عاموس هرئيل خمس سنوات ونصف انقضت على انسحاب الجيش الاسرائيلي من لبنان، ويبدو ان الحرب هناك ـ وليس الاجتياح الذي بادر اليه اريئيل شارون في العام 1982، بل السنوات الـ 19 المخضبة بالدم التي تلته ـ وكأنها شطبت من الوعي. عندما خرج الجيش الاسرائيلي من لبنان، في ايار 2000، توقف النقاش ايضا في السلسلة اللامتناهية من ضحايا القتال هناك، الذين تصدرت صورهم عناوين الصحف علي مدى أغلب سنوات التسعينات. ومثل سابقتها حرب الاستنزاف في السويس، كذلك الحرب المديدة في لبنان ـ دون حسم ودون انتصارات بطولية ـ الجميع فضّلوا نسيانها. الدخول الى لبنان بُحث ووُثّق بالتفصيل في كتب زئيف شيف وايهود يعري وشمعون شيفر؛ لكن أحداً لم يكرس جهداً مشابهاً للمسيرة الطويلة للجيش في المنطقة الأمنية التي جاءت بعدها أو للخطوة الحازمة لرئيس الحكومة ايهود باراك، الذي نجح في فرض الانسحاب على قيادة الجيش رغم معارضتها. غير ان لبنان بقي التجربة المتبلورة لجيل كامل من القادة والجنود الشبان الذين نضجوا فيها، بما لا يقل عن نضوجهم خلال اتفاق اوسلو، وموجة الارهاب او قتل رابين. وبشكل تدريجي نراهم يعودون للانشغال بها. حالياً يصدر الصحفي رون ليشم كتاباً (من اصدار معاريف) عن موقع البوفور (قلعة الشقيف) يثير ردود فعل جياشة وحساسة لدى المقاتلين. وينضم اليه كتاب جديد الفه بهذا الشأن عسكري، العميد موشي (تشيكو) تامير، رئيس أركان قيادة المنطقة الوسطى. تامير، وهو من ابرز القادة الميدانيين في الجيش في العقد الاخير، كان في لبنان على مدى غالبية سني القتال، من (رتبة) نائب قائد في غولاني في العام 1985 الى قائد لواء مناطقي على الحدود الشمالية خلال الانسحاب. كتابه حرب دون شارة (من اصدار معراخوت )، هو محاولة أولى لتحليل اداء الجيش، الذي خرج من المعركة وذيله بين رجليه. بكتابة مثيرة للعواطف، ومتميزة بصراحة مثيرة للانطباع، يصف تامير تدحرج الحرب، من الحوادث الأولى أمام عدو شيعي غير معروف، حزب الله، مرورا بـ تصفية الحساب و عناقيد الغضب ، مقتل رفيقه وقائده العميد ايرز غيرشتاين، وصولاً إلى الانسحاب. يقول تامير ان فكرة تأليف كتاب راودته في شتاء 2001، في طريقه إلى حفل اطلاق اسم غيرشتاين على الطريق المؤدية إلى المطلة. ثار لديه شعور ان عدم الارتياح الذي شعر به الجيش تجاه نتائج الحرب والجروح العميقة التي فتحت واسعا في المجتمع الاسرائيلي حثت العملية السريعة للكبت الذي بدأ يحصل . سبق لشخصيته المباشرة والحادة أن أوقعته في بعض الحفر في مسار تقدمه العسكري. الكتاب لا يشذ عن ذلك، حتى لو كان اسلوبه اكثر اعتدالاً. الجنود والضباط الصغار الذين قاتلوا في لبنان يبدون كمجموعة حازمة، مفكرة، منهجية، ملتزمة. الجيش الذي قاتل في صفوفه اقل بكثير. الجيش الاسرائيلي خاصة في لبنان، بحسب تامير، كان أحياناً جيشاً ثقيلاً، بطيئاً، تأخر في فهم مجريات الحرب واختار مرة تلو أخرى تكتيكات مهلكة وخاطئة في مواجهة حزب الله. الخشية من وقوع اصابات شلته. يقول تامير: الضغط الجماهيري ضد التواجد في لبنان اثر على الجيش وتغلغل الى الصفوف الاكثر تدنياً، ظاهرة التخلي عن القيم (بمعنى المتطلبات من الوحدات القتالية) تعمقت... هذه الظاهرة كانت في نظري مدمرة. عندما نفحص كل حادث على حده، من الصعب تشخيص حجم المشكلة. وقف مهمة بسبب الخشية من تعقيدات وقوع مصابين فيها بدا احياناً أنه الامر الصحيح فعله، على مدى الزمن، انعدام العزم وانهيار القيم التقطهما العدو . ويصف تامير في كتابه، بضع سنوات ارتدعت فيها القيادة العسكرية عن اي مبادرة، حتى على المستوى التكتيكي، خشية وقوع خسائر ورد فعل في الداخل. مستوى القادة الصغار أُخصي بالكامل. بعد الاخفاقات، تركزت التحقيقات على فحص نقطوي لمستوى الانصياع للأوامر لدى قائد السرية وقائد الكتيبة لما لا يحصى من الاجراءات، وبعضها لا طائل منها، بدل استخلاص العبر من الأخطاء البنيوية. وأضيف إلى ذلك قصة تغطية على ما هي عليه من خطورة، لا سيما في حوادث عملياته، فأكثر من مرة وجد قادة الميدان أنفسهم وحيدين في الساحة، أيضاً أمام تحقيقات الشرطة العسكرية. كما ان حزب الله استغل غياب المبادرة لتحقيق مبتغاه، بهجماته، التي ادت الى مقتل المزيد من الجنود. تعرض الحرب في كتابه كحرب ادمغة متواصلة، كل طرف يرد بتطوير تكتيك جديد لنقطة الضعف التي اكتشفها العدو لديه والصراع دائم التغير. وعدا عن الانتقاد، بشخص تامير تغييراً نحو الافضل في ايام رئيس الأركان امنون ليبكين شاحاك وقائد المنطقة الشمالية عميرام ليفين. بدأ الجيش يتعامل مع حزب الله على انه منظمة عصابات، ومع المعركة في لبنان على انها حرب بكل معنى الكلمة، بدل اعتبارها مهمة مزعجة وتافهة للأمن الجاري. قبل سنتين من الانسحاب ـ ويمكن تسجيل هذا الانطباع من الجزء الأخير من الكتاب ـ مال الميزان لصالح الجانب الاسرائيلي. والان، العقبة الكبرى جاءت من البيت. الأجواء الصعبة، غياب الدعم والانتقادات اللاذعة، التي ازدادت تطرفاً كلما استمرت المعركة، وضعا قادة الميدان امام مواجهة شبه مستحيلة . وينتقد تامير بشدة سياسة التعتيم الاعلامي التي فرضها الجيش على المعركة في المنطقة الامنية: غياب معلومات موثوقة في وسائل الاعلام وعند الجمهور كان سيفا ذو حدين. المعلومات الجزئية، وأحياناً غير الموثوقة التي بثت للجمهور، اضرت بقدرته على وضع الجيش في اختبار انتقاد موضوعي. ونتيجة لذلك فقد الجيش الانتقاد الذي يحتاجه كرافعة للاصلاح والتحسن . في نهاية الكتاب، يكتب تامير ان الحرب كانت خللا بنيوياً ادى بالجيش الى انسحاب احادي الجانب متسرع ودون اية ترتيبات امنية أو سياسية مع لبنان . الجيش ادار حرب استنزاف، دون حسم، وطلب منه حماية الحدود الشمالية دون ان يعطى حرية العمل. وكلما اشتد القتال الاسرائيلي لحزب الله، ارتفعت قوة الحزب فقط. هل يفهم من استخلاصاته انتقاد السياسيين والمواطنين الذين لم يدعوا الجيش ينتصر ؟ يقول تامير لهآرتس ان جوابه سلبي بالتأكيد. كما انه يخالف غيرشتاين الرأي، والذي قال قبل اشهر من مقتله في لبنان ان احتجاجات منظمة اربع امهات تعرّض حياتي وحياة جنودي للخطر . يقول تامير: لم اوافقه حينها، ولا اوافقه الان، على الجيش ان يقوم بمهمته وعلى المواطنين الاعراب عن رأيهم. أنا لم ادخل أصلا في الكتاب في مسألة مسوغات تواجدنا في لبنان. لقد كان هذا سجالاً سياسياً. حاولت ان افهم، بعدما وقع ما وقع، لماذا كان بالامكان النجاح جزئياً في المناطق (الفلسطينية) أمام الارهاب وحرب العصابات ولم يكن ذلك ممكنا في لبنان. احدى الخلاصات هي انه من الصعب الانتصار في حرب فيما انت تجلس خارجها. في يهودا والسامرة (الضفة) نحن نقاتل في الداخل، داخل ارض محددة، فيما لدينا قدرة معقولة لمنع خروج اناس ووسائل قتالية. آمل ان نكون قد تعلمنا العبرة في كل ما يتصل بفصل الارهاب عن حضنه الشعبي. جزء كبير من قوة حزب الله ينبع من الدعم الذي حظي به من مواطني لبنان .