وبفضلها تمكنت روسيا من الحفاظ على استقرارها في قلب العواصف والأمواج المضطربة، التي هزت أركان الولايات المتحدة الأميركية نفسها، وصرفت أنظار الصين والهند إلى قضايا أخرى، مثل التحديث الداخلي وتعزيز النمو الاقتصادي، مع العلم بأنها الظروف نفسها التي اكتسبت فيها جميع الدول المنتجة والمصدِّرة للنفط، رافعة دولية كبيرة.
ولو كان بريجنيف أو شيرنينكو مكان بوتين اليوم، لما فرَّطا في هذه الورقة النفطية الرابحة مطلقاً. وهذا ما جعل من بوتين لاعباً دولياً مُرعباً في الوقت الحالي.
ولذا فإنه يمكن القول إن الخطوات الأحادية المنسوبة لموسكو الآن، لا تضاهيها إلا أحادية البيت الأبيض التي أبداها خلال السنوات الست الماضية. ولمن يشكك في مصداقية هذه المقارنة، سنضرب له مثالاً واحداً عليها، بما نرى من الكيفية التي تستخدم بها موسكو صوتها في مجلس الأمن الدولي. وكان آخر ما فعلته موسكو في هذا الصدد، تصويتها لصالح صربيا وسحقها لآمال سكان كوسوفا في تحقيق الاستقلال الذاتي لإقليمهم. وقد كان سلوك موسكو في هذه القضية، شبيهاً أو مطابقاً لسلوك الولايات المتحدة الأميركية الداعم لإسرائيل في وجه تطلعات الفلسطينيين بإقامة دولتهم المستقلة، نتيجة لانحياز واشنطن الثابت إلى صف إسرائيل في كافة القرارات التي تتخذها الأمم المتحدة في هذا الصدد. وعلى النحو نفسه، أصبح في وسع موسكو التحكم بما يجب، أو ما لا يجب، أن يفعله مجلس الأمن الدولي إزاء كل من إيران وكوريا الشمالية، باستخدامها لحق «الفيتو» الذي تتمتع به داخل المجلس.
وهكذا تمتد القائمة. وعلى الصعيد نفسه، لم يألُ الوزراء الروس جهداً في استخدام ما يسمى بـ «دبلوماسية خطوط النفط» في الضغط على الجمهوريات المجاورة لبلادهم والمستقلة عنها، مثل بيلاروسيا وأوكرانيا وغيرهما، بغية إرغامها على الانصياع لإرادة موسكو والاعتراف باعتمادها التام على موارد الطاقة الروسية. والملاحظ أن لهذه الدبلوماسية رسالة ترهيب أخرى موجهة لدول أوروبا الغربية نفسها. أما جمهوريتا إستونيا ولاتفيا فقد ذاقتا أمرّ العقاب الروسي الذي وقع عليهما جراء إزالتهما لما أسميتاه بـ «ذكريات الحرب السوفياتية»، ولما اتُّهمتا به من إساءة معاملة لمواطنيهما الروس.
ولفرط دهشتها فقد أدركت الشركات النفطية الغربية للتو، أن إبرام عقد مع موسكو يقضي بحق هذه الشركات في السيطرة على موارد الطاقة هناك، ليس بالضرورة أن تنظر إليه الحكومة الروسية على أنه التزام قانوني مقدس لديها. فما أن تستل السلطة الروسية سيف سلطتها، حتى تعاود المطالبة بإجراء تعديلات جوهرية في شروط العقود المبرمة، بما يضمن للكرملين والهيئات التابعة له، نصيب الأسد من تلك الأسهم والموارد.
وبالنتيجة فقد أرغمت كبريات الشركات الدولية العاملة في مجال الطاقة، مثل إيكسون وكونكو فليبس وBP للاعتراف بضعفها التفاوضي أمام سطوة الكرملين، مع العلم بأنها الشركات التي طالما عُدت لاعباً دولياً مستقلاً يحسب له ألف حساب.
ولاشك أن الكثير من المديرين التنفيذيين لهذه الشركات، قد فركوا آذانهم دهشة مؤخراً، لدى سماعهم بآخر الأخبار التي بثت عن مزاعم ملكية موسكو الجديدة لسواحل ومياه القطب المتجمد الشمالي. ذلك أن هذه المزاعم إنما تتضمن حقوقاً حصرية لموسكو في التنقيب عن النفط في قاع القطب الشمالي. وفيما يبدو إجمالاً، فإن موسكو تمضي في حفز مزاعم حقوقها الدولية، بالسرعة ذاتها التي تعلن بها انسحابها من المعاهدات الدولية الخاصة بالسيطرة على الأسلحة.
وتبقى الحقيقة أنه ليس ثمة شيء واحد يشير إلى أن بوتين ينهج نهجاً مغايراً الآن لتاريخ طويل من تقاليد السياسة الروسية منذ عهد «إيفان الرهيب». والشاهد أن لتدفق السياسات الروسية من القمة إلى القاعدة، تاريخاً يعود إلى ألف عام. ولئن بدت هذه الممارسة أكثر لفتاً للأنظار الآن، فما ذلك إلا نتيجة لتأثير عاملين مؤقتين سائدين هما: الاعتماد الدولي الأعمى حالياً على طاقة النفط، ثم انشغال الرئيس بوش إلى حد الهوس بحربه الدائرة على الإرهاب والعراق. وعليه فإن من الصحيح القول، إن كل الذي يفعله بوتين الآن ليس سوى المشي في ذات الطريق المفتوح الذي مهده له الغرب في الأساس.