لم تكن رحلة عادية ,وكذلك الناس . كانت أشبه بسفر نحو شيء غامض وسحر قديم لا تدري كنهه ولكنه يعتمل في زوايا القلب غير المسيطر عليها والمنفلته ,ربما استجابة لنداء عتيق أطلقته ريح بدائيه حين هبت في قصبه يابسه ومرميه لتطلق أول لحن بدائي ,كان هو الإنسان .
ولكن ..هاهي أمامك بوشاحها الأبيض , ماذا تسميه إذا :فلم يعد حلما , مع أنك غير مدرك للأشياء والأبعاد ولا تقدر وسائلك ونوافذك على الإلمام بكل شيء والإحاطه بكل التفاصيل.
وهاهو زياد جالسا في أقصى يمين المنصة أمام البيانو يكاد لا يبين ,ينتظر أوامر قائد الأوركسترا الأرمني بتواضع.
كنا مجموعة سوريين قررنا السفر إليها هناك في بيت الدين في صيف 2001 ,في لحظة هاربة من كل الأزمنة والفصول.
انطلق البولمان بنا من دمشق وهو يضم مجموعه عجيبة ,فنانين ,أطباء ,مهندسين, طلاب ,صغارا وكبارا..جمع بين هؤلاء حبها ورغبة اللقاء , فلم تكن تشبه الرحلات الأخرى ..كانت أشبه برحله نحو الحلم ,مع أن القلب والعين لا زالا يلما ببعض التفاصيل هنا وهناك :
منظر الشاعر طلال حيدر وهو يتجول في أزقة بيت الدين مرتديا عباءة مقصبه يجرجرها وراءه بجانب تنور لبيع المناقيش , بائع البوظه في عين زحلتا الذي رفض أن يأخذ ثمن البوظه من كمال البني لأنه معجب به وبأدواره في المسلسلات السوريه بين إصرار كمال ودهشته ,وفي خارج المسرح حيث التقينا بصديق يجلس على عليّه وبيده كاميرا صغيره ولما سألناه عن السبب أجاب :أحاول أن ألتقط بعض الصور والأغاني (كانت هناك أغنية ستغنى للمرة الأولى ) وأخبرنا أن هذه هي ثالث زياره له على التوالي وهذا الصديق هو اليوم يدير إحدى الإذاعات الخاصه في سوريا.
وكان الشباب قد تزودوا من دمشق بالشموع والأصابع الفوسفورية والأعلام الصغيره والقبعات التي تحمل صور فيروز وزياد .
وترى الناس ومن بينهم الوزراء والمسؤولين في لبنان في ردهات قصر بيت الدين (الذي كان يضم معرضا فنيا كذلك)أثناء فترات الإستراحه يتجمعون ثلاثا أو أربعا لتناول قهوه سريعه أو كاس نبيذ صغير .
تتنسم أولى نسائم الحريه ,وتهرب مع الهاربين من السجون والظلم والطغيان:
طلعنا على الضو ..طلعنا على الريح..طلعنا على الشمس..طلعنا على الحرية
تكتشف حبك لوطنك بأبسط الكلمات وأعمقها..
وطني يا حكايه ..بالعز مضوايي ..ليش هالقد بحبك ..يا غاية الغاية.
وتصلي معها لأجل مدينة الصلاة..ويرتفع النشيد من الحناجر ..الغضب الساطع آت.
ويعيدك زياد من أحلامك لينزل بك إلى الأرض التي تمتلىء بالظلم والفساد :
ومعه تتعلم كيف تحصن فرحك وتجعل لحزنك جدوى,وتسخر معه وتضحك من تناقضاتك ومن بلادة الأشياء وكيف تحس بتفاصيل الحياة المنسيه:
شو هالأيام اللي وصلنالا ...
حبيبي كان هني و سهيان مافي غيرو
...
و من بعد هالعمر كبيري المزحة هي
...
ولعت كتير...خلصت الكبريته
...
نشكر ألله عنا بيانو
فينا نكسرلو إجريه
وكان زياد قد أعاد توزيع بعض الأغاني واضاف عليها بصمته ونكهته ..
تحت العريشه سوا..أصبحت عريشه عالميه ,شالك رفرف بالحاره ..أصبح الشال راية جذلى وعلامة لكل العاشقين.
تفاصيل غابت وأخرى تأتي ..غاب معظمها في حضورها .
أيها الذاهبون إلى الحلم والضوء لحضور فيروز في دمشق ,تزودوا واغسلوا قلوبكم وأعينكم ..فهناك في معبدها ,يصغر كل شيء وتنهار اللغة ,لا يبقى سوى :
وهج الضوء ونسمة الحرية.
أيتها السيده ..يا سيدة الفضة ..كم قلت لنا أن القمر بعيد والسما عاليه..ولكنها في حضورك ..لم تعد كذلك وأصبح القمر قريبا جدا ..حتى أنك تستطيع أن تلم بضوئه الآتي من جبينها .