الآن وقد تابعنا عددا لا بأس به من أعمال لوقيانوس السميساطي, نجد أن المناقشة في محاورات هذا الكاتب السوري الساخر مستوحاة أبدا من فكرة هجائية, أو مستمدة من رغبة أخلاقية أو فلسفية, فكأن كل حادث قد اختير ليجعل النتيجة حاضرة دائما في ذهن القارئ, فحين يشكو ملك الآلهة إلى "إيروس" مما يعانيه من خليلاته اللواتي لا يحببنه, وحين تشتد "حيرا" في خصومتها لخيانته, وحين يحاول أن يفهم الأمير الطروادي "غاينمند" ما يأمله منه, لا نرى فيه غير شخص عادي, زير نساء فظا لا يؤتمن في حبه.وكذا كل الشخوص التي يتعامل معها الكاتب, كل له صفاته وخصائصه وأفكاره التي تعرّف بشكل خاص ذلك الزمن ذي المرجعيات الألوهية.......عسانا نعلم........
أشخاص الحوار:
دوريس: ابنة أوقيانوس من ثيتيس, وزوجة نيروس ووالدة اليزايدس.
غالاتيه*: ابنة نيروس من دوريس. وشقيقة امفريتي وثيتوس, أحبها بوليفيم, وحين احتقرته نفّس عن حبه الضائع بالأغاني الغرامية وقد قابلها ذات يوم وهي برفقة اكيس الذي بادلته الحب, فسحق بوليفيم الحاقد, منافسه بحجر ضخم.
دوريس : يخوض القوم يا غالاتيه في الحديث عن عاشقك الجميل, الراعي الصقلّي الذي هام وجدا بك*.
غالاتيه : حذار أن تسخري يا دوريس, فمهما بدر منه, فحسبه أنه ابن بوسيدون إله البحر.
دوريس : حسن فلو كان ابن زيوس نفسه,وبدت على محياه أمائر السماجة, وغطّى الشعر جسمه, وله عين واحدة تزيد من دمامة خلقه, أوَ تخالين إذن أن مولده سيبدل من الأمر شيئا؟
غالااتيه : إن جسمه المغطى بالشعر, وإن السماجة التي تبدر منه, ليستا – كما زعمت- قبيحتين مرذولتين, بل لعل ذلك ينهض دليلا على رجولته, وإني لأرى إلى عينه الواحدة تقدح في جبهته وكأنها عينان.
دوريس : يتحدّثون يا غالاتيه أن بوليفيم لم يتيّم بحبك, بل أنت المتيمة كما يبدو, لكثرة ما تكيلين إليه من آيات المديح والثناء.
غالااتيه : كلا..... لست متيمة بحبه, وكفاك شططاً, فليس في وسعي الصبر على عذاب ما يفترى عليّ من كذب, وما يثار حولي من أقاويل شائنة. وإني لأرى إلى أن غيرتك مني, هي التي حملتك على هذا القول, ولعلك تذكرين يوم كان يرعى قطعانه فأبصرناه من قمة صخرة, يلهو قرب شاطئ البحر عند أقدام بركان "أطنا" الذي يمتد فيه الشاطئ بين الجبل والبحر, فبدوت لناظريه أجمل الغواني وأفتنهنّ طراً, ولم أره أبه بك, أو ألقى إليك ولو نظرة, وهذا برهان لا يقبل الشك أني أكثر جمالا, وأجدر بالعشق منك, أما أنت فقد ازدراك المحبون, ولم يحفلوا بك.
دوريس : أمن أجل أن راعيا أعور أبصرك جميلة, خلت نفسك محسودة, أي شيء في وسعه امتداحك غير بياض بشرتك ؟ وحتى امتداحه بياض بشرتك كان مرده –كما بدا لي إلى أنه ألف أكل الجبن والحليب, ولذلك فإنه يرى جميلا كل ما يشبههما....
أما إن شئت أن تري نفسك على حقيقتها, فليس عليك إلا أن تنحني بقامتك من قمة صخرة على صفحة الماء حين يهدأ البحر, فسترين عندها أن ليس لك ما تمتازين به علي غير بياض لونك فحسب, ولن يحب بياض اللون وحده إن لم يخالطه قليل من الحمرة.
غالاتيه : قد لا أكون جميلة على غير بياض البشرة, ومع ذلك فإن لي عاشقا مدنفا, بينا ليس لواحدة منكن من راع أو بحار أو ربان يمتدح فتنها, ومهما يكن من أمر فإن لبوليفيم مواهب أخرى......إنه موسيقي.
دوريس : صه يا غالاتيه, فلقد أرهفنا أسماعنا إليه حين جاءك ذات يوم ووقف تحت نافذتك, ورفع عقيرته بالغناء. فلتحبني أفروديت, لقد كان يخيل إلي أني أسمع نهيق حمار..... وأي قيثارة كانت قيثارته! لم تكن غير جمجمة وعل شدّت عليها الأوتار, ورافقتها أغنية نشاز مهزوزة النغم, مضطربة اللحن, وما إن راح يجأر في غنائه, فلم نتمالك أن أغرقنا في الضحك من أغنية الحب هذه التي غناها, حتى إن الصدى ذاته على شدّة ثرثرته, أبى أن يردد هذا الخوار. وكان حريّا به ألا يرددها فيثير من حوله هزء القوم وسخريتهم.
وإلى جانب ذلك فإن فتاك العاشق كان يحمل بين ذراعيه دمية, وهي ضرب من الدببة الصغيرة التي تشبهه بجلدها المكسو بالشعر. فمن تراه يا غالاتيه يحسدك على هذا المدنف ؟.
غالاتيه : أرين إذا حبيبك يا دوريس, فلست أخاله إلا رائع الجمال يحسن الغناء ويجيد العزف على القيثارة.
دوريس : ليس لي حبيب, ولست حريصة على أن أغدو محبوبة, ولعل حبيبا كسيكلوب كريه الرائحة كالتيس, يأكل اللحم النيئ, ويفترس من يفد إلى المدينة من الغرباء. في وسعك ارتقاب عودته ومبادلته حبا بحب.
* انظر في "نشيد الرعاة عند اليونانيين" النشيدين السادس والحادي عشر لثيوقريط / اللذين اعتمدهما لوقيانوس عند كتابة محاوراته/.
* هو العملاق بوليفيم.