آخر الأخبار

حميدان و ...الخازوق!؟

كان يا ما كان في غابر الدهر و الزمان , طي النسيان و الكلام , شاب اسمه حميدان !
عاش حميدان بقدره المرسوم ونصيبه المقسوم ومصيره المحتوم .
حلمَ بمقاعد الصفوف الدراسية . فطلب إلى والده أن يرسله إلى هناك . فلم تُستجب أمانيه ولم تتحقق أحلامه بل أُجبر على الذهاب إلى البراري لرعي الماشية و الأغنام !
من بعيد , كان حميدان يراقب بحسرة و لوعة القلب و العين أقرانه من الفتية و الصبيان و هم يتوافدون على بناء المدرسة العتيقة التي ما أن اكتنفت آخر طلابها , حتى بدأ الصمت يسود زمن حميدان . صمت أصبح مع الأيام تاريخاً و هوية و عنوان!
لغة الصمت هذه التي لن تنتهي إلا مع خروج الطلاب مرة أخرى من باب المدرسة الكبير . عندها فقط , يتكسّر صمت حميدان على جلبة و صخب الأحاديث التي يتبادلها الرفاق و الأصدقاء .
فمن هناك , يجلس حميدان يراقب من بعيد تمتمات هؤلاء وأصداء كلماتهم و ضحكاتهم علّه يلتقط بعضاً منها ويلملم حروفاً كان قد تركها خلفه هذا أو ذاك !
ولكن سرعان ما تتوارى الحروف و الهمسات طرداً مع ابتعاد الفتية و الصبيان خلف التلال والظلال .
عندها , يجزع حميدان من عودة زمن الصمت الذي سيخيم على حياة الفتى من الآن و حتى صباح اليوم التالي .!
فيسند حميدان رأسه الصغير - المنهك بتضاربات الصمت- على وسادة قدرِهِ المُبهم ليرسم معالم غدٍ جديد هناك على ناصية الطريق , قرب المدرسة . عندما سيبادر إلى خرق جدار صمته هذا بقولة : صباح الخير يا شباب !
يأتي الصباح . يتأهب الفتى ويحشد ما لديه من الحروف و النبرات يراقب عن بعد قدوم فلة من الفتية والصبيان .
و عند اقترابهم منه , يبادر إلى السلام فيصيح بصوت عالي : صباح الخير يا شباب !.
يلتفت الصبية إلى حميدان دون اكتراث أو مبالاة ولا يردون التحية بالتحية ويتابعون السير بعدما رمقوه بنظرات الريبة والغرابة و الرفض!
كبر الفتى حميدان بين جدران الصمت و القهر و العزلة . كبر مع صمته و هو ما يزال منبوذاً من الآخرين !
أحس بنفسه يزداد بؤساً و يأساً و حرماناً و رفضاً.
لقد رُفضت كل رغباته وأحلامه و أمانيه . وأُغلقت بوجهه سبل الكلام و النطق و الإيماء و سُدت عنده دروب الأحاديث و القصص و الحكايات !
فقرر أن يستسلم لأقداره التي قادته إلى الخروج عن قوانين صمته و قهره وجوعه وفقره . فخطرت على باله فكرة سرقة بيت مال الكلمات ووضع اليد على الحروف و الأدوات و العلامات .
فكان أن تحقق له ذلك في ليلة صماء عمياء خرساء . و بغفلة من العيون و الحراس والأنظار , استطاع أن يقتحم خزنة بيت مال الكلمات و يشرع بجمع ما تيسر له منها ليضعها في كيسه الذي أحضره من أجل هذا الغرض !
عند امتلاء الكيس , خرج حميدان من بيت مال الكلمات بعد أن أحكم إغلاق الكيس كي لا تسقط كلمة هنا أو هناك فيُفتضح أمره بين الحراس !
لم يعلم حميدان أن كيسه البالي الممزق سيخزله في كل الأحوال . الآن أو بعد قليل !
وفعلاً . ما هي إلا خطوات , حتى سقطت إحدى الكلمات على الأرض وتناثرت حروفها في الأرجاء . فأحس الحراس و استيقظت العيون على طنينها و رنينها وفحيحها !
اندفع العسس المدججين بأدوات الجزم و الجر و النصب وراء سارق بيت مال الكلمات و انتشروا في الدروب و البساتين و على مفارق الطرق . ونصبوا الكمائن علّهم يلقون القبض على السارق الموصوف !
وما هي إلا دقائق معدودات , حتى ألقى العسس القبض على السارق حميدان الذي اقتُفيَ أثره بواسطة الحروف و المفردات التي كانت تتساقط من الكيس الممزق تاركة خلفه أدلة أكيدة و دامغة على فعل الجريمة !
بسرعة الأنام , اقتيد حميدان إلى سرادق السراي البارد و الرطب ليعود مرة أخرى يحاكي صمت الجدران و القهر و العزلة!
في صباح اليوم التالي , استيقظ الصمت عند حميدان على حرطقات حديد أقفال الزنازين و صراخ السجانين !
هيّا . تحضر يا سارق بيت مال الكلمات. اليوم يومك أيها المُتجرئ على الاقتراب من العبارات و تدنيس الجناس و الطباق و الإشارات . اليوم ستُساق إلى حضرة القاضي وهناك أرِنا ما أنت فاعله !
في قاعة المحكمة . حضر الجميع جلسة الاستنطاق و النطق بآن ! عندما قرر القاضي إنزال حكم الموت ب حميدان بعدما رُفضت كل المسوغات وجميع مبررات الصمت عند حميدان الذي أخفق في استجماع بعض كلماته اليتيمة في عالم صمته و قهره و عزلته !
أعيدوه إلى زنزانته الآن . وغداً ضعوه على الخازوق انهى القاضي جلسته بهذه الكلمات !
عاد حميدان إلى صمته هناك داخل زنزانته الرطبة النتنة و هو يفكر بما سيؤول عليه حاله غداً !
فأسند رأسه الصغير على وسادة قدره المبهم مرة ثانية ليرسم معالم اليوم التالي عندما سيبادر إلى خرق جدار صمته و قهره !
في صباح اليوم التالي , اقتيد حميدان إلى غرفة مستطيلة فيها خازوقين . واحد على اليمين وواحد على الشمال .
قام منفذ حكم الإعدام بشد وثاق حميدان على الخازوق اليميني . وانتظر الجميع بدء عملية الإعدام . إلا أن صوتاً انطلق من حميدان يطلب فيه من منفذ الحكم بالسماح له ببضعة كلمات !
هيا قل ما تريد أيها السارق قال المنفذ .
قال حميدان : أريد أن تنقلوني من على الخازوق اليميني وتضعوني على الخازوق الشمالي ! .
سأل المنفذ : وما هي الغاية من ذلك أيها الرجل ؟! .
صمت حميدان ولم ينطق ببنت شفه.
استجابة للطلب الأخير للمعدوم , قام منفذ الحكم بتلبية طلب حميدان وتم نقله من على الخازوق اليميني إلى الخازوق الشمالي وشُد وثاقه مرة ثانية .
وتراجع الجميع منتظرين تنفيذ حكم الإعدام .
إلا أن المنفذ لم يعط إشارة البدء . و بدلاً من القيام بذلك, اقترب من حميدان و سأله عن سبب رغبته بتغيير الخازوق مع العلم بأنهما متشابهان وأنهما يقومان بالعمل نفسه .!
أجاب حميدان بأنه يعرف أن الخازوقين متشابهان و أن عملهما واحد ولكنه أردف يقول للمنفذ :
لطالما هو طلبي الأخير قبل الأعدام لا أكثر ولا أقل !
عاد حميدان إلى صمته المطبق وقد تحققت له أمنيته الأخيرة وطلبه الوحيد بعد أن عانى طوال حياته من الرفض و العزلة و القهر .
وأسند رأسه الصغير لآخر مرة على وسادة قدره المؤلم بصمت نهائي خوفاً من يغير المُنفذ رأيه ويعيده إلى الخازوق اليميني!