الوقت كان كفيلاً بإضعاف وانقسام ذاك البعبع ولكننا بقينا متنبهين الى عدم اكتمال تلك الشراكة وان نصف البعبع الآخر ما زال في الجهة الأخرى وأخطر ما في الأمر اننا أدركنا وللأسف أن هذا الانقسام يتالف من شقين شرسين كون الطائفة الواحدة انقسمت بمذهبيها، الأول التفّ حول حزبه والثاني حول الشهيد وما زال لا أحد يهتم لمحو الشرقية و الغربية من الأذهان لا بل لاستقطاب العدد الأكبر من المؤيدين للشهيد أو الحزب نكاية بالآخر وليس محبة بالمؤيد. وعندما سمعت تلك التصاريح النارية في ساحة الشهداء باتجاه شباب ساحة رياض الصلح والعكس صحيح أيضاً يومها فقط بدأت اتنبه الى أسئلة عدة:
هل الفريق الآخر يعتبرني بعبعاً أيضاً؟ هل كان يتصرف بسلبية تجاهي لانني افتقدت ايضاً بدوري للايجابية؟ هل كان حقاً ينتظر مني ما كنت أنا ايضاً انتظره منه؟ هل أتشارك وإياه مخاوفه دون أن أدرك ذلك؟
اظنني وصلت الى إجابة واحدة هزت في داخلي أموراً كثيراً:
الحل هو في فصل الأنظمة عن الشعوب. ان رسم صورة الشعب من خلال زعيمه كان الخطأ الأكبر. عندما كنت أعتقد ان الدين الآخر هو العدو كنت مخطئة. ان العدو الحقيقي هو الزعماء والانصياع وراءهم وفقاً لانتماءاتهم ومعتقداتهم اذ انني لم اجد يوماً شيعياً في حزب يتزعمه ماروني ولا اورثوذكسياً في حزب يتزعمه سني ولا درزياً في حزب يتزعمه أرمني..... فكان الشيعي يشعر بخيانة دينه اذا صفق لغير الزعماء الشيعة، والماروني بالمس بكرامة مسيحيته والأرمني بالتنكر لهويته و...
عندها فقط شعرت ان الشعب يبصر دون بصيرة وكلما التقى زعيمين التقت قاعدتهما وعندها فقط بدأت ابحث عن هويتي الضائعة. لم يعد يهمني ان كنت من بيروت او من شقّ شرقي او غربي، لم يعد يهمني ان سكنت الجبل او الوادي او المدينة. ولكنني اردت ان اجد هوية حقيقية مشتركة لضياع كل تلك السنوات بين بعبع وهمي وحرب خاسرة ونضال مزيف لم يستفد منه سوى الزعماء والخاسر الاكبر كان لبنان وشعبه المسكين مثلي.
لم تستطع سنوات الحرب والسلم الطوال تصحيح النفوس ولا حتى زعامات 14 شباط أو آذار بتهجمهم الدائم دون سكينة كأنهم يعيدون ذاك البعبع بشراسة اكبر لتصبح الحياة نضال لبنان ضد لبنان بعد ان كانت ضد الاحتلالات والانظمة وتعاد سبحة الكرّ والفرّ من جديد
وأتى يوم 6 شباط وانقلبت كل المقاييس
مجرد ورقة تفاهم بين قطبين لبنانيين في كنيسة مقدسة في منطقة كانت ما زالت الى حد ما محرمة، أعادت كل الأمور الى نصابها،. مات في 6 شباط البعبع نهائياً، وشبح خيانة المعتقد والهوية ذهب دون رجعة. فإذ بأمي تراني اذهب الى سوق معوض دون تعليق واتنقل في الضاحية والمشرفية وغيرها بكثير من الاعتزاز والفخر بانني لبنانية وهم ينظرون اليّ باعتزاز وفخر لانني من الجهة الشرقية من بيروت، كما واني ارى ذاك الزعيتري في بلدتي يسأل سائق التاكسي المتنيّ ان كان يريد الوقوف معه لانتظار الركاب معاً، كما وانه اصبح يدافع عنه حتى أمام اهل بيته اذا حاول احد المساس به ولو بكلمة او حرف حتى.
واغرب لا بل ربما اجمل ما في الأمر ان هؤلاء الذين كنت أعتبرهم غرباء أصبحوا يقفون وشباب بلدتي لحماية الحي معاً فأصبحت أنام قريرة العين دون الخوف من الاستيقاظ عل صراخ المشكل أو الخوف على أن يكون أخي مشاركاً في المشكل ومجروراً بعدها الى المخفر.
انقلبت المقاييس الى درجة انني رأيت في 7 أيار 2006 شباب آل زعيتر وحميّة وغيرهم يتشاركون وأهل بلدتي برفع الأعلام اللبنانية والبرتقالية بفرح وثقة دون الخوف من يوم الحساب أو من غضب الزعيم أو من أمور كثيرة كانت تحول دون تمكنهم من الفصل بين الانتماء الوطني من جهة والمعتقد الديني والتعصب الطائفي من جهة اخرى؛ هذا هو شكل أبناء هذا الزواج ... عفواً هذا التفاهم!
والآن فقط فهمت كلمات امرأة محجّبة التقيناها في كورنيش المزرعة في يوم هادئ عام 1889 حين لاحظت أننا من المنطقة الشرقية فتجرأت وهمست لأمي قائلة: الله يطوّل بعمرو هالزلمي وياخد بايدو تيريحنا ويحررنا بقا؛ السيّد بالجنوب وهوي ببيروت....وسامحيني يا أختي أكتر من هيك ما بسترجي قول، الله يكون معكم ويحميكم!
رولا أحوش
10.05.06
2