المنكتون يهابهم السياسيون ويخافون سطوة لسانهم فيحسبون ألف حساب لانتقاداتهم
تعتبر الطرائف التي يتداولها الناس عادة في مجالسهم الخاصة بمثابة فسحة فكرية يروحون بها عن انفسهم لغسلها من الهموم التي تغلفها. فالضحك، كما هو معروف يسمح لنا بتخزين كمية من النشاط في داخلنا يعطينا في ما بعد قوة اضافية للانطلاق من جديد الى عالمنا المرهق.
واللبنانيون كغيرهم من الشعوب يجدون في النكتة وسيلة للاسترخاء وطريقة فعالة للتخلص من موجات الاكتئاب التي تنتابهم احيانا، لذلك عرف عنهم تعلقهم الشديد بتداول احدث النكات فيفيان حداد سألت بعضهم: «لك شو سامعلنا آخر نكتة؟».
* النكتة الخازنية عرفت باللمحة الخاطفة والإيجاز البليغ وكانت جزءاً لا يتجزأ من السياسة اللبنانية
* عمر الزعني أحد رواد الطرفة في لبنان وقد طورها ليحولها إلى مونولوج يحكي متاعب الناس وتنتقد السياسيين
* إلياس سركيس كان مولعاً بالنكات البيروتية وكميل شمعون كان أفضل من نكّت وأثار وإلياس الهراوي صاحب بديهة في إطلاقها
* أشهر النكات تدور حول سكان زحلة والتي جعل منها نجيب حنكش محوراً مميزاً لتلك التي كان يطلقها من التلفزيون للطرافة رجالها وأربابها، فمن يجيد روايتها فهو فنان، اذ يجب ان يتمتع بقدرة على الالقاء وخفة دم ودماثة خلق. وكم من مرة سمعنا الطرفة نفسها من شخصين مختلفين ضحكنا لأحدهما وبالكاد ابتسمنا للثاني.
وفي لبنان اكثر من شخصية اشتهرت بظرفها وذاع صيتها حتى وصلت اخبارها الى العالم العربي، امثال آل الخازن المتحدرين من منطقة جبل لبنان، وعلى رأسهم فيليب ورشيد الخازن، وهما كاتبان صحافيان قديمان اشاعا المرح بين الناس وساهما في ايصال البسمة للآخرين من خلال مقالاتهما اليومية.
فالنكتة الخازنية كانت جزءاً لا يتجزأ من السياسة اللبنانية، مارس اصحابها العمل الوطني فكانوا اعضاء بارزين في البرلمان والحكومات المتعاقبة فنقلوا النكتة الى الحقل السياسي، مما خفف من الحدة التي كانت تتسم بها تلك الحقبة الممتدة من عهد المتصرفية حتى الانتداب الفرنسي على لبنان. وعرفت النكتة الخازنية باللمحة الخاطفة والايجاز البليغ، اذ كان آل الخازن يرتجلونها في لحظتها ولا يتورعون عن التنكيت مع الناس وعلى الناس وحتى على انفسهم حين يتطلب الموقف حتى لو كان حزيناً. ويحكى ان الشيخ يوسف الخازن توفي في مدينة روما حيث نفي اليها في الحرب العالمية الثانية وهو على سرير مرضه الأخير، وعاده طبيب ايطالي لبناني المولد وقرر اجراء فحص دم له ليحدد الدواء المناسب، فالتفت اليه الشيخ يوسف وقال له بصوت خافت: «بشرفك يا دكتور مارديني هل تريد ان تسحب مني دماً لتفحصه ام لتزنه؟».
والمعروف ان النكتة، هي تماماً كالشعر والادب والموسيقى والرسم، فن تعبيري بحد ذاته، فيه من الابعاد والشفافية والجمالية ما يضعها في مصاف هذه الفنون، ويعتبر عمر الزعني احد رواد الطرفة في لبنان، وقد طورها ليحولها الى مونولوج يحكي متاعب الناس وتنتقد اعمال السياسيين. وكان الزعني لاذعاً يهابه السياسيون ويخافون من سطوة لسانه فيحسبون ألف حساب لانتقاداته، وقد ذاق الأمرين منذ ايام الحكم العثماني وحتى الانتداب الفرنسي لعدم رضوخه لنصائح السياسين بضبط لسانه. ويحكى ان سعر الفرنك الفرنسي في تلك الحقبة شهد هبوطاً ملحوظاً، فأطلق بالمناسبة اغنيته المعروفة «يا فرنك يا فرنك حاسب»، انتقد فيها الاقتصاد الفرنسي المنتدب ساخراً، مما حرمه من دخول امتحانات نهاية السنة الجامعية ونيله شهادة الحقوق في الجامعة اليسوعية، وبعد ذلك جرى نقله من مقر عمله في بيروت الى البترون (شمال لبنان) بقرار صادر عن رئيس الجمهورية في ذلك الوقت شارل دباس.
نكات موسمية وخفيفة والنكات انواع منها السياسية ومنها الاجتماعية او الموسمية او الخفيفة، وكلها تهدف الى رسم الابتسامة على ثغر سامعيها، وهنالك ايضاً النكات المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بكاريكاتيرات معينة كتلك المبتكرة حول شخصية ابو العبد مثلاً، او التي تتناول اهالي منطقة بعينها. ولعل اشهر النكات تدور حول سكان مدينة زحلة البقاعية التي جعل منها احد ابنائها الراحلين نجيب حنكش (وهو مقدم تلفزيوني اشتهر في الستينات) محوراً مميزاً للنكات التي كان يطلقها في تلك الفترة مباشرة على الهواء عبر شاشة تلفزيون لبنان واثناء استضافته فنانين معروفين، وقد جمعت كلها في كتاب خاص تضمن اكثر من مائتي طرفة حمل عنوان «حنكشيات».
وكثيراً ما يتساءل الناس عن مصدر نكتة معينة وعن كيفية صناعتها، اذ يتخيل البعض ان مصدرها كلها واحد وان كل شخص يرويها على طريقته، فيما يؤكد آخرون انها مستوردة من الخارج او مقتبسة من كتب ومراجع خاصة. محمد شبارو احد نجوم مسرح الشانسونيه المعروفين في لبنان، الذي اتخذ من شخصية ابو العبد مثلا عنواناً بارزاً لنكاته، يؤكد من جهته ان بعض الطرائف التي يلقيها على المسرح هي من اختراعه يستوحيها من موقف او شخص معين، فيما لا ينفي من ناحية اخرى اقتباسه نكات تدور حول اهل حمص في سورية مثلاً وهي مترجمة عن نكات مشابهة يرويها الفرنسيون عن جيرانهم البلجيكيين. ويضيف شبارو: «عادة تروج النكات الموسمية التي تتلاءم مع حدث بارز على الساحة اللبنانية او العربية كانتخاب رئيس جمهورية جديد او حكومة جديدة او زيارة مسؤول كبير للبنان ويتم تداولها بين اللبنانيين فيحاولون حفظها في ذاكرتهم ويروونها بدورهم للآخرين. ويعتبر شبارو ان القاء الطرفة يتطلب خفة ظل وسرعة بديهة، بحيث يستبدل قائلها اي موقف بموقف آخر اذا تطلب منه الأمر ذلك».
وبعض الناس لا يستطيعون حفظ النكات والقائها، اذ بالكاد يسمعونها حتى تتبخر من أذهانهم من دون معرفة السبب. ويرد على هذه المشكلة جورج حريق الذي تخرج من برنامج استوديو الفن عام 1973، فائزاً عن فئة التقليد، ليؤكد «ان الأمر مجرد عادة، علينا تكرار المحاولة اكثر من مرة للارتقاء الى النجاح في حفظ الطرفة». ويوضح حريق ان «القاء النكات امر مميز يتطلب شغفا وحبا كبيرين كغيره من اعمال الفن».
وتميز حريق بالقاء النكات المرفقة بتأثيرات صوتية معينة لأنه عُرِف بتقليد اصوات السيارات والآلات الموسيقية وكذلك اشهر نجوم الفن في لبنان امثال جورج وسوف وملحم بركات وصباح وغيرهم، مما جعل نوعية نكاته تخرج عن المألوف.
وسألنا حريق عن ردة فعله في حال لم يتجاوب الجمهور مع نكاته فأجاب انه نادراً ما يحصل معه هذا الأمر، حينها تكون النكتة لا تلائم الجمهور الموجود، فيستدرك الأمر بنكتة اخرى مناسبة. ويؤكد حريق «عادة ما تحمل طرائفي توقيعي، واحدثها تلك التي تتناول عادات اللبناني»، فيروي قائلاً: «كيف بإمكانك التعرف الى لبناني موجود في باريس؟». ويرد: «بسيطة جداً نقول له: بونجور Bonjour فيجيبنا بكل ثقة بالنفس: بونجورين».
ومن ناحية اخرى ينصح بعض الأطباء مرضاهم بسماع النكات والبحث عن الضحكة اينما كانت للتخلص من توتر أو قلق يعيشونه. ففي اميركا مثلا تنتشر العيادات الطبية الخاصة بعلاج المرضى النفسيين عن طريق الضحك، انما هذا الأمر لم يتبع في اي دولة عربية كما يقول الطبيب النفسي المختص الدكتور سيمون كرم الذي يوضح ان الضحك وسيلة فعالة للاسترخاء والتخلص من حالات الارهاق النفسي والجسدي، وغالباً ما ينصح مرضاه بقراءة كتب طريفة او حضور افلام كوميدية لأنها تساهم بشكل مباشر في صفاء الفكر وازالة التوتر.
رؤساء مولعون بالنكات ويبدي السياسيون اللبنانيون حرصهم على سماع احدث النكات في البلد، ويحكى ان الرئيس الراحل الياس سركيس كان مولعاً بالنكات البيروتية العريقة. اما الرئيس الراحل ايضاً كميل شمعون فكان افضل من «نكّت» واثار الضحك حوله. ويعتبر الرئيس السابق الياس الهراوي صاحب سرعة بديهة في اطلاق النكتة، ويروي المقربون منه انه من الصعب الجلوس في حضرته من دون التطرق الى مواضيع ضاحكة بعضها يستحدثها بنفسه.
وتعتبر النكتة ظاهرة من ظواهر الفكر عند الشعوب وملمحاً من ملامحهم، وتنم عن خصوصياتهم وعاداتهم، وهي نوع من التراث الذي يتعرف اليه الأبناء عبر اهاليهم فيضمن تقليداً يتداولونه اباً عن جد.
وفي هذا المجال لا يسعنا الا ان نذكر نجوماً لبنانيين عرفوا بذاكرتهم المرتجلة على المسرح، فكانوا بمثابة عنواناً للبسمة حتى في احلك الاوقات واصعبها امثال الراحل فيلمون وهبي الذي اتخذ منه الرحابنة رمزاً «للفقشة» المرحة التي ميزت مسرحياتهم من خلال شخصية «سبع» التي كان يجسدها بطرافة.
اما الراحلة فريال كريم فتعتبر رائدة بفنها اذ اشتهرت بتقليد اهم الفنانين الذين كانوا يتابعون بشغف الأسلوب الذي كانت تتناولهم فيه. وتقول كريمتها منى: «كانت امي مرحة بطبعها حتى اثناء مرضها عندما تتألم، كنا نضحك كلنا في المنزل للحركات التي كانت تقوم بها، غير مصدقين حقيقة مرضها، اذ كانت تعاني من ضعف في القلب منذ ان كان عمرها ست سنوات ورغم ذلك اضحكت الجميع ورحلت».
ويلاحظ القيمون على الساحة الفنية ان عدد الفنانين الذين يمارسون مهنة المونولوج او تقديم برامج السهرات الفنية من خلال القاء الطرائف على الحاضرين لا يتجاوزون اصابع اليد الواحدة، بينهم سامي مقصود الذي عرف بشخصية «ابو الشباب» و«ظريف العرب» عبد الرحمن الخوجة الذي يتخذ من هذه المهنة هواية ليس اكثر.
أفضلها السياسية والجنسية ويعتبر باسم فغالي احدث الفنانين اللبنانيين الذين يزاولون مهنة تقلييد النجوم على المسرح وأنجحهم، الا انه لا يدخل في خانة ظرفاء لبنان امثال ايلي ايوب الملقب بـ«ضاحك الليل» الذي يمارس هذه المهنة منذ اكثر من عشرين عاماً، وقد جمع المونولوج والطرائف، فالتقط خيط الضحك من طرفيه. ويؤكد ايوب ان اللبناني يفضل نوعين من النكات تلك التي تحمل طابعاً سياسياً او التي تغمز في قناة الجنس. اما عن كيفية تصرفه على المسرح فيقول ايوب: «احاول دائماً ان اكون مهذباً مبتعداً عن النكات المبتذلة فأنا خريج مسرح راق، وارفض نوع الطرائف والمونولوج اللذين يخرجان عن حدود اللياقة الاجتماعية». ويوضح ايوب انه لا يحضِّر مسبقاً الطرائف التي يلقيها على المسرح بل انه غالباً ما يسأل الجمهور مباشرة عن نوع النكات التي يفضل سماعها.
الا ان ما لا يعرفه كثيرون في ما يخص مهنة الظرفاء هو الأجر الذي يتقاضونه عن وصلاتهم المسرحية بين اطلالة مطرب وآخر، اذ يتراوح بين الـ500 والـ1000 دولار اميركي، ويعتبر هذا المبلغ قليلاً جداً نسبة الى اجور نجوم الطرب والرقص عامة والتي تفوق الخمسة آلاف دولار في الليلة الواحدة. ويقول ايوب في هذا الصدد: «نعم اننا وزملائي نعاني في هذا المجال، نعمل على اضحاك الناس بينما واقعنا المادي مبك». ويضيف ايوب: «مقارنة مع الفنانين الكوميديين في الخارج امثال إدي مورفي وبوب هوب وغيرهما ممن يتقاضون اجوراً عالية جداً، يلزمنا مئات السنين ليرتقي فن اضحاك الناس الى ذلك المستوى». ويختم ايوب حديثه بالقول: «الأفضل ان اتبع طريقة صديقي الذي فاجأه صديق بسؤاله عما اذا كان لديه للسرّ مطرح، طالباً منه اعارته مبلغ الفي دولار اميركي، عندها رد عليه صديقي قائلاً: ولا يهمك يا صديقي انا بمثابة بئر عميق اعتبر وكأني لم اسمع منك شيئاً».الشرق الأوسط