كمال خلف الطويل *
كان أشرف مروان برتبة ملازم أول في سلاح الحرب الكيميائية عندما تعرّف ببنت العشرين منى، طالبة الجامعة الأميركية، ذات يوم من صيف 1965 وفي إطار لعبة التنس ــ الهواية المشتركة بينهما ــ في أحد نوادي القاهرة الرياضية.
رُفعت حينها التقارير للوالد جمال عبد الناصر غير مزكّية الشاب لاشتباه بانتهازيته ووصوليته. فاتح الوالد ابنته بالمسألة فوجدها ــ في حوارات متفرقة ــ مصمّمة على ولهها به، وهو الذي أوقعها في شباكه بتدرّج وحذاقة، ووصل معها إلى إبداء الرغبة في الاقتران بها شريكة حياة، فبادلته رغبة بقناعة. بعد طول تأجيل، خضع الوالد لرغبة كريمته منى، فاستدعى والد أشرف، العميد أبو الوفا مروان، وتفاهم معه على الإجراءات، وفعلاً تمّ القران في تموز 1966.
لم تكن منى برجاحة عقل أختها الكبرى هدى ولا بذكائها. فهي قد عُرفت بالانفـــــــــــــــــعــــــــــال وببـــــــــــــعض تباهٍ متزايد بالوالـــــــــــد، وبتردٍّ في التحصيل العلمي انتهى بها إلى تحصيل مجموع في الثانوية العامــــــــــــة عام 1963 لا يسمح لها بالانتســــــــــــاب إلى أي جامـــــــعة مصرية، ما اضطـــــــــــرها إلى التسجيل في الجامعة الأميركية ودفع رسومها الباهظة.
قرّر عبد الناصر أن يبقي الصهر الجديد تحت ناظريه بأن عيّنه أوّلاً في الحرس الجمهوري ــ سرية الكيمياء حيث خدم لعامين، ثم نُقل أواخر عام 1968 إلى مكتب الرئيس للمعلومات ليكون تحت الإشراف المباشر لعين الرئيس الساهرة سامي شرف.
أمضى أشرف سنوات ثلاث (66-69) وهو على هذه الحال. في ذهنه أنه صاهر «الريّس» لا ليرسف في أغلال قيود رجاله بما يجعله حبيساً في قــــــفص، وبما يشلّ من قدرته على استغلال وضعه العــــــــــــــائلي الجديد، فتفتّق ذهن الشاب عن ادعاء متابعــــــــــــة التحصيل العلمي في حقل الكيمياء في الخارج ليفلت من القفص. وعلى رغم استرابة أولية في الطلب، إلا أن ثقة مكتب الرئيس بقدرته على إبقائه تحت النظر عبر سفارة لندن ــ وفيها محطة استخبارات ــ حدّت من مفاعيل الاسترابة، ومكّنته بالتالي من الهبوط في لندن.
كان للشك والاسترابة منذ نقطة البداية في صلاحية أشرف وجودة معدنه برهان ساطع في اكتشاف القنصل المصري سوء سلوكه في الاغتراب، إذ طلب من سعاد قرينة الشيخ الكويتي عبد الله المبارك الصباح معونة مالية بحجة أن مخصصاته التي تدفعها القاهرة له كمبعوث لا تكفي لسد نفقاته في بلد مكلف، وخصوصاً أنّه صهر رئيس الجمهورية. دفعت سعاد الصباح له ما طلب، وهو ما سبق أن فعلته مرّة ومرّات مع أنور السادات وجيهان عند الطلب. رفع القنصل تقريره لمكتب الرئيس، فجاءه الجواب بشحن أشرف مروان على أول طائرة. جرى التحقيق معه فاعترف بذنبه وعلّله بغلاء المعيشة.
كانت التوصية لعبد الناصر ــ وقناعته معاً ــ بأن الزلل يبرّر التطليق. لكن نصرة منى لزوجها أسهمت مرة أخرى في تليين الموقف، وفي السماح له بالعودة للندن لإكمال دراسات الماجستير مع دفعه المبلغ المستدان لسعاد الصباح، وتعهّده بعدم العودة لممارسات كهذه في المستقبل، وبالتوجّه إلى مكتب الرئيس إن احتاج إلى أي عون.
عند هذا المفصل، تدبّر أشرف مــــــــــــروان أمره فقدر ــ والحديث ما زال عام 1969 ــ أن يقوم بمخاطرة العمر. كان ذلك بعد النوبة القلبية الأولى التي أصيب بها جمال عبد الناصر في 11 أيلول 1969. خشي أشرف مروان أن يقترب أجل والد زوجته وهو ما زال لا يلـــــــــــــــــوي على شيء ولم يستفد من صلته به بشيء، وبالتالي فإما الآن أو تتبدّد الفرصة.
عزم على التوجه إلى عرين العدو نفسه عارضاً نفسه عميلاً بامتياز. استطاع أن يفلت من شباك الرقابة محسناً أساليب التمويه وقاصداً مكتب الموساد في السفارة الإسرائيلية بلندن. أدرك ضابط الموساد بعد كثيف استكناه وتفحّص أنه حصل على صيد ثمين أتاه تطوّعاً، وكل ما يبغيه أمران: المال الوفير والطبيعة النائمة (التي تستدعى عند الحاجة الماسة فقط).
عاد أشرف مروان من لندن وهو يحمل ماجستير الكيمياء في يد، وعمالة الموساد في اليد الأخرى... ذات يوم من عام 1970. لم يتغير عليه شيء. زاول عمله في مكتب الرئيس للمعلومات مكلفاً بجمع المعلومات الاجتماعية والنشاطية والعامة.
فارق الرئيس الحياة في 28 أيلول 1970، ولم يؤثر ذلك في وظيفة أشرف تحت إدارة سامي شرف.
درست زوجة الرئيس الجديد جيهان خريطة عائلة عبد الناصر، فوجدت في أشرف مروان ضالّتها في التقرّب ممّن يتشابه معها ومع قرينها في النزوع والهوى. قامت بتقريبه منها مصطفيةً إياه، من دون أن يثير ذلك استغراب سامي شرف، إذ الشاب في نهاية المطاف صهر عبد الناصر. تمّت عملية التقارب من طريق سعاد الصباح ــ التي سبق لها أن أقالت أشرف من عثرته المالية في لندن واحتفظت معه ومع زوجته بعلائق الود بعدها.
كانت لحظة الانطلاق الكبير لأشرف مروان بعدما نقل لأنور السادات استقالات رجال عبد الناصر مكلفاً من أحدهم، سامي شرف، الذي اختاره لعادية دخوله منزل السادات. حدث ذلك مساء 13 أيار 1971.
عُيّن يومها سكرتيراً للرئيس للمعلومات خلفاً لسامي شرف مكلفاً بمهمة مزدوجة: أن يكون ضابط الاتصال مع معمر القذافي ورجاله، وكذلك ــ على المقلب الآخر ــ مع كمال أدهم وعبره فيصل السعودية. هاتان القناتان كانتا مصدر اغتناء أوسع مما كانت عطايا الموساد توفر له، بل كانت قناة كمال أدهم جسر عبور للتعرف بوكالة الاستخبارات المركزية راعية الموساد وأمه الحنون.
بقي دور أشــــــــــــــرف كــــــــــــامناً من دون تفعيل طوال عام 1971 وجلّ عام 1972. لكـــــــــــــــن الانتـــــــــــــفاع الأول الذي حازه الموساد من عميله النائم حــــدث بعد اجتـــــــــــماع المجلس الأعلى للقوات المسلحة في 24 تشريـــــــن الأول 1972، الذي حدد فيه السادات خطته للقادة العسكريين طلباً لحرب محدودة تكتفي بشريط عمقـــــــه 12 كيلومتراً علــــــى ضفــــــــة القنال الشرقية.
ظنّ أشرف أن السادات مــــــــــــوشك على الحرب، فقام بتحذير الموساد. ما إن اقترب 1972 من الانتهاء حتى وضح أن هذا كان إنذاراً كاذباً. مرّة ثانية، انطـــــــــلـــــــــق أشرف للعمل بأن أبلغ أربابه في الموساد أن أنور السادات وحافظ الأسد اتفقا على شن الحرب في 15 أيار 1973، وكان ذلك صحيحاً فعلاً إلى حين وإلى أن غيّر المتحالفان رأيهما لضرورات تكتيكية تتعلق بالجهوزية، فأجّلا المـــــــــــوعد إلى وقت آخر من العام. حينها تصرف موشي ديان بحذر، فقام بتعبئة جزئية للاحتياط قبل أن يكتشف أن هذا كان إنذاراً كاذباً أيضاً.
مرّت شهور الصيف متثاقلة إلى أن كان أشرف في صحبة السادات أثناء زيارته فيصل في 29/8/73 وعلم أن قرار الحرب قد أوشك أن يتخذ من دون معرفة موعد محدد على رغم استنتاجه أنها مسألة أسابيع. فضّل عدم الإخطار حتى لا يفقد صدقيته ــ إن هو بلّغ بشكل غائم وغير دقيق ــ والانتظار حتى يعرف الميعاد. وقد عرف بالتمام والكمال مساء يوم الأربعاء 3 تشرين الأوّل عندما عاد وزير الحربية أحمد إسماعيل من دمشق متفقاً مع حافظ الأسد على اليوم والساعة لشن الحرب: 6 تشرين الأوّل، الثانية ظهراً.
ما إن عرف ما عرف حتى تحرك متصلاً بضابط اتصاله في روما مصرّاً على الالتقاء برئيس الموساد نفسه تسفي زامير في اليوم التالي. وفعلاً التقى الاثنان مساء الخميس 4 تشرين الأول، فنقل أشرف لزامير معلوماته حول الحرب، لكنه استعمل التوقيت الذي تمسّكت به مصر لحين زيارة أحمد إسماعيل لدمشق في اليوم السابق، وهو السادسة مساء، ما عنى أنه لم يكن يعرف بالتوقيت النهائي.
حدث الإبلاغ قبل أربعين ساعة من موعد الحرب، ما شكل امتداداً تكتيكياً شديد الأهمية للإخطار الاستراتيجي الذي وفره الملك حسين في زيارته المفاجئة لرئيس الوزراء الإسرائيلي غولدا مائير يوم 25 أيلول مبلّغاً إياها بأن الحرب في الطريق وأنها مسألة أسبوعين أو ثلاثة.
يتساءل المرء كيف استطاع أشرف مروان تبرير مغادرته القاهرة قبل الحرب بيومين؟ لا أظنه سيعدم سبيلاً للتبرير، وخصوصاً بحجة توفير معدات اتصال أوروبية حديثة أو من طريق الانتقال من و/أو إلى ليبيا.
لقد كان لإبلاغ أشرف مروان فضل استعداد إسرائيل لمقابلة الهجوم السوري القادم عبر الجولان، إذ لولاه لاكتسح السوريون الجولان بأكمله من دون مقاومة ولا جيوب في الخلف، ولاحتاج الأمر إلى أيام أو أسابيع لاستجلاب قوات من الجنوب لتقوم بمهمة استعادة الجولان جزئيـــــــــاً أو كلياً.
استمر أشرف مروان في منصبه إلى عام 1976 حين عيّنه السادات رئيساً لهيئة التصنيع الحربي العربي بسبب قربه من رجالات الحكم في السعودية والخليج وليبيا، ولتكون منهلاً ينهل منه ثروة ورشى وعطايا، وهذا ما كان. والثابت أن نافذته الليبية ــ وبالتحديد عبر الرجل الثاني عبد السلام جلود ــ وبالتوافق مع بعض الضباط الطيارين المصريين الذين اشتركوا في صفقة الميراج الفرنسية لليبيا أواخر 1969 وقادوا أسرابها، قد وفّرت له ولهم ثروات طائلة كتجار سلاح وقابضي عمولات من الطراز الأول.
حُلّت الهيئة بعد معـــــــــــــاهدة الصلح المصرية في آذار 1979، فخــــــــــــرج أشرف مــــــــــروان إلى القطاع الخاص جاعلاً من لندن مقره وعـــــــــــــرينه، وليضع في الاستعمال الثروة المهولة التي جناها من عمالة الموساد، ومن فساد الذمة في آن.
هو واحد من جحفل من العملاء العالي المستوى الذين ينتشرون في أرجاء العالم العربي منبثّين داخل مؤسسات الحكم وصنع القرار وهاتكين لأسرارها كالكف المفتوح. المهم في الأمر أن من تزوج بنت عبد الناصر لتكون جسر وصوله إلى العلا، لم يستطع أن يتجسس على مصر عبد الناصر في حياته، على رغم تجنّده في الموساد قبل وفاته. لكنّه أزهر وازدهر في فترة عميل المؤسّسة الأم... أنور السادات.
* كاتب عربي مقيم في الولايات المتّحدة الأميركيّة