قصة الهندسة..14
إن أردنا أن نتحدث عن الخيام يمكن لنا أن نقول:
"فيما يخص موضوعنا، المسلمة الخامسة، فإن الخيام حاول أن يبرهن صيغتها
المتعلقة بالشكل الرباعي (و هي الصيغة القائلة: مجموع زوايا الشكل
الرباعي أربع زوايا قائمة)"
يعني كلا من ابن الهيثم و الخيام حاولا برهان نفس الصياغة...
هو أبو الفتح عمر بن ابراهيم النيسابوري، و لقب بالخيام لاشتغاله
بصناعة الخيم في صغره، ولد في نيسابور في بلاد فارس عام 1048 للميلاد
في ظل الحكم الرحيم لمؤسس السلالة السلجوقية طغرل بك الكبير...
عن طفولة الخيام في نيسابور و دراسته فيها هناك أسطورة متواترة تجعل
منه صديق طفولة لكل من الوزير نظام الملك، وزير ألب أرسلان، و حسن
الصباح، زعيم الإسماعيلية المعروف بشيخ الجبل... فوفقا لهذه الأسطورة
كان الثلاثة (عمر الخيام، نظام الملك، حسن الصباح) طلابا في نفس
المدرسة، ثم إنهم تعاهدوا فيما بينهم أن يخلص كل منهم للآخرين و من
تصبه الثروة و الجاه أن يتقاسمهما مع صديقيه الآخرين، و هكذا فحين بدأ
نظام الملك في العمل لدى ألب أرسلان -ابن أخ طغرل بك و خليفته لاحقا و
حاكم خراسان وقتها- أرسل ، أي نظام الملك، أرسل لصديقيه يدعوهما كي يفي
بالعهد الذي تعاهدوا عليه. فأما حسن الصباح فقد تظاهر بالقبول كي يحاول
اغتيال نظام الملك، و حين فشل في ذلك هرب و التحق بمحازبيه... أما عمر
الخيام فقد طلب من نظام الملك أن يعطيه ما يسمح له بممارسة العمل
العلمي من دون أن يعاني ضائقات الحياة...
بصراحة أنا لا أرغب أن أعلق على هذه الأسطورة الهوليوودية، رغم أن من
تنسب إليه هو إنسان جدير بالثقة: نظام الملك نفسه... و لكن هل حقا هو
رواها أم أنها رويت و ألحقت به؟ لا أعلم!
لكن ما نعلمه علم اليقين هو أن عمر الخيام عاش و عمل في حماية نظام
الملك، فاستفاد و استفادت البشرية من حكمة الوزير نظام الملك و تقديره
للعلم و العلماء، و هذا آخر ما سنقوله عن الوزير نظام الملك...
طبقت شهرة عمر الخيام الآفاق منذ أن اكتشفه الغرب في منتصف القرن
التاسع عشر و صار اسم عمر الخيام و رباعيات عمر الخيام رمزا بشريا
خالدا و إيقونة لا يجوز أن يقترب منها الإنسان إلا خاشعا راكعا
متعبدا... و هات يا ملاحظات عبقرية عن "روح الشرق" و عن "مادية الغرب"،
و هات كلام و يا سلام عن "الفلسفة" في رباعيات عمر الخيام... و لمه؟
يعني أولا "رباعيات" عمر الخيام هي، كما يدل اسمها، رباعيات: قصائد من
أربعة أبيات! فهل يمكن مقارنتها مثلا بالشاهنامه، القصيدة التي تتضمن
خمسة آلاف بيت؟
ثم أصلا عمر الخيام لم يكن شديد الفخر بقصائده! يعني هو لم يعمل على
نشرها خلال حياته، على عكس أعماله العلمية! أكثر من ذلك: لقد كتب عمر
الخيام رباعياته بالفارسية، في حين أن مؤلفاته العلمية كانت جميعا
باللغة العربية، لغة العلم الوحيدة و اللغة العالمية آنذاك (يعني
كالإنجليزية في أيامنا هذه)... يعني وضوحا عمر الخيام لم يكن يكتب
الشعر لينشره...
ثم إن نظرت لحياته و لإنجازاته العلمية، من بحوث في معادلات الدرجة
الثانية و الثالثة، للبحث في الهندسة الإقليدية، و هو بحث جدي و عميق
لدرجة أن ساكيري -أحد المعلقين الأوروبيين على إقليدس- نسخ الفصل الأول
من كتاب عمر الخيام كما هو، لم يزد عليه حرفا و لم ينقص! و عن عمله في
علم الفلك و قيامه بوضع تقويم شمسي أدق من التقويم الذي كان معتمدا
وقتها في بلاد الغرب...
يعني سؤال:
لو أن الخيام شرب و لو ربع الخمر الذي ذكره في رباعياته، و لو أنه ضاجع
و لو خمس النساء اللواتي تغزل بهن... أكان بقي لديه أي متسع من الوقت
للبحث العلمي؟
القصة و ما فيها أن الغربيين الذين اكتشفوه كانوا يبحثون عن "شي شغلة"
تسمح لهم أن يقولوا تلك السخافات من نوع "روحية الشرق" مقارنة بـ"مادية
الغرب" و ما إلخ من السخافات... فتعثروا بعمر الخيام، و نشروا تلك
الأكذوبة... و قامت الدعاية بإنجاز بقية العمل...
بكل صراحة، أعتقد أننا لا نبالغ إن قلنا أن "روحانية الشرقيين" ليست
أكثر من مثال على "غباء بعض الغربيين"
لكن فيما يخص موضوعنا، المسلمة الخامسة، فإن الخيام حاول أن يبرهن
صيغتها المتعلقة بالشكل الرباعي (و هي الصيغة القائلة: مجموع زوايا
الشكل الرباعي أربع زوايا قائمة)
أهم ما يقال بهذا الخصوص هو أن عمر الخيام تهجم و بعنف على ابن الهيثم
و على محاولته إدخال التجربة الفيزيائية (العجلة و العصا) في عالم
الرياضيات و رأى في ذلك عدوانا لا يمكن القبول به على مبادئ العلم
الهندسي كما وضعها أفلاطون و كما سار عليها كل علماء الهندسة منذ
تاليس... ثم إن عمر الخيام قدم "برهانه" الخاص لهذه المسلمة...
لن أدخل في تفاصيل "برهان" عمر الخيام، فقط سأشير لنقطة... مثيرة
للسخرية!
فبعد الهجوم العنيف الذي شنه أبو الفتح على ابن الهيثم و على عمله،
فإنه، و لسخرية القدر، أنشأ "برهانه" المزعوم معتمدا على نفس المسلمة
المخفية التي استخدمها ابن الهيثم، و هي المسلمة القائلة أن البعد بين
المستقيمين المتوازيين يبقى محدودا...
لكن دع، يعني قد يحق لنا نحن الذين نقرأ من أعلى هذا القرن الواحد و
العشرين، قد يحق لنا أن نبتسم من أخطاء سابقينا، لكن ما يجب علينا أن
نفعله فهو أن ننحني احتراما لعبقريتهم و لجهدهم المخلص بحثا عن
الحقيقة...
فلهذا نحن ننحني احتراما لعبقرية أبي الفتح عمر بن ابراهيم الخيام
النيسابوري.
و لي عودة...