قصة الهندسة- 9
و إنما سأقدم نموذجين لأن كلا منهما يسمح لنا برؤية صيغة مختلفة لمسلمة لوباتشيفسكي: النموذج الأول يسمح لنا برؤية مسلمة لوباتشيفسكي القائلة "من نقطة خارج مستقيم يمكن إنشاء أكثر من مواز لهذا المستقيم"، و النموذج الثاني يسمح لنا برؤية مسلمة لوباتشيفسكي القائلة "مجموع زوايا المثلث أقل من قائمتين"
هاكم أولهما...
إذن، ففي هذا النموذج:
- الدائرة تقابل المستوي في هندسة إقليدس، لا يوجد شيء خارج الدائرة، و حتى محيط الدائرة غير موجود: فهو يمثل اللانهاية.
- نقاط سطح الدائرة تمثل نقاط المستوي الإقليدي.
- أوتار الدائرة تمثل مستقيمات المستوي الإقليدي.
- ما نعنيه بالتعبير "مستقيمين متوازيين" هو: "وتران لا يتقاطعان" (داخل الدائرة، تذكر أنه لا يوجد أي شيء خارج الدائرة).
نرى بوضوح أن كافة (راجع الفقرة اللاحقة) مسلمات إقليدس متحققة في هذه الدائرة، فيما عدا المسلمة الخامسة التي نستبدلها بمسلمة لوباتشيفسكي: وضوحا، من نقطة خارج مستقيم (وتر) يمكن رسم أكثر من مستقيم (وتر) لا يقطعه...
لكن المشكلة هي أننا إن رسمنا مثلثا في هذه الدائرة (ثلاثة أوتار متقاطعة) فزواياه تبدو لنا كما لو كانت مساوية لزوايا المثلث الإقليدي المساوي! فأين ادعاؤنا أن مجموع زوايا المثلث أصغر من قائمتين؟
ثم إن تذكرنا أن قياس الزوايا هو أصلا قياس لنسبة طولين، لاكتشفنا مباشرة مصدر المشكلة!
ذلك أن المسلمة الثانية لإقليدس تطالبنا بما يلي: "يمكن أن نمدد مستقيما ما إلى ما لا نهاية له"... فإن نظرنا لمستقيماتنا، يعني أوتار الدائرة، لوجدنا أنها... يعني قصيرة شوية!
في الحقيقة هذه ليست مشكلة: ذلك أننا في المستوي اللوباتشيفسكي لا نقيس المسافات كما نقيسها في المستوي الإقليدي، لكننا نعرف البعد بين نقطتين كما في الصيغة الموجودة في الشكل أعلاه.
يمكن لنا بسهولة أن نتحقق من أن تابع المسافة هذا يحقق الخصائص التالية:
- قيمته موجبة أو معدومة.
- إن انعدمت المسافة بين نقطتين تطابقت النقطتان، و بالعكس: البعد بين نقطة و نفسها معدوم.
- حين تقترب إحدى النقطتين من محيط الدائرة فالمسافة بينها و بين النقطة الأخرى تقترب من اللانهاية (و هذا منسجم مع ما ندعيه من أن محيط الدائرة هو المالانهاية).
يبقى فقط أن نبرهن أن تابع المسافة هذا يحقق خاصة المثلث كي نعترف به كتابع مسافة حقيقي و مفيد. هذا البرهان ممكن لمن يرغب أن يجري بعض الحسابات المعقدة، فيما يخصني سأكتفي بالإشارة لماهية هذا "البعد".
في الحقيقة هذا البعد يمثل "علاقة ما" بين النقاط الأربعة (النقطتين المعنيتين و نقطتي المحيط)، هذه العلاقة هي العلاقة التي لا تتغير حين نحرك هذه النقاط على خط النظر الذي يصل بينها و بين عين الناظر.
أظن أنكم جميعا سبق لكم و رسمتم بيتا: فأنتم ترسمون الجانب الأبعد أصغر بقليل من الجانب الأقرب. حين يكون الرسم صحيحا، اي مطابقا لما نراه في الحقيقة، يكون الرسم محافظا -بالنسبة لكل مجموعة من أربع نقاط- على العلاقة أعلاه.
هذا الشيء يسمح لنا بتخيل أن هذا البعد هو مكافئ (طبولوجيا) للبعد العادي في العالم الإقليدي: يعني عن جد، خذ قطة عادية في العالم الإقليدي العادي، و قربها من أو أبعدها عن عين الناظر: الناظر سيراها باستمرار قطة، و لن يراها تتحول لحلزونة مدغشقر العملاقة.
نعم، هذا البعد ليس فقط بعدا جيدا في هندسة لوباتشيفسكي، و لكنه فوق ذلك يجعل هندسة لوباتشيفسكي مكافئة طبولوجيا لهندسة إقليدس: الأشكال المستمرة في هندسة إقليدس هي اشكال مستمرة في هندسة لوباتشيفسكي، فلا يوجد تشقق أو انقطاع.
و فوق ذلك فهذا البعد يجعل المسلمة الثانية محققة أيضا بدورها: ذلك أننا كلما اقتربنا من محيط الدائرة كلما ازداد "البعد" بين النقاط التي تبدو لنا متقاربة. و لإيضاح ذلك، دعنا مجددا نتخيل قطة، لكن هذه القطة تتجول في عالم لوباتشيفسكي، فمثلا هي تقترب من محيط الدائرة، و هو المالانهاية كما اتفقنا، عندها سنرى حجم القطة يصغر: ليس لأنها بعيدة، لكن لأن قياس هذا "الحجم الأصغر" هو نفس قياس حجمها الأول وفق لتابع المسافة الذي عرفناه.
يمكن لنا بإجراء الحسابات اللازمة أن نستنتج أن الزاوية بين مستقيمين في مستوي لوباتشيفسكي هي اصغر مما تبدو عليه، لكننا نفضل أن نأخذ نموذجا آخر لمستوي لوباتشيفسكي يسمح لنا أن نرى هذا الأمر بوضوح...
في هذا النموذج الجديد نعرف البعد بين نقطتين تماما كما عرفناه في المثال أعلاه، بشرط أن نعتمد أطوال أجزاء القوس عوضا عن أطوال أجزاء الوتر.
فيما يلي سأستخدم هذين النموذجين من دون تفريق بحسب الحاجة، ذلك أنهما متكافئان تمام التكافؤ...
أعود لإيضاح بعض صيغ مسلمات لوباتشيفسكي، و لأجل ذلك ساستعرض بعضا من صيغ مسلمة إقليدس و أعرض وضعها في عالم لوباتشيفسكي، و أترك لكم استنتاج صيغة مسلمة لوباتشيفسكي المقابلة (و هي عادة نفي بسيط للمسلمة المذكورة)...
أرجو منكم أن تتذكروا تعريف مستوي لوباتشيفسكي: هو دائرة، محيطها هو اللانهاية، المستقيمات هي أوتار الدائرة (أو، في نموذج آخر، أقواس الدوائر المتعامدة مع الدائرة)، المستقيمان المتوازيان هما وتران لا يتقاطعان. كما أرجو منكم تذكر قصة قياس الأبعاد في مستوي لوباتشيفسكي (القطة التي تتجول).
و لي عودة... بل عودات!