إن الإشارة إلى السهولة التي تتلاعب فيها الإدارة الأمريكية لتتوصل إلى اتخاذ قرارات تؤدي إلى حروب جديدة في الشرق الأوسط , واختلاق الظروف بمساعدة الموساد التي تسمح بربط عدد من الاغتيالات مباشرة بسوريا من قبل الإعلام المسيطر, وإلقاء ظلال الشك على جدية التحقيقات التي فوضت بها الأمم المتحدة , كل ذلك اقتضى احترام الجمهور الذي يسعى إلى ممعرفة الحقيقة. ولكن في نفس الوقت عداوة أولئك الذين ينزعجون من تحقيقاتك. هل أشارت وسائل الإعلام إلى وجود كتابك ملف الحريري ؟
جورغين كاين كولبيل : في ألمانيا صمت الإعلام " الكبير" عن وجود ومحتوى كتابي - وبكل نجاح- . الإعلام العالمي قدم تقارير مفصلة عنه. الطبعة العربية استحوذت على اهتمام جمهور الشرق العربي واعتبرت أبحاثي خطوة مهمة يمكنها أن تقود إلى المرتكبين الحقيقيين للاغتيال الجبان للحريري .
س.ك. : ولكن , في بلدنا , وماعدا تجاهل السلطات والصحف لحتقيقك المعاكس, ألم يحاول صحافي من سبيغل أن يطعن في سمعتك باتهامك بمعاداة السامية؟
ج.ك.ك. : بالنسبة للسلطات الألمانية يوجد حقيقة واحدة : ما قدمه الوكيل ديتليف ملليس على قاعدة البناء الهش الذي شيده وقد تلقى من يد رئيس الجمهورية هورست كوهلر , وسام الصليب الفيديرالي للاستحقاق كمكافأة . أما بالنسبة لصحافي السبيغل الذي أشرت إليه , فهو م. هنريك م. برودر. في البداية عندما نعتني ب " معادي السامية و " فاشي أحمر" - ويجب أن يكون معلوماً أنني اتهمت الموساد بلعب دور مهم في عملية اغتيال الحريري - فقد أخذت كلامه بمنتهى الجدية. والحقيقة ما كان يجب الاهتمام بما يقوله , فهو جزء من مجموعة من الصحافيين الذين ليس لديهم أي عمل سوى الصراخ ب" العداء للسامية" أو " الإسلاموفوبيا ".
س.ك. : ماذا جرى للصحافي الفلسطيني سعيد دودين الذي كان من المفروض أن يقوم بالدعاية لكتابك؟
ج.ك.ك. : قبل أن أشرح دور سعيد دودين , اسمحي لي أن أعرض عليك بعض المقاطع من الوثائق التي تخصه والصادرة من وزارة أمن الدولة للجمهورية الديموقراطية الألمانية السابقة . في شباط 1983, يبدو أن موظفي الوزارة توصلوا إلى أن دودين يعمل لصالح ال KGB . ولكن وبعد شهرين فقط , في نيسان 1983, حذّروا بأن دودين هو عميل لألمانيا الغربية و\ أو لل CIA ولاحظوا أن " دودين يمكنه أن يكون جاسوساً ممتازاً داخل منظمة التحرير الفلسطينية . وبالإضافة إلى ذلك احتمال أن يكون عميلاً مزدوجاً بالتعاون مع مخابرات ألمانية الشرقية السابقة .
س.ك. : إذن لم يكن وجود السيد سعيد دودين في طريقك بالصدفة؟
ج.ك.ك. : إن تقرير قوات الأمن السابقة لدولة ألمانيا الشؤقية بتاريخ 13 آذار 1985تشكل بكل الأحوال معلومة هامة : " لقد أعلن للجمهور أن سعيد كتب , مقابل 30000 مارك ألماني, أطروحة الدكتوراة لعضو المجلس المركزي لمنظمة التحرير محمد عباس ( أبو مازن) . أبو مازن درس في الاتجاد السوفييتي السابق ." وقد يكون هذا هو السبب الذي قاد الروس إلى طلب ملف المخابرات الألمانية حول سعيد دودين عام 1983. فهل يكون السيد عباس متورطاً منذ تلك الحقبة في دائرة السي آي إية\ موساد , كما كانت تشك أو تعلم الكي جي بي؟ وهكذا كان من المنطقي أن تهتم المخابرات بدودين , الرجل الذي حرّرأطروحة عباس . صدفة ؟ ما إن وقعت العقد مع الناشر البرليني كاي هوميلوس في أيلول 2005, حتى ربطني مع سعيد دودين , الذي لم أكن أعرفه. وبحسب الناشر فإن دودين كان لديه العلاقات وتتوفر لديه المعلومات وعلي التعاون معه ! ولا أتمنى في الواقع أن أطيل الحديث عن العلاقة بين دودين وهوميلوس .
ولنعد إلى علاقاتي في تلك الفترة مع سعيد دودين. بعد عدة لقاءات, اكتشفت أن دودين كان يستخدم للحوار الطريقة
Saïd Dudinالتي تسمى في السيكولوجية القضائية , " الكذبة غير المكتملة" , حيث تخلط المعلومات المغلوطة مع تصريحات تعكس الحقيقة. لأنه في ضمير الكاذب يجتمع عنصران متوازيان - خيال وحقيقة- ويغامر الكاذب دائماً بإظهار شيء ما. باختصار , بهذه الطريقة السلبية ذهنياً , أصر بعناد على إرادة معرفة المعلومات التي لدي حول التحقيق في ملف الحريري.
سعيد دودين كان يغريني بالسفر وبالظهور على التيليفزيون وبكل الآلية التي تؤدي إلى الشهرة . وبما أن كل ذلك لم يفلح معي وكنت أزداد ابتعاداً عنه , فقد عرض علي أن أعمل معه في كانون الأول 2005, كنوع من السكرتير الخاص وذلك في شقته. وكان المفترض أن أراجع بعض الوثائق التي " ستباع " فيما بعد " بمبلغ لا بأس به. وعندما طالبني بأخذ عرضه بالاعتبار لتحسين " وضعي الاقتصادي" شعرت بالنفور. ولهذا السبب قطعت كل علاقة لي مع دودين , في 12 كانون الأول 2005, بالبريد .
س.ك. : هل تعتبر هذه التجربة مثالاً للمشاهد التي يتعرض لها الصحفيون الذين يحققون في قضايا " حساسة" ؟
ج.ك.ك. : لا أستطيع التعميم ولا يمكنني الكلام سوى عن تجاربي الشخصية. أعتقد أن هناك أوساطاً محددة تهتم دائماً وبشدة بالصحفيين الذين يمتلكون الشجاعة للمواجهة في مجالات سياسية حساسة . بالنسبة لي , إنها التجربة الأولى في هذا المضمار. بدأت التحقيق بنية صادقة لمعرفة الحقيقة حول عملية الاغتيال. وفي طريقي حاولت حورية البحر المسماة سعيد دودين أن تسحرني بغنائها . ولم تفلح باستمالتي. ومن لا يتنبه لذلك في لحظة معينة يصبح أسيراً لها. وسوف يجد نفسه سريعاً متورطاً بأعمال غير شرعية ويتعرض للابتزاز, وهو الغاية من كل العملية على الأرجح. وإذا وصلنا إلى هذا الهدف يكون الدور قد لعب .
إن الصحفي النزيه الذي يقع في هذا الفخ ليس له إلا أن يكسر مرآته التي تعكس له صورة الخائن . ويبقى أمامه الخيار : فإما أن يتوقف عن الكتابة أو أن يصبح بائعة هوى في خدمة الإعلام المسيطر أومخبر مسير لإنجاز مهمات أخرى .
س.ك. : هل باعتقادك يوجد العديد من الناس الذين تجندهم المخابرات ويقومون بدافع المال بأفعال مشبوهة؟ وما هي النصائح التي تسديها إلى العرب الشباب - وخصوصاً من الشرق الأوسط - الذين وبنية حسنة يتعاونون مع جهات استخباراتية دون أن يعلموا أنها عناصر تابعة للسي آي إية أو الموساد أو الإم أي 6؟
ج.ك.ك. : إن الدافع المادي فعال جداً . في قضية سعيد دودين , لاحظت المخابرات السابقة للدولة الألمانية في 1975 ما يلي:" بالنسبة لوضعه فهو يتلقى مبلغاً كبيراً , فمسكنه يكلفه 500 مارك ألماني, وهو في حالة سفر مستمر , إلى إنكلترة , فرنسة وإيطالية , أمضى في القاهرة 7 شهور في 1974 وشهرين في موسكو وبيروت". واستنتج المخبر من ذلك " أن دودين يعيش في مستوً أعلى من مدخوله التجاري ويموله أشخاص أو هيئات أخرى ."
وللأسف هناك العديد من الناس الذين يقبلون بتوفير " معلومات" مقابل المال. وموضوع كون المعلومات دقيقة أو لا , هذه قضية أخرى . لدى المخابرات كل شيء يشرى . إن تجنيد المخبرين والعملاء هي قضية غالباً وسخة. والمخابرات الغربية لا تختلف في أساليبها عن المعسكر الشرقي السابق .
وهنا لا يمكنني أن ألقي تصريحات أو أعطي نصائح جاهزة. وغالباً أيضاً , ما تجند المخابرات عناصر لها علاقة بالجريمة, وهؤلاء يتقبلون الابتزاز ويصبحون طوع الأمر. ويجدون أنفسهم في وضع مستقل. وبالطبع هناك مجرمون جاهزون لكل المهمات .
س.ك. : هذه الجهات المخابراتية التي تورط الناس , ألا تشكل تهديداً خطراً للديموقراطية ودولة القانون؟ هل يعلم المواطنون بأن أجهزتهم السياسية تعمل بدون شفافية؟
ج.ك.ك. : إن مؤسسات المراقبة وشرطة الدولة تنمو باضطراد؛ وخصوصاً في الدول المسماة ديموقراطية. وبالطبع , تحت غطاء " الحرب ضد الإرهاب" ؛ هذا السلوغان الذي أطلقه الرئيس بوش خلال أعوام في العالم أجمع. الحقوق الأساسية والحريات المدنية التي ألغيت تحت هذا العذر في بلادنا " الديموقراطية "سوف يصبح من الصعب استعادتها حتى بعد أن تنجلي حقبة بوش المظلمة.
س.ك. : إن تصريحاتك لاقت أثراً حاسماً من قبل بعثة الأمم المتحدة حول التحقيق الذي وصفته بالمنحرف. وتحقيقك المعاكس أساء للمحقق ميلليس. فهل حاول إسكاتك؟
ج.ك.ك. : لقد استعمل كتابي كدليل للقضية . وقاد إلى معايير أخرى لتناول التحقيق . بمعنى أنه لم يعد يركز فقط على سورية, وبدأ يواجه ويأخذ بالاعتبار عدة نظريات تتعلق بالمذنبين. فالموساد لم يكن حتى ذلك الوقت في عداد المشتبه بهم ولا حتى مدعو الديموقراطية أي " اللجنة الأمريكية من أجل لبنان حر" ولا حكومة لبنان في المنفى التي يديرها الموساد \ سي آي إية, بمركزيها في القدس وواشنطن . أما عن إمكانية السيد مليس في جعلي أسكت : في الحقيقة إن كلاب حراسته متيقظين تماماً . وما يجعلني أفتخر ؛ أن محامي السيد ميلليس تدخل في أيلول 2006 لأن عنوان أحد كتبي لم يعجبه .
ولكن التجربة التي خضتها مع دار النشر هوميليوس كانت منفرّة أكثر. فكما أسلفت لقد قطعت علاقتي بسعيد دودين في أيلول 2005. في آذار 2006 وقعت دار هوميليوس , ورغم إرادتي, عقداً معه من أجل الدعاية والإعلان والعلاقات العامة للنسخة العربية من الكتاب. وبعدها أصبح كل شيء كريهاً . أنا , الكاتب , لم أحظ على أي "حق للكاتب" للطبعة الأولى من كتابي ملف الحريري ؛ وكانت حصتي نسختين مجانيتين. وهنا يجب أن يطرح السؤال : في هذه الحالة , من هو مع من ؟ وما هو الهدف؟ ولماذا يعامل الكتاب - ولست وحدي - بهذا الشكل ؟ في الحقيقة , هذه الطريقة يتبعها الخصم السياسي دائماً وتتلخص في إفلاس الكتاب المزعجين لإرغامهم على الصمت . وبالطبع, هذا يشكل جزءاً من الأسلوب النمطي لحماية الدولة بالتسلل إلى المنابع , وكسب التأثير والمعرفة المسبقة لما يطبخ من " متفجرات" في دور النشر لتحضير الإجراءات الانتقامية .
وثمة مثال آخر يوضح أن هناك شيئاً ما في أدغال النشر لا يعمل بشكل صحيح : لقد أظهر سعيد دودين , رجل العلاقات العامة لدار نشر كاي هوميليوس , في 7 أيار 2006, الكبرياء التي سمح لنفسه من خلالها بمحاولة توريط الحكومة السورية. في هذا اليوم , وخلال مؤتمر في دمشق, حيث كنت أقدم لكتابي حول اغتيال الحريري وأمام مئات المستمعين والتيليفيزيونات والصحف العالمية والوزراء والسفراء , وما إن أنهيت كلامي حتى أخذ دودين الميكروفون من يدي وابتدأ مرافعته.
وفي اليوم التالي ظهر في الصحيفة السورية " الشام نيوز" الخبر التالي:" بعد المحاضرة , تكلم الباحث الفلسطيني سعيد دودين بحدة ودعا إلى مهاجمة السفارات والمصالح الغربية في المنطقة ..." ولكن الوزير د. رياض نعسان آغا صرّح أن ما ما قاله السيد دودين يعبر عن رأيه الشخصي." والعديد من التقارير الصحافية الأخرى شهدت على هذه المداخلة المتطرفة .
س.ك. : هل كان السيد دودين مكلفاً باستغلال القاعة لصب الزيت على النار وإحراج السوريين وتفريغ العمل من قيمته ؟
ج.ك.ك. : في الحقيقة فإن الحكومة السورية التي وضعت مع إيران منذ الحرب العراقية في أعلى " القائمة السوداء" للإدارة الأمريكية , قد أدركت أن هناك مؤامرة. إيران وسورية ولبنان , في الشرق الأوسط والأقرب هم البلدان الوحيدة التي لا تخضع للسيطرة المباشرة أو غير الماشرة للغرب. وأترك لكم مهمة تحديد ما إذا كان السيد دودين عميلاً خلاّقاً .