قامت الدنيا ولم تقعد على صاحب فتوى جواز رضاع الموظف من صدر الموظفة التي تجاوره في مكتب العمل, حتى تتحقق الخلوة الشرعية!!
وهذا "العالم" لم يقل كفراً يخرج من الملة, بل إن كل ما في الأمر أنه قاس قياساً فاسداً على حديث نبوي صحيح ورد في "صحيح البخاري" , في باب "رضاع الكبير".
وفي اعتقادي أن الآثار التي ترتبت على إثارة هذه الفتوى كانت بسبب الإحراج الذي سببته, وأدت إلى وصف الدين الإسلامي بما لا يليق, لا أقل ولا أكثر. لكنها فتوى صحيحة من جهة الأصل الديني الذي اعتمدت عليه, فلماذا كل هذا النفاق ؟ والرجل لم يأتِ بجديد, فالحديث موجود في البخاري, والفقهاء تلقته بالقبول ما دام الحديث أسيراً في بطون الكتب, لكن ما أن ظهر إلى العلن حتى أخذ المزايدون في دين الله, يتبرؤون منه!!
ومن جهة ثانية لابد من الاعتراف بحق الإنسان في أن يقول رأيه, هذا إذا كنا نؤمن بحقوق الإنسان, وهذه الفتوى ليست ملزمة لأحد, إلا لأصحاب النوايا السيئة, وهي في النهاية مجرد رأي, وصاحبها ليس بذلك المقام الديني الذي يفرض فتواه على الناس, مثل شيخ الأزهر أو سيادة مفتي الجمهورية. بمعنى أن الناس ليست ملزمة تجاهه بالتطبيق.
هذه الفتوى الشاذة والغريبة, تقدم لذوي النهى مؤشراً مهماً على استفحال الظاهرة الدينية في العالم العربي, خاصة مصر. وللسخرية, تعد مصر أم الليبرالية العربية, إن جاز التعبير, منذ القرن التاسع عشر, حتى سقوطها في السبعينيات من القرن الماضي.
كما تبين من جهة أخرى, خطورة التوجه الديني في مجتمع جاهل, يرفض العقلانية وحسابات المنطق في ترشيد فكره وممارساته الحياتية. وما كان لمثل هذا الفقيه, إن جاز التعبير, أن يطلق فتواه غير السوية لولا تيقنه, من أن الطرف الآخر, المسلم الذي فقد عقله في عصر الهيمنة الدينية, سوف يتقبلها بكل سرور. ومن الملاحظ أن رجال الدين المحافظين من المملكة العربية السعودية لم يعلّقوا على الموضوع حتى الآن!!
الأمر الذي يعني بكل بساطة, أن صاحب الفتوى لم يخالف أصل الدين, وفقاً للحديث النبوي. والتخريجات المُخجلة التي ذكرها البعض من الفقهاء ضد هذه الفتوى, كما حدث في الكويت مثلاً, اضطرت إلى ليِّ عنق الحديث النبوي الصحيح باعتباره حالة خاصة لوضع خاص, وهذا هو الافتراء بعينه, لأن الأحاديث النبوية مطلقة من جهة النص والتطبيق, وبدليل حديث قتل المرتد الذي لم يقل أحد من الفقهاء حتى الآن, إنه وضع لحالة خاصة, وكذلك عقوبة الرجم للمحصَن الزاني التي لم ترد في القرآن الكريم.!!
إذن يمكن القول إن الذوق العام كان الأساس في رفض الفتوى وليس النص الديني ذاته, لأن نقد النص الأصلي سيؤدي إلى الإخراج من ملة الدين الإسلامي. وفي مقابل هذه الفتوى الشاذة, نجد سيادة المفتي المصري, يكتب بخط يده, مسألة التبرك ببول الرسول صلى الله عليه وسلم!! وبرغم إنكار البعض لهذه الفتوى, إلا أن أحداً لا يجرؤ على إنكار تبرك الصحابة بنخامة الرسول صلى الله عليه وسلم, وهو حديث صحيح!! إذن كل هذا الصياح على فتوى الرضاعة لم يمس أصل النص الديني الذي يجيز هذه الرضاعة. وفي جميع الأحوال, يعجب العاقل من الضجة المثارة حول هذه الفتوى, في مقابل الفتاوى التي تهدر دم المثقفين والكتّاب!! حقاً إنها أمة عجيبة....وبامتياز.
*نقلاً عن صحيفة "الاتحاد" الاماراتية