في الأول من نيسان من كل عام، يحتفل الشعبُ الآشوري (سريان/كلدان)، في سوريا وباقي مناطق وجوده، بعيد أكيتو - رأس السنة - جريًا على عادات أسلافه، حيث يقيم الآشوريون احتفالاتٍ شعبيةً بين أحضان الطبيعة بحسب الطقوس والتقاليد القديمة، مثل تقديم القرابين للآلهة والهدايا للملوك وإقامة شعائر احتفالات زواج جماعي، فيعقدون المهرجانات الفنية والتراثية، من غناء ودبكات رقص شعبي) وغيرها من التقاليد التي تعبِّر عن عبق الحضارة وأريج التراث السرياني الأصيل.
لقد كان للأسطورة دور هام وأساسي في حياة الشعوب القديمة، ولاسيما في بلاد ما بين النهرين وسوريا، حيث شكلت الأسطورةُ المساحةَ الفكرية والإيديولوجية التي جرت عليها أحداثُ الدراما الإلهية عند السوريين القدماء: إذ لقد وجدوا في ظواهر الطبيعة تجسيدًا للقوانين الإلهية الخالدة، كما أنهم أعطوها بُعدًا وظيفيًّا من خلال طَبْع هذه الظواهر بغايات ومقاصد كان الإنسان السوري القديم يطمح إليها ورَبْطِها
بالمناسبات والممارسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في المجتمع. فحين ندقِّق في الطقوس والشعائر الدينية التي كان يمارسونها قديمًا في احتفالاتهم، نجد أنها تنطوي على الكثير من الإرهاصات الفكرية والفلسفية الهامة التي سنعرض لبعضها في
إيجاز فيما يلي.
التصور السوري القديم(آشوري-بابلي-كلداني-سرياني) للتاريخ
لا شك أن ضرورات تنظيم الأحداث والظواهر الطبيعية والاجتماعية ذات التأثير المباشر على الحياة والنشاط الزراعي وضبطها دفعتِ الإنسانَ الآشوري إلى وضع أول تقويم سنوي .
وقد شكَّل ذلك التقويم مرحلةَ انعطاف كبيرة وهامة في حياة المجتمعات القديمة؛ إذ كان بداية تكوين ذاكرة الإنسان التاريخية. فالتقويم الآشوري ليس مجرد
تأريخ لوقائع وحوادث تحدث في المجتمع أو تدوين لظواهر طبيعية، بل هو كذلك إنجاز علمي هام حقَّقه الإنسان النهريني في مجال العلوم الطبيعية وعلم الفلك. فتحديد بداية السنة الآشورية مع تجدُّد الحياة في الطبيعة وبداية دورتها وخصوبتها في نيسان
وتعيين تعاقُب الفصول الأربعة يضعنا أمام التصور الأكادي-البابلي-الآشوري للتاريخ، من حيث هو حركة دائرية مغلقة. وهذا يذكِّرنا بالمقولة الأرسطية القائلة بأن الطبيعة تضمن الخلود للنوع عن طريق عَوْدها الدوري . وهذا يؤكد على ما كان للتقويم
من وظيفة هامة في الحياة الفكرية والذهنية الآشورية آنذاك.
دائرة الخلق والتكوين
لقد تمحورت الميثولوجيا السورية القديمة(الأكادية/البابلية) حول ثلاثة محاور أساسية هي:
التكوين (الخلق) والآلهة والإنسان. وقد جاء في أسطورة إينوما إيليش التي كُتِبَتْ باللغة الأكادية في أواسط القرن الثاني عشر ق م - و تمثيلها كان من الطقوس الأساسية لاحتفالات رأس السنة الآشورية (الأكادية) - نقول: جاء في هذه الأسطورة أن الآلهة، بعد أن أجمعت على إدانة الإله كنينو بصفته مذنبًا، حكم عليه سيدُها مردوخ بالموت ذبحًا ليُخلَق من دمه الإنسان. فلو دقَّقنا في هذه الأسطورة والتحفة الأدبية
الرائعة، لوجدناها تنطوي على تكوين الإنسان بقرار إلهي جاء في إطار تنظيم العالم الجديد الذي نشأ مع اندحار قوى العماء والفوضى والشر. فهذه الأسطورة تفصح عن المضامين الدينية والميتافيزيقية لطقوس احتفالات الآشوريين قديمًا في نيسان بعيد أكيتو، رأس السنة الآشورية.
دائرة الحياة الأبدية والخلود
لقد انطلق الإنسان في بلاد الرافدين وسوريا، منذ القديم، في اتجاه الكون بأبعاده الثلاث، - الطبيعة، الآلهة، الإنسان، - متجاوزًا ذاته إلى الذات الإلهية، التي رأى فيها مصدر كلِّ فعل كوني، وتوجَّه إليها متسائلاً عن سرِّ الخلود والحياة الأبدية. إذ تروي
لنا ملحمة گلگامش البابلية، التي تعود إلى العام 2650 ق م وتُعتبَر أقدم نماذج الأدب الملحمي في تاريخ الحضارات، أن گلگامش انطلق بعد موت صديقه أنكيدو، بدافع حبِّه الشديد له وحزنه العميق على فقده، مسافرًا في رحلة طويلة يبحث فيها عن سرِّ الخلود الذي استأثرت به الآلهةُ منذ اللحظات الأولى للخليقة وحرمتِ الإنسانَ منه.
ولئن فشل گلگامش في الدخول إلى عالم الآلهة والوصول إلى الحقيقة المطلقة للموت والحياة وتحقيق الخلود لبني البشر في العالم السفلي، إلا أنه لم يفقد الأمل في الخلود ولم يقطع صلته بالآلهة، بل استطاع أن يُرضي بعضها ويقنعها بالهبوط بنفسها إلى الأرض والعالم السفلي، عالم الإنسان (كهبوط عشتار وزواجها من تموز)، لتشاركه أفراحه وأتراحه، أملاً في أن تكشف له عن هذا السر - إلى أن جاءت الديانات السماوية
لاحقًا لتكمل رسم صورة الحياة الأبدية في الآخرة كما تخيلتْها ذهنيةُ الإنسان الأكادي-البابلي-الآشوري.
جدلية الموت والانبعاث
اتخذت جدليةُ الموت والانبعاث عند البابليين والآشوريين في بلاد ما بين النهرين أشكالاً إنسانية وحياتية واقعية. وقد عبَّرت معظم الأساطير والملاحم القديمة في سومر وبابل وآشور عن هذه الجدلية من خلال موت الآلهة وانبعاثها: سبات الطبيعة في فصل الشتاء وانبعاثها في فصل الربيع من جديد؛ وكذلك من خلال الصراع بين الخير والشر، وعلاقات الحب والتزاوج بين الآلهة، كما في أسطورة تموز وعشتار.
وتشكل ملحمة الخلق والتكوين البابلية إينوما إيليش محور الميثولوجيا الآشورية، حيث كانت لها أهمية كبيرة، وخاصة في الاحتفالات بأعياد رأس السنةالجديدة:
ففي اليوم الأول من الاحتفالات، التي كانت تستمر اثني عشر يومًا، كانت هذه الملحمة تقدَّم على شكل مسرحية آلام ، احتفاءً بذكرى انتصار الإله مردوخ على التنين تعامة (العماء)، صاحب الجبروت، وتخليدًا لأحداث موته وقيامته من بين الأموات في اليوم الثالث.
وهنا نشير إلى أمر هام، وهو أن احتفالات المسيحية في نيسان من كلِّ عام بذكرى انتصار السيد المسيح على قوى الشر وقيامته من القبر ما هي إلا استمرار لتلك الاحتفالات والطقوس القديمة لشعوب بلاد ما بين النهرين في نيسان.
دائرة التجسد والخلاص
كذلك كان الآشوريون، منذ القديم، ينظرون إلى الإنسان على أنه يتكون من جسد وروح:
فهو يشارك الآلهة، بقدر ما كانت الآلهة مشارِكة له في إنسانيته، في صيغة الإله-إنسان أو الإنسان-إله ، وذلك من خلال تأليه عظماء الملوك وهبوط الآلهة
إلى العالم السفلي، موطن الإنسان.
وتحدثنا أسطورة إينوما إيليش، في موضع آخر، عن احتفالات نيسان وكيف كانت تتسنم ذروتها مع تتويج مردوخ ملكًا-إلهًا على الكون - هذا الإله الذي قدسه الآشوريون في شخص أشور . وهو يبرز هنا كـ مخلِّص عظيم للإنسان؛ وهذه إشارة واضحة ذات دلالة على أن فكرة الخلاص التي قامت عليها العقيدة المسيحية لاحقًا هي أصلاً فكرة أكادية-آشورية قديمة.
ففي إحدى المخطوطات الآشورية التي تعود إلى القرن
السادس ق م، نجد أن الملك أشور بانيبال يتوجَّه إلى الإله أدد، إله السماوات والأرض، ملتمسًا:
يا مَن خلقتَ البشر بكلمة نطقتَ بها، أسألك أن تمكِّنني من الذود عن نفسي وتمنحني
حكمك العادل [...]. بك أتوسل، فتقبَّلْ ضراعتي وابتهالي، استجبْ لصلواتي، واغفرْ لي
خطاياي ونجِّني من الشرور التي تهدد حياتي.
هذا الرجاء الديني يلخِّص قصةَ الخلق، من جهة، وطبيعةَ العلاقة بين الإنسان والآلهة، من جهة أخرى. ويذكِّرنا الدعاءُ بصلاة أبانا الذي في السماوات التي
تُعتبَر من أهم الصلوات التي أوصى السيد المسيح تلاميذَه بحفظها.
هكذا نجد أن طقوس عيد أكيتو تنطوي على دلالات فلسفية وإرهاصات فكرية، تركت بصماتها عميقًا على معظم الفكر الديني والميثولوجي للشرق القديم. وقد جاء التقويم الآشوري تعبيرًا عن ضوابط الفعل الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والديني (الإيديولوجي) في المجتمع الآشوري قديمًا. ومن هنا تبرز أهمية الأول من نيسان بصفته رمزًا عظيمًا في
المجتمعات السورية القديمة. والاحتفال به يمثل استمرارا لتلك القيم والمفاهيم هو بحق احتفال بالطبيعة والآلهة والإنسان معًا,وقد عمل الإنسان الأكادي-البابلي-الآشوري على مدِّ الجسور فيما بين هذه الأقانيم الثلاثة، مفصحًا عن العلاقة التاريخية بين الله والإنسان، أولاً، وعن العلاقة العضوية بين الإنسان والطبيعة، ثانيًا. وهكذا فقد تميَّز الفكرُ الأسطوري الأكادي بنزعة تجمع بين الفكر المادي والمثالي، بين النظرة الموضوعية والرؤية الميتافيزيقية إلى الكون والإنسان.