آخر الأخبار

يسعد صباحك... من ترانيم الذاكرة (2)

يسعد صباحك مجددا...

هل يسبب لي شيئاً من السعادة وفشة الخلق كلما أثبت انتصاراً بإثبات تميزي؟
بداية، يا صديقتي، أخبرك بالحق: أنا لم أكن بانتظار أحد كي اثبت تميزي... بكل صراحة ربنا كدة، أنا أعلم أني متميز عن العالمين و أعلم ذلك منذ زمن طويل...

يسعد صباحك،

و أقدم لك أمثلة:
فمثلا أنا أثبت أني متميز حين قمت -بمعية زميلنا موسى- باختراع منهاج جديد في الجامعة التي درسنا فيها معا... طبعا ليس موسى و لا أنا مسؤولين عن فقدان هذا المنهاج بعد مجيئنا لفرنسا!

بل و أثبت أني متميز حين قمت بإنشاء شبكة هاتف عالمية -أعني أني كنت المشرف التقني عليها.

طبعا تم طردي بعد إنجازها من الشركة التي كنت أعمل بها، و هذا منطقي: كيف تريدين ألا أطرد و أنا أعبر ليلا نهارا عن احتقاري لرئيس الشركة إياها (كانت عادتي هي أن أخبره: يا حبيبي يا لوران، من حق كل إنسان أن يمارس خمس دقائق جحشنة كل يوم، و أنت الآن قد استنفذت دقائقك الخمسة ).

يعني و أشياء أخرى...

لكن، و بكل صراحة، ليس هذا ما أفاخر به...

ما أفاخر به، و هو ما يجعلني أعتقد أنني متميز عن العالمين هو أنني ربحت طابق شطرنج ضد راضي.

أنت لا تعرفين راضي... و هذا طبيعي، لأنك لست من جبلة. لكن لئن سألت أهل جبلة لأخبروك بالحق: راضي هو أحد أنجب الأبناء الذين أنجبتهم جبلة....
حين حصلت تلك القصة (الحقيقية الممتعة، لكن أهي ذات مغزى؟ (قحملأذم؟)) كنت في السادسة عشر من عمري، و كنت أرغب أن ألتحق بالجامعة التي كان يدرس فيها راضي.
و راضي كان بالنسبة لنا -أعني أنا و أبناء جيلي- أسطورة، أصلا، الجامعة التي كان يدرس فيها راضي كسبت احترامي لأن راضي كان يدرس فيها:

الجامعة التي يدرس فيها راضي لا يمكن أن تكون سيئة (و هذا ما اتضح خطؤه فيما بعد).

أيا كان الأمر، لقد دعوت نفسي لمنزل راضي كي أسأله عن جامعته و كي أستوضح بشأنها. ثم إن الحديث طال و تشعب و في النهاية فإننا قررنا أن نلعب الشطرنج...

اليوم، و بعد مرور عشرين عاما و تزيد ثلاثة -لعن الله الثلاثة- ما أزال أتذكر، و بالتفاصيل المملة، كيف انتصرت على راضي...

في نهاية الطابق كان لدى كل منا بيدقان (عسكريان) و الملك. كانت حجارنا تتوزع كما في الشكل الملحق...
فمن جهة، كان لدي بيدق يوقف بيدقي راضي.
و من جهة أخرى، كان ملك راضي متواجدا أمام ملكي و بيدقي الثاني.

كلا من هاتين الحالتين تعطي تعادلا، لكن اجتماعهما معا يعطيني النصر من دون شك...

يعني هذا ما كنت أظنه... لكني كنت ألعب ضد راضي، و ما أدراك من راضي!

و راضي لم يستسلم: لقد تابع اللعب و كأنه لا يلاحظ هزيمته المحققة...
و بدأت الشكوك تغزوني: يعني لا يمكن أن يكون راضي قد أغفل ملاحظة هزيمته المحققة. يعني لا شك أنه سيخرج علي بنقلة مذهلة تحيل انتصاري المتوقع هزيمة شنيعة...

لكن راضي لم يخرج تلك النقلة السحرية: ذلك أن قواعد الشطرنج هي قواعد علمية دقيقة، و هي أقوى حتى من راضي...

لقد انتهى الدور لمصلحتي... و أكد راضي، بنفسه، صحة انتصاري إذ قال لي: كان انتصارك مؤكدا!

*************

هناك العديد من الأساطير التي يتناقلها أهل جبلة و يرويها المسافرون للقرى التي يعبرون بها حول ما حصل بعد ذلك. لا أعلم مدى صحة تلك الأساطير لكن إحداها تبدو لي قريبة من الصحة، و هي الأسطورة التي تقول أن عمرا، يعني أنا، و بعد انتصاره على راضي، عاد لمنزل والده الواقع على طريق بسيسين (شرقي جبلة) راكبا دراجته، و لكن البشر لاحظوا أن هناك مسافة 20 سنتيمتر تفصل بين مؤخرته و مقعد الدراجة: هو لم يكن يقود دراجته لكنه كان يطير فرحا فوقها...

أؤكد مجددا أني لا أعلم مدى صحة هذه القصة... لكني أظن أنها حقيقية: يوم ربحت دور شطرنج ضد راضي كان أحد أسعد أيام حياتي...

طبعا فيما بعد، و حين التحقت بالجامعة، و صرت زميلا لراضي، فإننا لعبنا العديد من أدوار الشطرنج، و إنه مسح بي الأرض مسحا (مفعول مطلق مؤكد للفعل). لكن مش مشكلة: يكفيني فخرا أنني ربحت دورا واحدا ضد راضي...

***********************

صديقتي:

سيأتي علي يوم أموت فيه. في ذلك اليوم سأتذكر حياتي و سأحاول أن أذكر نفسي بما كان فيها من أشياء جميلة، من أشياء تشعرني بتميزي... عندها، أول ما سأتذكره، هو أنني ربحت لعبة شطرنج ضد راضي...

قد تستغربين، أيتها الغالية، هذا الكلام... لكن استغرابك سيقل يوم تعرفين راضي، هذا الإنسان الضخم، الضخم بذكائه، بلطفه، بإنسانيته و بسخريته من البشر...

لكن و بكل تأكيد أنا لن أتذكر ما تسمينه انتصاراتي في وجه بعض المساهمين في مدن ... لا، لا و من ثم لا أيتها الغالية: من يكون هؤلاء كي أشعر بالسعادة عند ما يسمى انتصاري عليهم؟

لا يا غالية! أنا شعرت بالسعادة لأني انتصرت -مرة- على راضي في لعبة الشطرنج، ذلك أن راضي هو راضي!
لكن هؤلاء؟ من هم؟

إنهم شسع بنعل راضي ! (*)

و قد تكون لي عودة...

و بالإنتظار.. يسعد صباحك.

------------------------
(*) أقول قولي هذا و أرفض التوازي بين القولين...
يعني، قائل هذه الجملة، و هو المهلهل، حين قتل البجير و أضاف قائلا أن البجير هو شسع بنعل كليب ، فإنه ارتكب جريمة غادرة و إنه دفع ثمنها حين أسره الحارث بن عباد، أبو البجير، و لم ينقذ المهلهل حياته إلا بالمهانة، و منه نجد نقطتي الفرق:
-- أولاهما: المهلهل غدر بالبجير و قتله قتلة لؤم و دناءة، و إني لا أظن أن الغدر أو اللؤم أو الدناءة من صفاتي.
-- ثانيتهما: أن المهلهل، حين وقع في أسر الحارث أبي البجير، فإنه اشترى حياته بالمذلة، و لا أظن أني كالمهلهل، حاشا لعمرو الخيّر أن يكون كالمهلهل الجبان: لو كانت حياتي أعز علي من شرفي... لفعلت غير ما أفعل، و لقلت غير ما أقول...

فأؤكد إذن أن خصومي هم بمثابة شسع بنعل راضي، ثم إني أسمح لنفسي أن أضيف أبياتا من قصيدة الحارث بن عباد حين بلغه نبأ جريمة المهلهل:

كلُّ شــــيء مــــصـــيــره لـلـزوال * غـيــر ربــــي وصـــالح الأعــمــال
قد تجنبت وائلا كي يــفـــيـــقـــــوا * فـــأبت تغلبٌ عليّ اعـــتــــــــــــزالي
وأشابوا رأسي بقتل بــجــيـــــــــر * قتـــلوه ظلما بــغــــيـــــر قــتـــــــال
قتلوه غـــــــــــــــدرا بنعل كلـيــب * إنّ قتل الكـــريم بالنــعــل غـــــــــال
قــــرّبــــا مـــربـــط النــعامة مني * لقـــحتْ حرب وائلٍ عن حــــــــــيال
قــــرّبــــا مـــربـــط النــعامة مني * ليــس قولي يراد لكن فـــعــــــــالي
قــــرّبــــا مـــربـــط النــعامة مني * لبجــــيرٍ مفكك الأغـــــــــــــــــــلال
قــــرّبــــا مـــربـــط النــعامة مني * لكريـــــمٍ متوّج بالجــــمــــــــــــــال
قــــرّبــــا مـــربـــط النــعامة مني * لا نبيع الرجـــــال بيع النـــــعــــــال
قــــرّبــــا مـــربـــط النــعامة مني * لبجــــيرٍ فداه عمي وخــــــــــــــالي‬