لقد رأيت سنة 1945 أن أدرس مواقف الأحزاب السياسية من " العروبة "، وجمعت المناهج والدساتير العائدة إلى الأحزاب الستة عشر التي كانت قائمة في ذلك التاريخ في سوريا والعراق ولبنان.
وعندما استعرضت كل ما جاء فيها عن العروبة وعن الوحدة العربية، وجدت أن حزب البعث العربي كان يتفوق على جميعها، من هذه الوجهة، تفوقاً كبيراً .
لتقدير مبلغ هذا التفوق على وجهه الصحيح، يجدر بنا أن نلقي نظرات سريعة على المناهج المذكورة، من زاوية العروبة:
(أ) ان اثنين من الأحزاب المذكورة كانا يعارضان الوحدة العربية معارضة صريحة: الحزب السوري القومي في سوريا ولبنان، وحزب الكتائب في لبنان.
كان الحزب السوري القومي يعتقد بوجود قومية سورية قائمة بذاتها، وينفي وجود قومية عربية، ويتهجم على فكرة العروبة من أساسها.
واما حزب الكتائب اللبنانية، فكان يقول- قبل كل شيء- بوجوب الحفاظ على كيان لبنان مستقلاً عن سائر البلاد العربية. ولكن جريدته- العمل- لم تكتف بذلك، بل صارت تقول بوجوب بقاء سائر الدول العربية أيضاً مستقلة بعضها عن بعض. واسترسلت العمل على نشر هذه الفكرة خلال أزمة الأردن التي حدثت عقب مقتل الملك عبد الله، بوجه خاص.
(ب) وكان هناك حزبان لبنانيان، يلتزمان مبدأ الحفاظ على استقلال لبنان عن سائر البلاد العربية، ومع ذلك يقولان بوجوب التعاون بينه وبينها، دون أن يثيرا قضية اتحاد أو عدم اتحاد سائر البلاد العربية:
حزب الاتحاد الجمهوري كان يقول: " يجب أن يحل التعاون الصادق الصحيح مكان التعاون الشكلي، وأن يسود الاخلاص وصفاء النية، العلاقات بين الدول العربية جميعا، على أن يظل لبنان، من ضمن شخصيته سباقاً إلى ذلك.
الجبهة الاشتراكية الوطنية كانت تقول بوجوب " السعي لتجديد الجامعة العربية وجعل سياستها أكثر ايجابية، ثم تدعيم العلاقات العربية في نطاق ميثاق الجامعة بتعزيز التعاون الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.. "
(ج) أما الأحزاب الأخرى، فكانت تعتبر العرب أمة واحدة، وتقول انها يجب أن تتحد.
وفيما يلي أبرز ما جاء في مناهج الاحزاب المذكورة، في أمر العروبة والوحدة العربية.
حزب عصبة العمل القومي (في سوريا ولبنان) يقول : " ان العرب أمة واحدة - الأمة العربية جسم اجتماعي واحد، كل عضو فيه يقوم بوظيفته التي هي وحدها مقياس أفضليته- البلدان العربية بكليتها وطن عربي واحد ". حزب الأمة الاشتراكي (في العراق) يقول: " يسعى الحزب إلى تنظيم العلاقات بين العراق والدول! العربية الاخرى على أساس اتحاد سياسي Federation يشملها جميعاً ، على أن يبدأ هذا الاتحاد بالدول التي ترغب الانتظام فيه. ويرى الحزب أن جامعة الدول العربية يجب أن تكون وسيلة لتحقيق هذا القصد.
الحزب الوطني الديموقراطي (في العراق) يقول: " يعمل الحزب على تحقيق اتحاد البلاد العربية بدولة اتحادية (فدرالية) ".
حزب الاتحاد الدستوري (في العراق) يقول: بوجوب العمل على " توثيق روابط الاخاء والتفاهم بين الدول والشعوب العربية وذلك بوضع وتشجيع المشروعات التي تستهدف تعزيز وتوسيع مختلف الصلات بين هذه الدول والشعوب وتكفل تقدمها وازدهارها وسيرها متحدة لاستعادة مجد الأمة العربية وانزالها المنزلة اللائقة بها بين أمم العالم المتمدن ".
حزب الاستقلال (في العراق) يقول: بوجوب العمل على " تعزيز الجامعة العربية وجعلها عاملاً في تكوين نظام اتحادي بين البلاد العربية.. " وبوجوب " العناية بالبلاد العربية كافة ولا سيما الأجزاء غير المستقلة منها وتمكينها من تقرير مصيرها وتحقيق استقلالها واتحادها مع دول الجامعة العربية ".
الحزب الجمهوري الديموقراطي (في سوريا) كان يصرح بما يلي:
" يعتبر الحزب القطر السوري جزءاً من الوطن العربي الأكبر ويدعو إلى أن تبذل الجمهورية السورية وسعها لنصرة القضية العربية العامة. ويرى الحزب في جامعة الدول العربية وسيلة تساعد على توثيق الصلات القومية والسياسية والاقتصادية والثقافية بين كافة الاقطار العربية، وتمهد بذلك السبيل إلى الوحدة العربية الشاملة التي يجب أن تكون هدف العرب الاسمى ".
الحزب الوطني (في سوريا) كان يقول:
" ان العرب في انحاء وطنهم كافة امة واحدة والسوريون جزء منها. وسياسة الحزب تقوم على هذا الأساس- ان الحزب يعمل على تمكين الروابط السياسية والاقتصادية والثقافية والتشريعية وغيرها بين أجزاء الوطن العربي، توصلاً لتحقيق غاياته القومية على الوجه الصحيح ".
حزب الشعب (في سوريا) كان يقول:
" العرب في مختلف ديارهم أمة واحدة ذات كيان واحد تتوفر فيه عناصر الوحدة الشاملة من روحية وسياسية واقتصادية واجتماعية- وإلى أن تتحقق الوحدة المنشودة يرى الحزب أن يسعى إليها بالطريقتين التاليتين: أولأ- إقامة اتحاد دولي بين سوريا والاقطار العربية. وثانياً- اتخاذ الجامعة العربية وسيلة إلى توحيد السياسة الخارجية والتمثيل الخارجي، وتوحيد قوى الدفاع... الخ ".
كما يقول الحزب بوجوب " السعي لتنظيم وتوجيه الرأي العام نحو الأهداف العربية المشتركة، وذلك بايجاد الاتصال بين الأحزاب السياسية العاملة على تحقيق تلك الأهداف ".
الحزب العربي الاشتراكي (في سوريا) كان يقول:
" العرب أمة واحدة، وعليهم أن يؤلفوا دولة واحدة في وطن عربي واحد " - "الحزب هيئة نضالية غايتها إذكاء الشعور القومي، حتى يؤمن كل فرد برسالة الأمة العربية، ويستعد للنضال في سبيل انشاء كيان عربي سليم ".
حزب البعث العربي (في سوريا) كان يقول:
" العرب أمة واحدة لها حقها الطبيعي في أن تحيا في دولة واحدة وأن تكون حرة في توجيه مقدراتها " ؛ " الوطن العربي وحدة سياسية اقتصادية لا تتجزأ ولا يمكن أي قطر من الأقطار العربية أن يستكمل شروط حياته منعزلاً عن الآخر "؟ " حزب البعث العربي حزب عربي شامل تؤسس له فروع في سائر الأقطار العربية، وهو لا يعالج السياسة القطرية إلا من وجهة نظر المصلحة العربية العليا "، " مركز الحزب العام هو حالياً دمشق، ويمكن أن ينقل إلى أي مدينة عربية أخرى، إذا اقتضت ذلك المصلحة القومية ".
(ومما تجدر الاشارة إليه : ان الحزبين الأخيرين، اندمجا سنة 1953، وكونا حزباً واحداً ، سمي باسم " حزب البعث العربي الاشتراكي " وهو لا يزال يعمل إلى الآن بهذا الاسم).
ويتبين من كل ما تقدم:
أولاً- ان حزب البعث العربي لم يكن الوحيد في الدعوة إلى الوحدة، كما يظن البعض، وكما صار يدعي ذلك الكثيرون من البعثيين.
ثانياً - ان حزب البعث العربي كان يتفوق على سائر الأحزاب بالأمرين التاليين: أ- ان المواد المتعلقة بالعروبة في دستور الحزب المذكور تبلغ اضعاف ما هو مسطور في دساتير الأحزاب الأخرى. ب- ان حزب البعث العربي، كان يتفرد في التصريح بأنه " حزب عربي شامل "، تؤسس له فروع في سائر الأقطار العربية، وهو لا يعالج السياسة القطرية إلا من وجهة نظر المصلحة العربية.
بعد هذا الوصف العام للأحزاب السياسية التي كانت تعمل في ذلك التاريخ،من وجهة اهتمامها بالعروبة، لا بد لي من ذكر شيء عن موقفي من الأحزاب المذ كورة.
أنا لم انتسب إلى أي حزب كان، لا في العراق ولا في سوريا. موقفي من الأحزاب السياسية كان- على الدوام- موقف الباحث والمتفرج، بوجه عام، ولم أترك هذا الموقف إلا بالنسبة إلى الحزبين اللذين كانا يعارضان فكرة العروبة : كان من الطبيعي أن انتقد آراء ومذاهب الحزبين المذكورين، وافندها بتفاصيل وافية في أبحاثي المتعلقة بالقومية العربية:
فقد نشرت انتقاداتي لآراء انطون سعادة مؤسس الحزب السوري القومي في كتابي العروبة بين دعاتها ومعارضيها [الحصري، العروبة بين دعاتها ومعارضيها، ص 69- 138 ] كما نشرت انتقاداتي على سلوك اخلاف انطون سعادة في كتابي " دفاع عن العروبة " [ساطع الحصري، دفاع عن العروبة (بيروت. دار العلم للملايين ، 1956)، ص 15- 63 ]
.
ونشرت ردودي على مزاعم جريدة " العمل "- لسان حال حزب الكتائب- في كتابي " العروبة بين دعاتها ومعارضيها " [الحصري، العروبة بين دعاتها ومعارضيها، ص 6- 68 ] .
وأما الأحزاب الأخرى، فقد نشرت ما جاء في دساتيرها عن العروبة دون أن اعلق عليها [المصدر نفسه ، ص 149-171 ] .
ومع هذا، عندما قارنت ( لنفسي) بين مناهج الأحزاب المذكورة، فضلت حزب البعث العربي عليها جميعها.
إن تفضيلي لحزب البعث كان يقترن بشيء من العاطفة لأن مبادىء الحزب كات يتجاوب مع ما كنت أقوله في دروسي ومحاضراتي ومقالاتي، وفي توجيهاتي التربوية.
ويظهر أن زعماء الحزب المذكور أيضاً كانوا يشعرون بوجود قرابة فكرية بيني وبينهم، ولذلك أظهروا نحوي ثقة وصداقة في مناسبات عديدة:
ميشال عفلق، عندما تولى وزارة المعارف، بعد مقتل حسني الزعيم، أرسل لي برقية يدعوني بها إلى دمشق، لمساعدته في بعض الأمور، مع اني ما كنت التقيت به قبل ذلك- على ما أذكر- سوى مرة واحدة.
وصلاح الدين البيطار، عندما جاء إلى القاهرة، خلال مذاكرات اتفاق الوحدة الثقافية، أوعز إلى الوفد السوري أن يطلعني على مشروع الاتفاق ويأخذ رأيي فيه.
وأكرم الحوراني، ارسل لي برقية- يوم اعلان الوحدة بين مصر وسوريا- قال فيها:
" في فجر هذا اليوم الباسم الذي يتحقق فيه الأمل بتحقيق وحدة القطرين العربيين، نتطلع إلى الأحرار الملهمين الذين غذوا نفوس هذا الجيل بشعور القومية لنحيي فيهم روح الوطنية التي حملت هذا المشعل دون وهن. فلكم شكر الوطن ".
وبعد ذلك، عندما جاء صلاح الدين البيطار إلى القاهرة وزيراً مركزياً للثقافة، زرته وزارني مراراً ، وتوطدت بيننا أواصر الصداقة الشخصية.
يتبين من كل ما تقدم، اني كنت أنظر إلى حزب البعث العربي الاشتراكي نظرة تقدير وتحبيذ، بسبب المبادىء التي يدعو إليها، دون أن استقصي الأعمال التي يقوم بها.
غير أن نظرتي هذه أخذت تتعكر بعد ذلك، عندما اطلعت على طائفة من أقوال وتصرفات زعمائه.
إن أول ما استرعى انتباهي، وأثار شكوكي، من هذه الأقوال والتصرفات كان الحديث الذي أدلى به ميشال عفلق إلى الكاتب الفرنسي " بنوا مشان ".
هذا الكاتب كان قام بجولة استطلاعية في مختلف أقسام ما يسمونه " الشرق الأدنى "، ومن جملتها مصر، وسوريا، ولبنان، والعراق، والأردن، والسعودية، والكويت. والتقى في كل منها بزعماء السياسة فيها، ونشر انطباعاته عن البلاد المذكورة، مع الأحاديث التي حصل عليها من ساستها في كتاب عنونه بعنوان " ربيع عربي ".
وفي الكتاب المذكور بحث عن لقاء الكاتب مع ميشال عفلق.
خلال الملاقاة، يتحدث ميشال عفلق عن تاريخ تفكيره، وعن تاريخ تكوين حزبه، ويقول في جملة ما يقوله:
-... لقد نظمنا الشبيبة في حلقات وفروع وقوماندوسات (يعني: فرق الفدائيين والمغاوير)...
ولكن عندما ذكر الكلمة الأخيرة، يقاطعه الكاتب الافرنسي، مستغرباً ومستفسراً :
- قوماندوس مسلح؟.. (يعني: فدائيين مسلحين؟)-
ويرد عليه ميشال عفلق:
- نعم... عندما استطعنا ذلك... (ص 337).
ان قول ميشال عفلق هذا قد صدمني صدمة شديدة، عندما قرأته في الكتاب المذكور، أكثر مما كان أثار استغراب مؤلف الكتاب، عندما سمعه منه.
فرق الفدائيين؟ فرق المغاوير المسلحين؟
ما الحاجة إليها، في أعمال حزب عقائدي؟ ما هي المهام التي تستطيع أن تتولاها هذه الفرق في سبيل تحقيق أهداف حزب البعث العربي الاشتراكي، في ظروف العالم العربي الحالي؟ ولا سيما في عهد استشراء نوازع الأنانية والاقليمية استشراءها المعلوم؟
إن فرق الفدائيين تستطيع أن تتولى مهمة اغتيال بعض الأشخاص. ولكن
قضايا القومية العربية- وعلى رأسها قضية الوحدة العربية- ليست
من الأمور المتمركزة في أيدي بعض الأشخاص، حتى يمكن معالجتها عن طريق اغتيال هؤلاء، وإزالتهم من الوجود.
إن اعمال الحزب العقائدي- في أحوالنا الحاضرة- يجب أن تتركز في ميدان المعنويات والنفسيات، مثل: مكافحة نوازع الأنانية والاقليمية، بث الايمان بوحدة الأهداف القومية، والقضاء على روح القنوط والاستسلام... وكل ذلك بروح ثورية، تواصل العمل وفق ما تقتضيه مبادىء الحزب الاساسية.
وغني عن البيان أن هذه الأمور كلها تحتاج إلى جهود الباحثين والواعظين المبشرين الذين يستطيعون أن يخاطبوا العقول والقلوب ويؤثروا في النفوس.
فيترتب على الحزب العقائدي أن يبذل أقصى الجهود لتكوين جماعات من هؤلاء وتزويدهم بالاسلحة المعنوية، لا لتشكيل فرق من الفدائيين وتزويدهم بالاسلحة المادية.
إن فرق الفدائيين، تستطيع أن تقضي على حياة بعض الأشخاص المضرين، ولكنها لا تستطيع أن تقضي على نوازع الأنانية والاقليمية التي تقف سداً منيعاً دون توحد البلاد العربية.
إن الفرق المذكورة تستطيع أن تعمل الشيء الكثير في سبيل ايصال زعماء الحزب إلى سدة الحكم، ولكنها لا تستطيع أن تعمل شيئاً في سبيل بث الايمان بوحدة الأمة العربية، وإثارة روح التضحية في سبيل تحقيق الوحدة.
إذن، ما هو المقصود من تشكيلات فرق الفدائيين في حزب البعث العربي الاشتراكي؟
وربما كان للحزب تشكيلات سرية، تعمل بجانب التشكيلات العلنية التي تختص بالأمور الفكرية والنفسية، وربما كانت فرق الفدائيين جزءاً من تلك التشكيلات السرية. ولكن هذا النوع من التنظيم، ينطوي على مهاو ومزالق كثيرة ومتنوعة، أهمها: انه يجعل زعماء الحزب " يظهرون غير ما يضمرون "، وذلك يفقدهم مزايا الصدق والصراحة، ويدفع بهم إلى المواقف التي كثيراً ما تتصارع فيها إغراءات القوة مع مستلزمات الفكرة، ويتغلب فيها الاهتمام بالقوى المادية على الاهتمام بالقوى المعنوية.
ومهما كان الأمر، فإن كل ذلك يجعل من الصعوبة بمكان، أن يحتفظ الحزب بعقائديته الأصلية.
خلاصة القول: ان تصريحات ميشال عفلق لمؤلف كتاب " ربيع عربي "، ولّدت في نفسي كثيراً من الشكوك في سلامة الخطط التي سار عليها حزب البعث العربي الاشتراكي، في سبيل تطبيق المبادىء وتحقيق الأهداف التي أعلنها.
وهذه الشكوك ازدادت وتقوت، ثم تحولت إلى ما يشبه اليقين، عندما تيسر لي - بعد ذلك- أن أتصل بعدد غير قليل من الشبان السوريين، في القاهرة ودمشق وحلب.
إذ علمت من اتصالاتي هذه، ان حزب البعث العربي الاشتراكي- خلافاً لما كنت أظنه- ما كان استطاع أن يجتذب أكثرية الشبان المخلصين والمثقفين، وذلك لأن زعماء الحزب عندما تولوا بعض الوزارات، استرسلوا في العمل بروح التحزب، في أمور تعيين الموظفين وترقيتهم. كما أن الموظفين البعثيين صاروا يعملون لصالح الحزب أكثر مما يعملون للصالح العام، وصار الكثيرون ينتمون إلى الحزب، ويدافعون عنه، بقصد الانتفاع من الانتساب، دون أن يؤمنوا بمبادئه إيماناًَ راسخاً. وكل ذلك أفقد الحزب الشيء الكثيرمن سمعته.
وصار الكثيرون من الشبان يُعرضون عن الحزب، ليس اعتراضاً على مبادئه الأصلية، بل استنكاراً لأعماله التحزبية.
ولهذه الأسباب، قوبل قرار " حل الحزب في سوريا "- عند قيام الوحدة بين سوريا ومصر- بالارتياح العام، والترحيب التام، بين سواد الناس، وبين معظم بيئات المثقفين، على حد سواء.
وأما الأحداث التي توالت بعد ذلك- من الاستقالة الجماعية التي قدمها الوزراء البعثيون، والدعاية المعادية لجمال عبد الناصر التى تولاها ميشال عفلق من بيروت، إلى التوقيع على وثيقة الانفصال في دمشق... فقد أظهرت أن أعمال قادة حزب البعث كانت في واد، والمبادىء التي كانوا أعلنوها، والتي كانوا نالوا التأييد والعطف من أجلها، في واد آخر.
إن انصرافهم الكلي إلى " التنظيم الحزبي "- الذي صاروا يسمونه " التنظيم الشعبي "- طغى على اهتمامهم بالعمل العقائدي، طغياناً تاماً .
انهم لم يقولوا " العروبة أولا " : بل صاروا يقولون- بكل تصرفاتهم- " الحزب أولاً ".
انهم لم يجعلوا " الحزب في خدمة القومية العربية " بل جعلوا " القومية العربية في خدمة الحزب".
هذا، ومقالات ميشال عفلق المنشورة في كتابه " في سبيل البعث "- التي اطلعت عليها ودرستها بعد الانفصال أظهرت لي : ان بواعث هذا الانحراف الخطير كانت تعمل في نفسية مؤسس الحزب منذ البداية.
انه كان يريد أن يكتسب " مريدين " يطيعونه إطاعة عمياء- ويعملون دون وعي وتفكير- عوضاً عن أن يسعى إلى تنشئة " مؤمنين " يخدمون القومية العربية عن وعي و اخلاص.
وأما تصرفات قادة حزب البعث بعد ثورة 8 آذار، فقد أوصلت هذه الانحرافات إلى الحد الأقصى.
أنا لا أرى لزوماً لإطالة الكلام هنا عن هذه الأمور، لأن فصول هذا الكتاب قد تولت هذه المهمة بتفاصيل وافية.
غير اني أرى من المفيد أن أضيف إلى كل ما سبق، الملاحظتين التاليتين:
(أ) لقد كتب ميشال عفلق في مقالته " في القومية العربية " العبارات التالية:
جعل القومية فكرة تعتنق، يضيف إلى طائفة العرب طائفة جديدة، ويضع على النفس العربية طلاء فوق القشور الموجودة التي تغشاها، ويزيدنا تفرقة ويباعد ما بين التجانس وبيننا (ص 44)
أفليس من أغرب الغرائب أن ميشال عفلق الذي كان يعترض على " جعل القومية العربية فكرة تعتنق "، بكل هذه الصراحة وبكل هذه الشدة، أنتهى إلى جعل القومية " حزبية " ينتسب إليها أو يطرد منها حسب أهواء زعمائها! حزبية، تتعرض إلى ما تتعرض إليه الأحزاب- ولا سيما في البلاد التي لم تستكمل بعد تربيتها الاجتماعية والسياسية- من ضروب المساومات والمناورات، والاحقاد والأطماع!.. ولم ينتبه إلى أن ذلك يزيد التفرقة ويساعد التجانس، حتى بين المؤمنين بالقومية العربية حق الإيمان!
(ب) وقد كتب ميشال عفلق في كتابه " معركة المصير الواحد "- في أواخر سنة 1956 العبارات التالية:
أما عبد الناصر، فهو في شخصه ونفسيته وتفكيره والنظام الذي أوجده والاتجاه الذي اعتنقه واخلص له والقاعدة المنظمة المتينة التي ركز عليها هذا الاتجاه والتي هي نظام الحكم في مصر كنواة جبارة ومنطلق فعال لاستقطاب نضال الشعب في كل مكان واجتذاب كل عناصر الخير والقوة والتقدم الكامنة والمتناثرة في هذا الشعب: ان جمال عبد الناصر هو فعلاً وبالذات موضوع وهدف لهذه المعركة الفاصلة التي يشنها الغرب الاستعماري، من خلال شخصه على العرب وحريتهم ووحدتهم وتقدمهم (ص 111).
أفليس من الغريب، أن يشرع ميشال عفلق في مهاجمة جمال عبد الناصر قبل أن يمضي على كتابة هذه العبارات أكثر من ثلاثة أعوام!.. ناسياً انه كان قال ان الغرب الاستعماري يتهجم من خلال شخص عبد الناصر على وحدة العرب وتقدمهم!
فضلاً عن ذلك، كان كتب ميشال عفلق في المقالة نفسها، بعد العبارات الآنفة الذكر، ما يلي:
لو زال عبد الناصر، فإن ذلك سيرجع بالعرب عشرات السنين إلى الوراء، إلى زمن الاحتلال والتجزئة والفساد والانحلال. لأن سياسة عبد الناصر الاستقلالية العربية قد رفعت قضية العرب وامكانياتهم درجات حاسمة إلى فوق، ونقلتها إلى المستوى الجدي الذي يفصل فصلا حاسما لا لبس فيه بين الأوضاع الراهنة الفاسدة التي هي سبب ضعف العرب وسيطرة الاستعمار ووجود اسرائيل، وبين الحياة والأوضاع الجديدة التي يتطلع إليها العرب والتي توفر لهم من أسباب القوة ما يكفل تحررهم ووحدتهم (ص 111).
أفليس من الغريب أن ينسى ميشال عفلق وحزبه كل ذلك، وأن تتولى جريدة البعث، وإذاعة دمشق- هذه الأيام- مهاجمة " حكم عبد الناصر "، من بدايته إلى نهايته، مع سلسلة من الاكاذيب والمفتريات!
هذا، وقد كتب ميشال عفلق ما يلي، في المقالة المذكورة نفسها، بعد الفقرات الآنفة الذكر:
هذا ما أدركه الاستعمار منذ البدء، ومنذ أن لمس التجاوب العميق بين سياسة عبد الناصر وبين اندفاعات الشعب العربي في كل قطر. ولكن الفئات الرجعية المتآمرة في الأقطار العربية ظلت إلى ما قبل أيام تنكر هذه الحقيقة وتكابر فيها، وتتجاهل القفزة التاريخية التي حققها عبد الناصر في حياة الأمة العربية في هذه المرحلة ( ص 112).
أفليس من الأمور التي لا بد من تسجيلها على قادة حزب البعث: انهم انضموا في هذا المضمار إلى " الفئات الرجعية المتآمرة "- التي أشار إليها أمينهم العام في مقالته هذه- وصاروا " ينكرون هذه الحقيقة ويكابرون فيها ويتجاهلون القفزة التاريخية التي حققها جمال عبد الناصر في حياة الأمة العربية "، متناسين كل ما كان كتبه ميشال عفلق في هذه القضايا.