في حي الميدان ساد التسامح الديني بين السكان ومسلموه دافعوا عن نصاري حيّهم في احداث 1860 الطائفية
سلطان باشا الاطرش أنفق علي الثورة من ماله الخاص.. وجدي كان واسطة اتصاله مع رجالاتها
صقر ابو فخر
في خضم الاضطراب العميم الذي شهدته سورية، ولا سيما بعد استقلالها في سنة 1943، كان نبيل الشويري شاهداً علي بعض جوانب هذا الاضطراب. فهو، منذ يفاعته الأولي، عرف ميشال عفلق كسـاحر وقديس معاً. وتدرج في مدارج السياسة وفي معارج الفكر السياسي علي يديه، وتفتح وعيه علي القومية العربية شبه العلمانية التي صاغها عفلق، ثم تمرد عليه وأسقط هالة القداسة عنه، وانحاز إلي أكرم الحوراني، ثم لم يلبث أن انخرط في التآمر السياسي والانقلابات العسكرية مع سليم حاطوم وبدر جمعة، وحُكم بالإعدام. وقادته مصائره اللاحقة في المنفي البيروتي، والباريسي، إلي إدارة الظهر للسياسة كلها، ثم راح، بهدوء، يعيد النظر في تجربته الشخصية، وأسلم عقله لحقبة من التفكير النقدي الهاديء. ولعل نبيل الشويري كان شبه مرآة عكست البعث نفسه وتجربته العاتية في الاضطراب السياسي والبلبلة الفكرية والتآمر وانقلاب الأحوال والأخطاء القاتلة، فضلاً عن النزوع الرومانسي إلي صوغ مشروع مستقبلي لدولة قوية موهومة.
لم يكن لنبيل الشويري أي شأن مباشر في سلطة البعث التي انبثقت في 8 آذار 1963، ولم يشارك في صنع الأحداث العاصفة التي شهدتها سورية منذ ذلك التاريخ فصاعداً، ولم يكن له أي دور في المصائر التي انتهي إليها البعث بشظاياه الكثيرة، إنما كان شاهداً راصداً لتجربة البعث في سورية، وكان، إلي ذلك، مناضلاً في ذلك الحزب إبان صعوده، ثم راقب بحسرة انحداره وتطايره في جميع الاتجاهات. وهذا الحوار هو خلاصة هذه التجربة. ومهما يكن الأمر، فإن أهمية هذا الحـوار لا تكمن في أنه يؤرخ لحقبة من التاريخ المعاصر لسورية، بل في محاولة إعادة قراءة الأحداث في ضوء التجربة الشخصية.
الطفولة والعائلة والأمكنة الأولي
ولدتَ في حي الميدان في دمشق العتيقة. كيف تتذكر طفولتك في هذا الحي؟
صحيـح أنني ولـدت في حي الميــدان، لكنَّ والـدي لم يلبث أن انتقـل، مبكـراً، إلي حي القصّاع، أي إلي الحي الشرقي من المدينة. أما طفولتي الأولي فقد أمضيتها في الميـدان حيث بيت العائلة، وفيه جدتي وأعمامي وعمّاتي، فلطالما كنت أمضي أياماً عندهم خصوصاً في الصيف. كما أن بيت جدي لأمي وأخوالي وخالاتي هو أيضاً في الميدان. فأنا ميداني حقاً. وها إنني عدت إلي الميدان بعد هجرة طويلة، وأعدت بناء بيت جدي من جديد وسكنت في الميدان ثانية. ولا أخفيك أني أميل إلي عادات أهل الميدان، فهم أقرب إلي خشونة أهل البر وبساطتهم، منهم إلي طراوة أهل المدينة ودمشقتهم.
في الميدان تغيرت اسماء عائلات
خارج الأسوار لم يكن هناك حي باسم الميدان، بل مكان اسمه ميدان الحصي. كان مجرد مكان لسباق الخيل ولنزهة الخيالة، ومحطة للوافدين من الأرياف الجنوبية إلي المدينة.
دمشق مدينة مفتوحة علي الأرياف الجنوبية في الأساس. فشرق دمشق غوطة ثم بادية الشام، وفي الغرب وادٍ محصور، وفي الشمال جبال جرداء. الجنوب هو الفضاء المفتوح. والجنوب عبارة عن السـهول الخصبة في حـوران والجولان وجبل العـرب. وعلي جانبي هذا الميدان، الذي هو مجرد طريق ضيق، نشأت الحارات يميناً ويساراً.
حي الميدان، كما أتذكره، كان مجرد طريق ترامواي أي عبارة عن سكّة حديد تبدأ في ساحة المرجة وتنتهي عند بوابة الله. وكان الرقم 1 هو رقم الترامواي الخاص بالميدان، لأن قطاره كان يربط هذا الحي الكبير بالمدينة منذ أوائل القـرن العشرين. الترامواي رقم 2 لم يكن موجوداً لأنه كان مرصوداً لحي ركن الدين، وظل هذا الخط بلا قطار. الرقم 3 كان لحي الشيخ محي الدين، ورقم 4 للمهاجرين، ورقم 5 للقصّاع، ورقم 6 لدوما.
إذن، هذا الطريق، الذي هو طريق السكة، وكان اسمه السلطاني قبل تدشين السكة الحديد، كانت تتفرع منه عدة حارات تبدأ بالسويقة ثم بالميدان التحتاني. والميدان مقسّم إلي ثلاث جهات: التحتاني والوسطاني والفوقاني. الحـي الأقرب إلي المدينة اسمه التحتاني، ومنه تهبط إلي المدينة. ونحن نقول نازل عَ المدينة و طالع عَ الميدان . الميدان التحتاني يعني السويقة وباب المصلي والقرشي. الميدان الوسطاني ينتهي بـ الجزماتية . أما الميدان الفوقاني فينتهي عند بوابة الله. وهذه التسمية جاءت من كون طـريق الحج يبدأ من هذه البوابة فسميت بوابة الله . في الحي الذي صـار اسمه باب المصلي كان ثمة جامع يدعي باب المصلي ، وفي هـذا المكان كان الحجاج يقفون ويصلون ثم ينطلقون إلي مكة. وبوابة الله عبارة عن حارات وأزقّة ضيقة متفرعة من حارات عديدة.
المسيحيون، الذين سكنوا الميدان كلُّهم من أصول ريفية، غير أن أكثريتهم سكنت زقاق التيامنة في باب المصلي وفي زقاق الموصلي وزقاق القرشي وزقاق العسكري.
مثل بلدة جرمانا؟
وفي القصاع أيضاً وفي حرستا. حتي إن عائلات مشهورة من عائلات دمشق تغيرت أسماؤها في الميدان. عائلة عربي كاتبي مثلاً من دمشق القديمة صار اسمها في الميدان الرجّال .
أنا ولدت في سنة 1933 في الميدان. كان جدّي توفي وترك خمسة أبناء وخمس بنات. نشأت في بيت كبير من البيوت القديمة مساحته 425 متراً مربعاً، أي أنّه بيت من بيوت الميسورين في ذلك الزمان، تتوسطه فسحةٌ سماوية تسمي أرض ديار، فيها بحرة ماء وشجر، ويتألف البيت من سبع غرف وقاعة لاستقبال الضيوف يعلو سقفها أكثر من خمسـة أمتار، أما الفرش فهو من الطراز القديـم. وكان في بيت جدي ياخور للخيل، وهذا الياخور أُغلِقَ عندما حلت السـيارة محل الخيول، وتحوَّل إلي حمام حديث، فالعائلة قبل ذلك كانت تستحم في الحمامات العامة، مثل أهل ذلك الزمـان. كان بيتاً جميلاً بجميع المواصفات. لكننا اضطررنا إلي هدمـه منذ نحو سبعة عشر عاماً وأنشأنا في مكانه مبني حديثاً ليستوعب بقية أفـراد العائلة، خصوصاً أن خدمته أصبحت متعذرة علي الساكنين.
طفولتي عشتها في حارة النصاري أي في باب توما والقصّاع. كنت أذهب إلي بيت جدّي للزيارة فقط. لكـن رفاقي ظلـوا دائماً من الميادنة الذين انتقلوا إلي القصاع وباب توما. والسـبب في انتقالنا من الميـدان إلي باب توما هو أن إخوتي الكبار باتوا في حاجة إلي المدارس الثانوية، ولم تكن في الميدان مدارس ثانوية ولا مواصلات، ولأن شقيقاتي أصبحن صبايا ، ويجب أن يكون المسكن قريباً من مدارسهن، ولهذا انتقل والدي إلي حارة النصاري، ودرسنا في المدارس التابعة للطائفة الأرثوذكسية.
مدرسة الآسية؟
نعم. الآسيّة، وهي تعادل التجهيز، ولم تكن تعلم الفرنسية جيداً، تماماً مثل مدرسة التجهيز التابعة للحكومة. أي أنها مدرسة وطنية تختلف عن مدارس اللعازارية ومــــدارس بطريركية ...الخ.
هناك قصة طريفة عن حي الميدان ربما يكون لها مغزي ما. كانت الأكثرية الساحقة في أحد صفوف مدرسـتنا من المسيحيين، وكان في الصف اثنان من الميادنة فقط، أنا وصديق الطفولة فايز بطح. أما بقية التلاميذ فهم من حارة النصاري. ثم جاءت مجموعة من الطـلاب المسلمين الذين رسبوا في مدارس التجهيز أو من الذين لم يرغبوا في إعادة صفهم في شـهادة البريفيه . فجأة وجدت نفسي أنا وفايز بطح من أصدقاء هذه المجموعة، بينما بقيـة التلاميذ نفروا من هؤلاء الوافدين الجـدد. ولم أكن أفهم الأمـر تماماً. في ما بعد، اكتشفت أن الذين نفروا من التلاميذ الجدد هم أبناء لأشـخاص قتلوا في الطوشة أو نهبت بيوت أهاليهم. وهم يمتلكون تراثاً من الحكايات والقصص والروايات عن تلك الأحداث الفظيعة.
تقصد بـ الطوشة أحداث سنة 1860؟
نعم بالتأكيد. في الميدان لم يكن يوجد تراث من هذا الطراز. فالنصاري في الميدان عاشوا مع المسلمين حياة مشتركة تماماً، ولم يحدث بينهم أي أمر مكدر مثلما حدث في مدينة دمشق نفسها. كنت أنا وفايز بطح عضوين في حزب البعث العربي الاشتراكي. ومن الممكن أن يكون السبب في انتسابنا إلي حزب البعث هو هذا التسامح. لأننا كنا نشعر دائماً أن لا فرق بين المسيحي والمسلم. بينما المسيحي ابن حارة النصاري، في تلافيف دماغه، ظل ينفر من المسـلم. طبعاً أنا أتحدث هنا عن مرحلة الثلاثينات والأربعينات من القرن العشرين، وهذه الظاهرة انتهت إلي حد بعيد. إن تراث حي الميـدان، من الناحية الطائفية، مختلف عن تراث حارة النصاري بالتأكيد. فمسلمو الميدان خلال تلك الحوادث، لم يكتفوا بالدفاع عن نصاري حيّهم، بل استقبلوا من هرب من حارة النصاري وطيّبوا خاطرهم. وطبعاً كان لذلك أسبابٌ عديدة منها ما هو اقتصادي، فالتزاحم الذي كان بين أبناء المدينة ـ مسلمين ومسيحيين ـ علي الصناعات الحرفية وعلي الوكالات التجارية لم يكن موجوداً في الميدان لأنَّ التجارة في ذلك الحي كانت مقصورة علي مال القبان: تجارة حبوب ومنتجات حيوانية، وكانت الصناعات الحرفية محصورة في المدينة. ومنها أسباب تاريخية: فالاحتكاكات التي حدثت في المدينة بين الأكثرية المسلمة والأقلية المسيحية حول تطبيق التنظيمات القانونية (خط شريف كولخانة مثلاً)، لم تحدث في الميدان وخاصة في أيام حكم إبراهيم باشا المصري. ومنها طبيعة أهالي الميدان وزعمائهم الأقرب إلي أخلاق الفروسية. كما أن من المعروف تاريخياً أنّه عندما اشتدت حوادث 1840 ـ 1860 في لبنان وبدأت تنتقل عدواها إلي الشام قام خطيب جامع الجزماتية ـ في وسط الميدان ـ بتوعية المسلمين وتذكيرهم بالمعاني الحقيقية لذمة الرسول، وأنَّ من قتل أو اعتدي علي مسيحي أو علي حقه فكأنّه اعتدي علي ذمة الرسول. وكرر ذلك في سلسلة من خطب الجمعة في ذلك الجامع، والخطيب هذا من آل البيطار الذين تقطن أكثريتهم في الميدان.
الشويري والشوير
من أين اكتسبت عائلتكم اسم الشويري ؟
نحن في الأصل من آل جديداني، من جديدة عرطوز. جد أبي كان اسمه إبراهيم جديداني. ولسبب ما غادر جديدة عرطوز وجاء إلي الميدان، ولا ندري السبب في ذلك أبداً، لأنه مات باكراً وترك ابناً كان عمره آنذاك ثلاث سنوات ونصف السنة. وهذا الابن هو جدي الذي أسس العائلة. وكان لإبراهيم المذكور شقيقان هما حبيب وسليمان هاجرا إلي أميركا الجنوبية. أحدهما لم يتزوج والآخـر لم يرزق إلا بنات، فانقطعت الصلة بيننا وما عدنا ندري أين صار. أما جد أبي الذي تزوج بربارة، وهي من آل صوايا في الشوير بلبنان، فرزق صبياً وحيداً أسماه يوسف. والجدة هذه كان لها شقيق ميسور تاجر حبوب في دمشـق وله دكان في جبل الدروز، ولم يكن راضياً عن سلوك ابنه، بينما كان ابن أخته يوسف جديداني، أي جدي، فتي متفتحاً وجدياً، وراح يعمل مع خاله، ثم ورث تجارته بعدما نشأ علي تربية والدته بربارة، أي جدتي الشويرية. أصلاً لا يوجد عائلة كنيتها الشويري . إنها مجرد نسبة إلي بلدة الشوير اللبنانية التي يوجد فيها خمس عائلات أساسية هي: صوايا ومجاعص وشعيا ومرهج وقربان.تماماً من حيث السكن طبعاً.
كيف تسرد تاريخ عائلتكم؟
جدّي تربّي تربية قاسية. وعمل، منذ البداية، في دكان خاله في جبل الدروز وبالتحديد في قرية اسـمها أم الرمّان . المسيحيون في جبل الدروز فلاحون. لكن جدّي لم يكن فلاحاً بل صاحب تجارة بسيطة، يجلب البضائع الدمشقية إلي القرية عوضاً عن أن ينزل ابن الجبل في تلك الأيام إلي المدينة لشرائها. لم تكن هناك مواصـلات ميسرة إلاّ الجمال أو الخيول. العربات لم تكن موجودة حتي ذلك الوقت. فكان جدّي يأتي بهذه البضائع إلي الفلاح مباشـرة. وكان جدّي يشارك أهل جبل الدروز في الغزوات ضد البدو. ففي تلك الأيام كان البدو يغزون العمران في حوران وجبل الدروز وبعض القري الواقعة علي حدود البادية. وكان للدروز ميزة التضامن في وجه البدو، وهم فرسـان أشدّاء. فإذا جاء النفير سرعان ما يهبون لنجدة إخوانهم، وكان جدّي يهب معهم ويتقدمهم أحياناً في رد الغزو.
عندما اندلعت الحرب العالمية الأولي، كان جدّي قد صارت لديه عائلة كبيرة: خمسة أبناء وخمس بنات. وكانت تجارته في الحبـوب جعلته واحداً من أصحاب البوايك إلي جانب أغوات المسلمين من العائلات المهمة، ولم يكن في دمشق، آنذاك، إلاّ ثلاثة مسيحيين من أصحاب البوايك أحدهم جدّي. ومع بداية تلك الحرب بدأ الأتراك يضطهدون أهل الشـام. وما كان ابـن الميدان، فضلاً عن أبناء الأحياء الأخري، يقبل الإهـانة من الجندي التركي. فاعتقل الكثير من أغوات الميدان ومعهم جدّي. وبحسب الرواية المتواترة، اعتقل لأن رسالة مـن عمي المهاجر إلي أميركـا الجنوبية وقعت في يد المراقبة البريدية التركية وفيها تعريض بالدولة العثمانية. وكاد جدّي أن يُرسل إلي المحكمة العرفية في عاليه التي لا تتورع عن الحـكم بالإعدام فوراً. لكن مصيره كان جيداً، فصدر العفو عنه وخرج من السجن ليواجه مشكلة ابنه أي والدي. فقد كـان أبي مطلوباً للجندية، لكنه رفض الخدمة العسكرية واختبأ في دمشق. وكان عمّي الذي يلي أبي بالترتيب يواجه مشكلة أخري من شأنها أن تؤدي به إلي السجن، فغادر إلي جبل الدروز. أما جدّي فهو من مواليد سنة 1864 وله صلة قوية بزعماء الجبل من آل الأطرش. وفي سنة 1911 رجـع سلطان الأطرش من الجندية إلي بلده، وكان والده ذوقان الأطـرش أعدمه الأتراك في غيابه وفي السنة نفسها. وجد سلطان الأطرش البيت وقد أصبح خراباً والأراضي مُهملة ولا يوجد له معين غير الأرض. نزل سلطان إلي الشام ليستدين من التجار كما يفعل معظم أصحاب الأراضي. لم يكن سلطان معروفاً لتجار الشام أو لأهل الميدان من الذين يتاجرون مع سكان جبل الدروز. وربما كان هؤلاء لا يحبون كثيراً أهل القريّة بلدة سلطان الأطرش. فوالد سلطان الأطرش لم يكن رجل تجارة ومعاملات بل رجل دين و آدمي جداً. بينما عمه فايز الأطرش لم يكن محبوباً لصعوبة التعامل معه. وعندما جاء سلطان الأطرش إلي الميدان لم يعرف التجار أنه رجل آدمي كأبيه، فلم يرض أحد أن يقرضه مالاً، إلي أن أرشدوه إلي جدّي. وهذه الرواية سمعتها من أبي الذي كان حاضراً في مجلسها. قال لي أبي إن لسلطان الأطرش هيبة طاغية بشـاربيه الكبيرين، وكان وجهه معبّراً جداً، وعيناه شديدتي التأثير وله حضور كبير. وبينما كان جدّي يقدم له الضيافة، اكتشف بفراسـته شخصيته المميزة، فقال له ماذا تحتاج؟ فأجابه سلطان: كذا. فأعطاه ما طلب فوراً. ولما قال له سلطان ألا تريد ورقة بذلك؟ أجابه جدّي: كلا، سيماؤهم في وجوههم والكلمة هي الشرف. بعد سنة أو سنتين، جرت العادة أن يذهب التجار لاستيفاء ديونـهم في المواسم. وكان سلطان الأطرش قد تزوج وصارت له عائلة وزراعة، وأصبح شيخاً كبيراً ومحترماً في قومه. وعندما وصل جدّي إلي داره، نادي سلطان الأطرش زوجته لتأتي له بالذهب، وقال لجدّي: أتريد مالك ذهباً هذا كوم، أو تريده قمحاً فهذا هو البيدر. ومنذ ذلك الوقت نشأت بينهما صداقة قوية امتدت طويلاً. وحينما قرر جدّي الذهاب إلي جبل الدروز هرباً من الأتراك ترك بيته في الميدان لبعض الأقارب وأجّر بعض الغرف الأخري. وفـي جبل الدروز بدأت أفكار الثورة ضد العثمانيين تراود جدّي كما راودت معظم زعماء دمشق. وكان يحكي عن جمعيات سرية، وعـن شكري القوتلي وفارس الخوري وعبد الرحمن الشهبندر وغيرهم. المهم أن جدّي قرر الذهاب إلي جبل الدروز وأرسل ابنه، أي والدي، إلي سلطان الأطرش ليخبره بمجيئه. وعلي الفور أرسل سلطان الأطرش رجاله ليهيئوا منزلاً لجدّي، وقال لأبي: اذهب وقل لأبيك: شرّف البيت جاهز. وهكذا سكن جدّي وعائلته في بلدة القرّية وهي مركز زعامة سلطان الأطرش. وكان ثلث سكان هذه البلدة من المسيحيين والثلثان من الدروز. لكن شيخ القرية واحد هو سلطان الأطرش. فهو شيخ المسيحيين والدروز معاً. وبسبب العلاقة الخاصة والحميمة مع سلطان الأطرش صار الناس يقولون عن جدّي إنه شيخ حارة المسيحيين. طبعاً كان جدّي لا ينازع سلطان الأطرش مشيخته بتاتاً، ولكنه نوع من التعبير عن الاحترام والمحبة لجدّي. وكان بيت سلطان الأطرش في ذاك الوقت قد أصبح مركزاً لعصيان الجبل ضد الدولة العثمانية، بينما أقاربه من آل الأطرش لازالوا يتعاملون مع الدولة العثمانية. أما هو، لأسباب وطنية وفكرية ولأسباب شخصية أيضاً (إعدام أبيه واضطهاده إبّان خدمته في الجيش العثماني) ولتأثره بالأفكار العربية، كان كل من يأتي إليه لاجئاً يحميه. وفي تلك السنوات، بعد عودته من الجندية، أسس زعامة حقيقية في الجبل والتحق به جميع الشـباب الذين كانـوا يختلفون مع الزعامة التقليدية لآل الأطـرش، فصارت له عصبة من المؤيدين هم أشرس فرسـان الجبل وأنبلهم. وطار صيته إلي حوران حتي إن أهل بصري كانوا إذا اعتـدي البدو عليهم يأتون إليه ليستنجدوا بـه، فيلحق بالبدو هو وعصبته حتي الأردن وحتي إلي داخل أراضي الأردن ويعيد المنهوبات ويسلّمها إلي أصحابها. وبسبب شهامته لم يكن يرضي أن يأخذ حصته التي يستوفيها عادة زعماء العشائر في مثل هذه الحوادث. وكان الدروز من أنصاره يهابون الكلام أمامه علي نصيبهم المشروع. وعلي الرغم من ذلك يزدادون ولاء له ومحبة. وكان يتعامل مع مسيحيي بلده بطريقة لائقة ونبيلة حتي اكتسب احترامهم الشديد. وكان جدّي إلي جانبه في تلك الفترة. وحينما اندلعت الثورة العربية الكبري تحمس لها جدّي كثيراً، وشارك فيها إلي جانب سلطان الأطرش. وفي مذكرات فايز الغصين سكرتير الملك فيصل الأول عن الثورة العربية الكبري تفصيل عن اتصال رجال الثورة العربية الكبري بسلطان الأطرش وعن أن الصلة الأولي به كانت من خلال يوسـف الشـويري صديق سلطان الأطرش. وتروي المذكرات أن فايز الغصين وجماعته جاؤوا إلي بلدة سلطان الأطرش القريّة . وبعدما استضافهم سلطان الأطرش عدّة أيام وكرمهم قال سلطان الأطرش لفايز الغصين: أخبر الأمير فيصل أن لدي يوسف الشويري الأخبار كلها وهـو سيخبره ما هو موقفنا، والدروز سيسيرون إلي جانبنا ضد العثمانيين وسيقفون إلي جانب الثورة العربية. وكانت هناك قافلة مؤلفة من 300 هجان علي رأسها يوسف الشويري فيها عرب (أي بدو) ودروز وأرمن هاربون من المذابح وشوام. وقد سارت هذه القافلة برفقة فايز الغصين إلي العقبة. وفي العقبة قام فايز الغصين بتقديم يوسـف الشـويري إلي الأمير فيصل الذي سرّ من أخبار سلطان الأطرش وأخبار جبل الدروز المعروف بفروسية أبنائه. ويحكي لي أبي رواية أخـري تكمل هذه الرواية، فيقول إن هذه القافلة رجعت وجميع أفرادها مقاتلـون، لأن الذي ذهب هارباً من الجندية لم يعد، والذي له تجارة قام بها واكتفي، والبدوي الذي أراد الرحيل ارتحل. أمـا جدّك والدروز المقاتلون فعادوا مع جيش فيصل. وكنت أتشوق إلي عودة جدّك ليتولي شؤون العائلة وأذهب أنا مع الجيش العربي. وعندما سمعت أن الجيش العربي وصـل إلي درعا ذهبت إلي هناك مع سلطان الأطرش وقابلت والدي وقلت له: يا أبي تولَ أمر العائلة وأنا أذهب مع جيش الثورة عوضاً عنك. فرفض والدي هذا الكلام وقال لي: عُد إلي أمك وأخواتك. فتضايقت منه إلي درجة أنني تفوهت بكلمة كانت بشعة بمقاييس الأدب في ذلك الزمان، قلت له ساخراً: الآن بسيفك سوف تفتح الشام؟ المهم، أكمل الجيش العربي زحفه علي دمشق ومعه فرسان سلطان الأطرش، وبينهم جـدّي بالطبع، وهؤلاء انضموا إلي ميمنة الجيش العربي التي كانت بقيادة الشريف ناصر ابـن عم الملك فيصل، وهذه الميمنة هـي التي دخلت دمشق قبل الجميع ورفعت العلم العربي فوق دار البلدية. والمعروف أن واحداً من جماعة سلطان الأطرش، وأظن أنه حمد البربور الذي سقط شهيداً في الثورة السورية سنة 1925، وهو من أشجع الفرسان الدروز، هو الذي رفع العلم العربي. وتروي لي خالتي، أم زهير فرح، أنها ورفيقاتها، وكـن مازلن في سن المراهقة، ذهبن إلي بيت عزّام فـي بوابة الله ليتفرجن علي الفرسان العرب، وأنها رأت فرس سلطان الأطرش وفرس جدّي وهما تدخلان معاً إلي دمشق أمام الجميع بعد أن خاضا المعارك قبل وصولهما مثل معركة الكسوة. وقد حكي لي سلطان الأطرش شخصياً أن جدّي شارك في هذه المعارك، وأنه يعتبر من المجاهدين. المهم، عندما وصلت طلائع الجيش العربي إلي دمشق، وكان والدي لا يزال، حينذاك، في جبل الدروز، وعندما عرف ما يجري فعلاً في دمشق، ركب ناقة وسار إلي الشام بلا توقف. والسبب في انه استعمل ناقة وليس فرساً هو أن بلدة القرية حيث يقيم والدي فرغت من الخيول لأن الفرسان ساقوها إلي المعارك.
يتابع والدي روايته: عندما وصـل سلطان الأطرش ووالدي (أي جدي) وجدا البيت خراباً تقريباً، فأنزل جدّي صديقه سلطان الأطرش في بيت صديق له. أما أنا فذهبت إليه، وبعد أن سلمت وقبّلت يد أبي جلست. فتطلع إليّ والدي وقال: أرأيت بعينك كيف يكون فتح الشام؟ فأجبت: يا أبي ألا زلت تحفظ لي هـذه القصة؟ فرد عليّ: لا تَبُت الليلة في الشام، بل عليك العودة فوراً علي كعبك إلي الجبل.
هذه عقوبة. أليس كذلك؟
بالتأكيد. قال لي والدي إن سلطان الأطرش توسط له حتي رضي جدي عنه وسمح له بأن ينام ليلة واحدة فقط في دمشق. وأود أن أروي حكاية أخري عن جدّي وهي أنه في إحدي غزوات البدو علي جبل الدروز شارك بنفسه في رد الغزو، وهزم في هذه الحادثة عرب الحويطات، فألّف جدّي قصيدة يسخر فيها من الحويطات وربمـا من عودة أبو تايه الذي لم يكن اشتهر بعد. وبعد عدة سنوات، إبان الثورة العربية الكبري، التقي جدي مقاتلين مـن الحويطات لدي الأمير فيصل فصاح رجال الحويطات: إنه يوسف الشويري . ثم نظر عودة أبو تايه إلي جدّي الذي كان ربع القامة وقال له: عندما كنّا نسمع عنك كنّا نتصور أنك طويل القامة . فأجابه جدّي علي الفور: أنت تراني صغيراً علي الأرض، لكنني علي ظهر الفرس أكبر مما تتصور . فسكت عودة أبو تايه. كذلك ورد اسم جدّي في مذكرات فخري البارودي في قائمة تتألف من 45 رجـلاً مـن وجهاء دمشق تبدأ بالشيخ عبد الغني الاسطواني خطيب الجامع الأموي. وعـند الرقم 37 يرد اسـم أبو حبيب الشويري. وهذه هي قائمة وجهاء دمشق الذين أخذهم الفرنسيون رهائن في سبيل إخماد الثورة السورية التي امتدت إلي الشام في سنة 1926.
ويمكن القول إن جدي ومعه أبي شارك، بصورة أو بأخري، في الثورة علي الفرنسيين، فقد كان بينه وبين سلطان الأطرش نوع من الانسجام في المواقف والمفاهيم وفي المصالح أيضاً. ودعني أروي لك بعض التفصيلات التي لا تخلو من عبر وقد تلقي بعض الضوء علي ما جري ويجري في أيامنا هذه.
بعد معركة ميسلون في سنة 1920 واحتلال سورية كلها، وقمع تمرد حوران بقيت بؤرة الجولان وجنوب لبنان عصيّة علي الاحتلال. ثم جرت محاولة اغتيال الجنرال غورو علي طريق القنيطرة التي اشترك فيها أدهم خنجر، من جنوب لبنان، إلي جانب جماعة أحمد مريود من الجولان والذي سقط شهيداً فيما بعد. إن أدهم خنجر هذا هو صاحب القصة المشهورة التي تسببت بأول تمرد مسلح لسلطان الأطرش علي الفرنسيين في عام 1922. ولكن هذا التمرد الذي سُميَّ في ما بعد بالثورة الصغري، تزامن مع تحرك الشارع الدمشقي بقيادة عبد الرحمن الشهبندر ضد الفرنسيين، وكان ذلك بمناسبة زيارة مستر كراين إلي دمشق وهو العضو الأمريكي في لجنة كينغ ـ كراين المشهورة التي أرسلها الرئيس الأمريكي ولســــون بموافقة مؤتمر الصلح سنة 1919، إلي سورية لاستفتاء الأهالي في مصيرهم السياسي. واللافت أن الذين بدأوا التحرك ضــــد الفرنسيين هم أنفسهم رجال الثورة العربية ضد الأتراك، وأن الترابط الجغرافي ـ البشري بين الجولان وجنوب لبنان يذكرنا بتعبير المُتحد الجغرافي لأنطون سعادة، ويلقي الضوء علي ما حدث ويحدث في أيامنا هذه.
في أثناء الثـورة الصغري، أي ثورة 1922، كان سلطان الأطرش يصرف علي إخوانه الذين شاركوا في الثورة من ماله الخاص، ويبيع ممتلكاته، فقد كان يملك الكثير من قطعان البقر والماشية، ولم يكن هناك منظمات أو أحزاب أو هيئات سياسية، وطبعاً لا وجود لدعم عربي أو غيره. وقد حدث أن لقاء جري ترتيبه بين سلطان الأطـرش وجدي وأبي في قرية سِمِج القريبة من قرية القريّة لترتيب بعض الأمور، ولسبب ما علم الفرنسيون بهذا اللقاء، فجاءت سرية من الجيش الفرنسي وحاصرت بلدة سمج واعتقلت جدي وأبي ونصبت كميناً لسلطان الأطرش. ويروي والدي تفصيلات طريفة عما جري، خلاصتها أنَّ الفرنسيين منعوا الخروج والدخول إلي البلدة، ووضعوا أبي وجدي بين العساكر في الكمين. وعندما اقترب سلطان الأطرش مع إخوانه من حـدود البلدة، وكان له قطيع بقر يرعي هناك، شعر بالارتياب من بعض المظاهر فلم يقترب أكثر وبدأ بإطلاق الرصاص علي المكان المريب، وكان عبارة عن رجمة كبيرة من الصخور يكمن خلفها بعض الجنود ومعهم المعتقلان، فرد الجنود علي النار بنارٍ أغزر منها. ولكي يتفرغوا للقتال أجبروا جدي علي الإمساك بأعنة خمسة بغال إلي جانب فرسه فصار يطلق أعنة البغال واحداً بعد الآخر. وفي هذه الأثناء حمي الوطيس فأصيبت فرسه بشظية حجر إصابة بسيطة, فقال والدي: أطلقها . فرفض جدي قائلاً: لعلنا نحتاجها . وعندما اضطر إلي إطلاقها وعرفها سلطان الأطرش أمر بإيقاف النار خوفاً من أن يصيب صديقه. ويروي والدي أنَّه شاهد سلطان الأطرش بعدها يتقدم من قطيعه خبباً تحت وابل رصاص الفرنسيين ولم يغير سرعته حتي استطاع أن يلمّ القطيع ويبتعد به ... وفشل الكمين. لكنَّ جدي وأبي بقيا في قبضة الفرنسيين وسيقا إلي قلعة بصري ثم إلي قلعة دمشق حيث أطلق سراح جدي وبقي أبي معتقلاً عدة أيام رهن التحقيق. ولما يئسوا من معرفة أيّ أمرٍ منه أطلقوا سراحه.
قلنا إنَّ سلطان الأطرش كان يصرف من ماله، وعندما صدر العفو عنه عاد إلي بلدته وهو في وضع مالي مرتبك. ولم تلبث الأحداث أن توالت خلال سنتين أو ثلاث لتبدأ ثورته الثانية سنة 1925، فتراكمت عليه الديون، وبارت المواسم، ونفقت القطعان، حتي بلغ دين جدي عليه 500 ليرة ذهبية. وبهذا المعني يمكن القول إنَّ جدي كان مساهماً في تمويل الثورة بطريقةٍ ما. ويحكي لي والدي أنّه اضطر، فيما بعد، إلي إغلاق محله حتي يفي سندات الدين التي تراكمت علي جدي قبل وفاته في عام 1929. وبعد وفاة جدي وفي أوائل الثلاثينيات حينما وقعت أزمة الكساد العالمي التي أنهكت العالم بما فيه سورية، اضطر والدي إلي إغلاق محله التجاري في سوق الحميدية حتي لا يعلن إفلاسه نتيجة للديون المتوجبة عليه، وعمل بقية أيام حياته خبيراً في المحاسبة. وفي سنة 1932 تناهي إلي سمعه أن تبرعات وصلت إلي سلطان الأطرش من المهاجر وأن لديه أموالاً كافية. فاصطحب والـدي شريكه صادق الرجّال وذهبا إلي سلطان الأطـرش ليطالبا بالمال. ويحكي لي أخي الكبير أن والدي عندما رجع إلي دمشق، وكانت جدتي تتوقع أن يحضر معه الذهب، وبعد أن قدمت له القهـوة وارتاح قليلاً، سألته: يا ابني ماذا أحضرت معك؟ فقال لها: لم أحضر شيئاً. فقالت له: لمـاذا؟ فأجاب: ليس مع سلطان أي أموال. وعندما سألته: هل طالبته بالديون؟ قال لها: لم أطالبه قط. فعلقت قائلة: أهذه الرحلة وهذا العذاب لتذهب وتعود خالي الوفاض؟ فقال لها: يا أمي عندما وصلت إليه استقبلني كابن صديقه بالطبع، ولكنني فور جلوسي، لاحظت أن عباءته مرقعة. فهل من المعقول أن تأتي الأموال إلي سلطان الأطرش وتكون عباءته مرقعة؟ سلطان الأطرش معروف بهيبته، وقصة الأموال كذب وشائعات. لم تصل إليه أي نقود أو أموال، فكيف أطالبه بالديون؟ وفي أي حال عاد سلطان الأطرش ودفع الديون كاملة، لكن بالليرة السورية وليس بالليرة الذهبية، أي بالسعر التعادلي المنصوص عنه في القانون وليس بالسعر الواقعي (فقد جري ذلك السداد في عام 1946). ولذلك عندما قرر المجلس النيابي إهـداء سلطان الأطرش منزلاً في دمشق، كتعويض له عن خسائره كمجاهد وقائد للثورة السورية الكبري، كان يمازح عماتي اللواتي لم يتزوجن، بالقول: عندما أتسلم هذا المنزل فستكون فيه غرفتان مخصوصتان بكن. أما أبي فكان متعلماً. وأنهي دروسه في مدرسة الآسيّة ثم انتقل إلي مدرسة العازارية.