يوميات عائلية
-1-
هَزُّ الجِّذْعِ
عماد ليس فقط صديقاً للأخطل ، إنه خال زوجته أيضاً ، إنه يحب ابنه
البكر حيدره ولا ينفكُّ يتحدثُ عنه في كل مجلسٍ لكَ معه : حيدره قال
.... حيدره فعل ....حيدره ..... حيدره .....
كم تمنى لو يقول الأخطل فيه شعراً.
حيدره في ربيعهِ الثالث ، إنَّهُ طفلٌ جميل ..... شقيّ ... محبوب .....
براءتُهُ غاضبةٌ ... غضبُهُ بريء .
ولكن تُبّاً لعبقرٍ وشياطينها ، فلم يقتحمْ أحدُهم مُخيلةَ الأخطل
بقصيدةٍ يستحقها هذا الغاضب البريء .
يُطوِّقُ عمادٌ ابنَهُ بعينيهِ ، ويرقُبُ حركاتِهِ الجميلةِ وهو
يُداعبُ الأخطلَ .
استشعرَ عمادٌ أنَّ الأخطل سيقولُ فيهِ شعراً يحبُّهُ ، فاستحضَرَ
قلماً وورقةً ليَخُطَّ هذا الشعر ، لكنه لم يشأ أن ينتظر ، فطلبَ ذلكَ
من الأخطل .
لكنَّ الأخطل ما زال يُحِبُّ عماداً أكثرَ من ابنه ، فأجابه بقوله :
أُناجي حيدراً يا ربِّ عفواً .. عمادُ الدِّينِ قصدي واحتسابي
فُراتٌ سلسلٌ عذبٌ أمامي .. فهــلْ يُجدي التَيمُّمُ بالترابِ
شقيقُ عماد الذي كانَ يشاطرُهم تلكَ السهرةَ وبعد أن اعتدلَ في جلوسِهِ
ورُغمَ أنَّهُ أوَّلُ من باركَ للأخطلَ مُعلناً قبولَهُ بزواج الأخطل
من ابنة شقيقته فقالَ لهُ يومَها: (( لتكن قوافيك مصاغاً لها)) ، سألَ
الأخطلَ ساخراً :
- هل هذا الشعرُ لكَ ؟ إني أشك بمقدرتكَ على الارتجالِ هكذا ؟
أجابهُ الأخطلُ وقدْ أخذَ بهِ سُكرُ الموقفِ كُلَّ مأخذ:
أَتدري يا صديقي بأنَّ شِعري .. نجيعٌ قدْ تدفَّقَ من جـروحي
ومَهرَ حبيبتي شـعرٌ مصوغٌ .. قوافيهِ مرتلةٌ بإنجيلِ المـسيحِ
أنا الضِّرغامُ أفترسِ القوافي .. أنا الهيصورُ من نسبٍ صحيح
أنا ربُّ القـوافي و المعاني .. أنا البتَّارُ في القولِ الفصــيحِ
وما هي إلاّ بضعُ أيامٍ ويجتمعُ هذا الخال وعائلتُهُ وعمادٌ وعائلتُهُ
في حديقةِ منزلِ الأخطل ، تلك الحديقة التي تختزلُ أجملَ ما في ربيعِ
حمصَ ، وتستضيفُ أجملَ صُورِ القمر ، إنهُ البدرُ الذي أبى أن
يُجالسَهُم إلاّ وهو على أريكةِ عليائهِ .
الكلُّ مسرورٌ .... الكلُّ تسامرَ.... الكلُّ أدلى بما لديهِ من
((نُكتٍ)) على الحماصنة إلاّ حبيبةُ الأخطل ،
الزوجةُ التي يُحب لم تَكُنْ سعيدةً بالقدرِ الذي يفرضُهُ وجودُ خاليها
اللذين تُحِبُّهُما ، والأخطلُ وحدهُ مَنْ يعرِفُ السبب .
أجل لقد تشاكلا بالأمسِ وعَنَّفَها بقسوةٍ تفوقُ قسوةَ سوطِ الغيرةِ
الذي لا تنفكُّ تستخدمُهُ بمناسبةٍ وبغيرِ مُناسبة
لاحظَ الخالُ الأكبرُ ذلكَ ، فحاولَ جاهداً أنْ يُصلحَ الوضعَ وبشكلٍ
غيرِ مباشر غازلَ الخالُ زوجتَهُ الجالسةَ بجانبهِ ليلفتَ انتباهَ
الآخرين ، ثمَّ وهو يُرَبِّتُ على كتِفِ ابنةِ شقيقَتِهِ زوجة الأخطل ،
أردفَ مُعلِناً على مسمعٍ مِن الجميع : أنَّهُ لمْ يرَ كابنةِ شقيقته
جمالاً ، وإنها تزدادُ جمالاً مع ازديادِ العُمر وانتهى بسؤالِ الأخطل
: ألا تستحِق منكَ قصيدةً أيها الأخطل ؟
صَوَّبَ الأخطلُ نظرَهُ خِلسةً إلى حبيبتهِ ، فرآها هي الأخرى تختلسُ
النظرَ بِدورِها، لمْ تَقُلْ شيئاً ، كما لم يفعلِ الأخطل .
إلا أنَّهُ وأمام تصفيقِ الجميع مؤيدينَ طلبَ الخالِ الأكبر ، لم يجِدِ
الأخطلُ بُدّاً من القولِ ، فقال :
جميلةُ الوجهِ أهوى كُــلَّ خافقةٍ .. فيها وأهوى عقلَها القَزِِمـا
كمْ قَدْ نويتُ بأصغريَّ طلاقَــها .. فهوى اللسانُ بلفظِهِ وتلعثما
يا بؤبؤَ العيـنِ كُفِّي عَن مُناكدَتي .. فالقلبُ ناءَ بهمِّهِ
وتألَّمــا
يوماً حَســبتُكِ تعشـقينَ مناقبي.. فوجدتُ أنّكِ تعشقينَ الدِّرهما
بالجَّهلِ شاطَرْنا الحضيضَ وغَيـ .. ْرُنا بالحُبِّ طــالَ الأَنْجُما
صفَّقَ الجميعُ ، وطلبوا من الحبيبينِ المُتخاصمين أن يتصالحا ،
فاستجاب الحبيبان وتعانقا ، ووعدتْ أمامَ الجميع أنْ لا غيرةَ بعدَ
اليومِ وبالتالي لا نَكَدْ .
وقبل أن يَهمَّ الجميعُ بالخروجِ ، سألَ الخالُ الأكبرُ زوجَتَهُ بصوتٍ
عالِ متعمداً أن يسمعَهُ الجميع وخاصةً الأخطل ، أليس هذا القول
للمتنبي ؟!
فأجابَهُ الأخطلُ مُستهجِناً ما سَمِعَ :
- مرةٌ أخرى تشكِّكُ يا صديقي ؟
- ليس تماماً ، ولكن ... !!
- إذاً ! اسمع هذهِ لعلَّكَ تتوقفُ عن شكوكِكَ:
مرَّة أخرى تشكِّكُ يا صديقي .. وتزعمُ أنّ شعري ليس شعري
أنا ملكٌ تخُرُّ ليَ القــوافي .. وتجري طائعـاتٍ أينَ أَجري
أُجَنِّنُ عبقراً إنْ قلتُ شِـعراً .. وأَحكُمُ بالقوافـــي كلَّ بحرِ
ويركَـعُ تحتَ أقدامي جريرٌ .. ويعـبدُني الفرزدقُ و المعرِّي
كفاني ما ألاقي من عَــداءٍ .. أَتُشرِكُ في عدائي سوءَ دهري
صفَّقَ الجميعُ وهم يتغامزونَ ويتضاحكون ، فأدركَ الأخطلُ أنَّ ثمَّةَ
مؤامرةٍ حاكَها الخالُ ضِدَّهُ بقصدِ استفزازِهِ ودَفْعِهِ لقولِ
الشعرِ .
فقالَ للخالِ الأكبر : أوقعتني مرّّةً ثانيةً فَكدْتَ تقتُلَني غيظاً.
أجابَ الخالُ وهو يُودِّعُ : أكانَ مِنَ المُمْكِنِ تَساقُطُ الرُّطَبِ
لولا هَزُّ الجَذْعِ ؟
أما سمعتَ قولَهُ تعالى :