قصة اللجنة العسكرية للبعث السوري ( 3 / 4 )
د. كمال خلف الطويل : ( كلنا شركاء)
في أعقاب نوفمبر أعاد البعث السوري تنظيم نفسه بعزل البيطار من رئاسة الحكومة والتي أضيفت إلى أمين الحافظ مع احتفاظه برئاسة مجلس الثورة ومنصب القائد العام مع الحاكم العرفي. لكن ذلك التنظيم شمل ترفيع محمد عمران رئيس اللجنة العسكرية إلى رتبة اللواء مع تعيينه نائبا لرئيس الوزراء .. أي عمليا رئيس الوزراء. هل كان ذلك تعزيزا لدور عمران؟ بدا ذلك على السطح بل ظن هو نفسه كذلك فبدأ يتقمص دور رجل الدولة صاحب البرامج ومقترح السياسات. هنا بالتحديد بدأ محمد عمران يراجع مسيرة الشهور التسعة المنصرفة ليجد أن الصيغة المثلى له ولسورية هي مد الخيوط مع عبد الناصر وفق معادلة يتبناها فيه عبد الناصر حاكما باسمه. أرسل له أكثر من مرة من يوصل له هذا الاقتراح وأنه القادر على إعادة تجميع الصفوف القومية بناصرييها وبعثييها تحت رمزية عبد الناصر وبواسطة دوره لكن ذلك لم يلق من عبد الناصر أي قبول وذلك لشكه في عمران إن كان لجهة النوايا أم القدرة. والراجح أن اتصالات عمران الخفية ومحاولاته التقرب من ناصريي البعث المنشقين - الوحدويين الاشتراكيين - ليكونوا أداته السياسية في بيع دوره المأمول لم تخف على رفيقه الأساسي في اللجنة صلاح جديد والذي شملت إعادة التنظيم ترفيعه من مقدم للواء وتعيينه رئيسا للأركان العامة. لكن الأولوية الأولى لجديد كانت الخلاص من اليسار البعثي واستبداله بالقطريين ومن هنا عقده الصفقة التكتيكية مع ميشيل عفلق والتي بموجبها يفصل اليسار من الحزب عبر مؤتمر قطري استثنائي في شباط ومؤتمر قومي استثنائي في آذار 1964. ولكن ما إن تم ذلك حتى نشب عصيان شبه مسلح في حماة سبقته مظاهرات ضخمة في العديد من المدن شقت عصا الطاعة على البعث ووصلت الأمور لحد الاقتتال الدموي في حماة ورغبة بعض ضباط اللجنة العسكرية (حمد عبيد وسليم حاطوم بالذات) في استعمال أقصى درجات العنف لوأد تمردها وكانتقام متأخر لما أوقعه أديب الشيشكلي الحموي بجبل الدروز في شتاء 1954. كان أمين الحافظ وصلاح جديد أكثر عقلانية وتقديرا لما قد يجره ذلك من حرب أهلية في وقت كان فيه البعث بكل تلاوينه طري العود وقابلا للإقتلاع فيما لو وقعت الواقعة. وما إن أغلق ملف حماة عبر نوع من التراضي بين السلطة والمجتمع الأهلي إلا ووجدت اللجنة العسكرية نفسها مضطرة للاستعانة بقدامى البعثيين من التقليديين وعلى رأسهم المكروه لديهم صلاح البيطار ليشكل وزارة تخمد أوار العداوة المستفحلة في أوساط الشعب سواء بغالبيته ال ناصرية أم بأقليته المحافظة. ساهم أيضا في تلطيف الأجواء نوعا ما أجواء مؤتمرات القمة التي دعا إليها عبد الناصر بدءا بيناير ووصولا إلى سبتمبر ثم مؤتمر عدم الانحياز في أكتوبر. أخرج من السجون معظم المسجونين السياسيين وسفّر إلى القاهرة المحكوم بالإعدام جاسم علوان وواظب عمران طوال شهور 1964 على محاولة غزل حبال الود مع عبد الناصر. في أكتوبر 1964 وفي جلسة ضمت أمين الحافظ ومحمد عمران مع آخرين من أعضاء الوفد السوري ألقى عبد الناصر قنبلته في وجه عمران متهما إياه ورفاقا له في اللجنة العسكرية من العلويين بتزعم تنظيم علوي سري ملتحف برداء البعث يسعى للانفراد بالسلطة ويستعمل أدوات طائفية في الهيمنة على الجيش ومن ثم البلد. تلك المصارحة كانت جوابا سافرا من عبد الناصر برفض تقرب عمران منه. كانت أيضا إشارة - غير مقصودة - لأمين الحافظ بأن ما حوله - وهو المفترض أنه رئيس البلاد - غير صحي ومعبأ باحتمالات السوء.
وجد محمد عمران نفسه عند تلك المرحلة أمام خيار وحيد. هو من جهة شعر ولأكثر من عام أن استمرار الحال من المحال وأن التنائي عن عبد الناصر مكلف لكنه من جهة أخرى يجد صدودا مريرا من عبد الناصر وبالتالي فلا مناص من إثبات حسن النوايا والجذرية في الالتفات إلى طريق آخر. ماذا فعل؟ اغتنم فرصة اقتراح رئيس الأركان اللواء صلاح جديد ترفيع الرائد حافظ أسد إلى رتبة اللواء وتعيينه قائدا لسلاح الجو مناسبة للاعتراض وبعدها تفجير الموقف. كان حافظ أسد حينها محسوبا في الأساس على صلاح جديد وبالتالي فتسليمه قيادة سلاح الجو هو تعزيز لخصومه المحتملين. ذهب محمد عمران إلى القيادة القومية - التي هي عضو فيها - ليقول بالفم الملآن إن هناك لجنة عسكرية سرية وأنها تخطط للإطاحة بالقيادة المدنية وأنها ترمي لبناء دولتها المطرزة على مقاسها الخاص وأنه بالتالي منحاز للقيادة القومية ولا يريد إلا كشف المستور والخلاص من المنشقين عنها في الظلام.
شربت القيادة القومية عندها حليب السباع وقامت حينها - في ديسمبر 1964 - بحل القيادة القطرية الواجهة الحزبية للجنة العسكرية معتقدة أنها بذلك تحسم الصراع المكتوم والذي أوصل ميشيل عفلق في حزيران 1964 إلى الترحال - قرفا - عند أخيه وصفي في ألمانيا. لكن ما تمخض عن هذه المواجهة - غير المحسوبة جيدا - هو ثورة قواعد الحزب على القيادة القومية ونصرة لقيادتها القطرية. لم يكن في الأمر عجب إذ شهد عام 1964 بطوله انضواء كل القطريين في الحزب وتسـلمهم الشعب والفروع والمنظمات والتي عبرها ملكوا الجسم وبقي فوقهم الرأس - غير الفاعل - كرمز لا تعلو مكانته عن كونه هذا الرمز.
خسر عمران رهان القيادة القومية كما خسر قبله رهان عبد الناصر فاضطر كسيرا ملتاعا للذهاب إلى المطار مطرودا كسفير في أسبانيا على خطى سلفه الحريري. قد يتساءل المرء ألم يكن معروفا أن معظم الضباط العلويين كانوا يدينون بالولاء لعمران شخصا أكثر من جديد أو أسد. بالتأكيد هذا صحيح لكن دهاء جديد مكنه من الاستحواذ على ولاء معظمهم بترديده مقولة إن معلمهم قصير النفس وأنه بخياراته الجديدة سواء منها الناصري أم العفلقي يهدد كل مخططات اللجنة العسكرية سواء المتوسطة أم طويلة الأمد وبالتالي وجد عمران نفسه وقت الشدة معزولا عن معجبيه ولو كمن فيهم حب غريزي له لأقدميته وسابقيته ومزاياه.
دخلت اللجنة العسكرية عام 1965 بقرار تأجيج يساريتها ولأهداف عدة منها المزايدة على كل من عبد الناصر وعفلق ثم البرهان على أنها لا تقل يسارية عن اليسار المفصول ومنها حاجتها لتثبيت شرعية معينة هي شرعية الطبقات المستضعفة - وفوق مفهومها -. سبق ذلك إقالة وزارة صلاح البيطار في أكتوبر 1964 وعشية اللقاء الثالث مع عبد الناصر في القاهرة. في الأول من يناير 65 اتخذت اللجنة العسكرية قرارا بتأميمات واسعة للنطاق شملت القطاعات المالية والصناعية والتجارية وسواها كان جلها - بمنطق اقتصادي محض - يتجاوز أي حاجة فعلية له لدرجة أن العديد منها سرعان ما ألغي لتبين كوميديته الفاقعة. رد تجار دمشق بإضراب واسع قمع بقسوة غير معهودة لدرجة اقتحام المسجد الأموي تعقبا لبعض المضربين والمتظاهرين.
صاحب قرار التأميمات قرار رعاية نشاط حركة فتح الفلسطينية انطلاقا من سوريا وعبورا إلى الأردن ولبنان ووصولا إلى فلسطين المحتلة. كانت الورقة الفلسطينية في مفهوم اللجنة العسكرية هي الأربح للتداول والاستعمال في الساحة العربية إذ كان واضحا أن عبد الناصر ملتزم بسياسة الابتعاد عن المواجهة المسلحة مع إسرائيل - وحديث ذلك في ورقة أخرى - ومكتف بانتهاج سياسة دفاعية عبر تبنيه للقيادة العربية الموحدة وهيئة تحويل روافد نهر الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية. وفي وقت كان التململ فيه هو الشائع في ساحات المنافي الفلسطينية ورغم جو الولاء الفلسطيني العام لقيادة عبد الناصر القومية بزغت في الأفق وبشكل فطري تنظيمات فلسطينية عدة نوت امتشاق السلاح لهز الركود السائد على جبهة الاشتباك مع إسرائيل. لاقى هوى اللجنة العسكرية تنظيمان:
الأول هو حركة فتح والتي رغم موزاييكها التركيبي ورغم احتشاد الكثير من الإخوان المسلمين سابقا بين قياداتها وكوادرها إلا أن ميزتها الأهم أنها ولهذا السبب البنيوي بالذات كانت خارج قوس النفوذ الناصري وبالتالي فهو قوة موازنة لمنظمة التحرير ذات الولاء الناصري الغلاب ثم هي بحكم ظروف أعضائها الأقدر تمويلا والأميز قدراتً.
أما التنظيم الثاني فهو سوري المنشأ اسمه جبهة التحرير الفلسطينية أسسها أحمد جبريل الضابط المسرح من الجيش السوري والوثيق الصلة بالمخابرات العسكرية. ومع انطلاق عمليات فتح في 1 يناير 65 بان أن المنطلق والراعي هو سوريا البعث. لم تكن فتح صنيعة البعث بل حليفا تكتيكيا بحكم الجغرافيا والمناخ السياسي والخلفيات الفكرية. لكن اللجنة العسكرية وهي تنفذ سياساتها في الداخل والخارج وقعت من جديد في أتون الصراع الداخلي المستنفذ. ها هو رئيس اللجنة الإسمي أمين الحافظ يشق عصا الطاعة على رئيسها الفعلي صلاح جديد متهما إياه بسوق البلاد إلى معمعة طائفية بسبب محاباته لضباط الأقليات وركوبه حصانهم فوصل الأمر بسلك الضباط البعثيين إلى حافة الانقسام كما تجلى في المؤتمر العسكري الحزبي في نيسان 1965 والذي تلى المؤتمر القطري الذي انعقد في آذار وسبق المؤتمر القومي في أيار. تمخضت هذه المؤتمرات الثلاث عن تسويات بين أطراف الصراع لجمت أمين الحافط عن مزيد من التصعيد وقربت بينه وبين القيادة القومية كما حدث مؤخرا مع المبعد محمد عمران وأوصلت عفلق والعسكر الموالي لجديد إلى تركيبات تنظيمية هجينة كان عنوانها تخلي عفلق عن الأمانة العامة لرفيقه الأردني منيف الرزاز واكتفائه بلقب القائد المؤسس الفخري.
ما استطاعه أمين الحافظ في أزمة نيسان العسكرية هو استقطاب العديد من ضباط البعث السنة تحت عنوان مجابهة المؤامرة العلوية وبالمقابل اصطف ضباط الأقليات في غالبيتهم مع صلاح جديد لخوفهم من المد السني المتعاظم في الجيش. هل كان اتهام الحافظ لجديد محقا؟ ما من شك في أن الرجل استساغ وسوغ لنفسه اللجوء لأدوات طائفية في خوض صراعاته ونيل أهدافه لكن ذلك كله يندرج تحت باب العصبوية وبناء حصون قوة على أسس ليس فقط طائفية بل وعشائرية وفوق ذلك طبقية (أي ريفية). لم يكن صلاح جديد طائفيا بمعنى السعي وراء دولة طائفية للعلويين أو وراء استفرادهم بحكم سوريا إنما أراد اختصار الطريق أمام وصول بعثه اليساري الجذري ليبسط مشروعه التغييري في سوريا لصالح الريف أساساً ولينطلق منها ليمد إشعاعه على باقي المنطقة والأخص الشمال العربي.
إذا قارنا بين جديد وأحد من أسلافه فسنجد حسني الزعيم قد استعان بعصبويته الكردية وأديب الشيشكلي وقد استعان بعصبويته الحموية وهكذا. فاقم في مسألة جديد حرب الإشاعات التي شنها أنصار الحافظ دامغين خصمه بتهمة الفاطمية إضافة لحقيقة أن نهوض الريف سيعني ضمن أهم ما يعنيه تمكين العلويين من الاستقواء على كل الأصعدة.
كان محمد عمران سلف صلاح جديد قد اتهم في وقته بالطائفية أيضا لكن ذلك لم يخرج عن إطار ما سبق تناوله من تحليل وكما قلنا فلقد سبق لعبد الناصر نفسه أن شك بطائقية عمران. ولو أن علويي اللجنة الأساسيين الثلاث .. عمران وجديد وأسد .. كانوا مجموعة طائفية متماسة لما طرد الأول قبل مضي عامين على الوصول للسلطة وبسبب تحالفات غير طائفية سعى وراءها ثم قتل في نهاية العام التاسع لـ 8 آذار ولما سجن الثاني مدة 23 عاما على يد الثالث بعد أن وصل الأمر بينهما لعامين متواليين إلى الصدام المسلح مرتين. جدير بالذكر أن عضوا علويا آخر في اللجنة العسكرية خرج مع محمد عمران في ديسمبر 64 هو الرائد سليمان حداد - أحد منفذي 8 آذار - والذي أرسل ملحقا عسكريا في الخارج. بذلك انخفض عدد ملاك اللجنة إلى 16 عضو. ثم مع انفصام أمين الحافظ عن غالبية اللجنة بدأت هذه الغالبية في الانعقاد من وراء ظهره مستثنية معه من جلساتها أنصاره موسى الزعبي وحسين ملحم وصلاح نمور أو تأتي هذه الغالبية للجلسات بعد أن تكون قد التأمت على موقف مسبق. في تلك الفترة حسم سليم حاطوم أمره ورمى بثقله - المغاوير - وراء صلاح جديد بعد طول تردد وتراوح.
كيف مارس الحافظ وجديد الصراع؟ لما كان الثاني رئيسا للأركان نراه استعمل صلاحيات هذا المنصب لعرقلة قرارات القائد العام - غير المتفرغ - الحافظ .. هذا من جهة ولتمكين أنصاره من حيازة المواقع الحساسة من جهة أخرى. ما الذي أوصل الحافظ وجديد إلى الصراع المفتوح ولم تنقض إى مدة وجيزة على إبعادهما خصمهما المشترك محمد عمران؟ باختصار رأى صلاح جديد أمام ناظريه صنيعة تحاول أن تصبح ليس فقط سيدة نفسها بل وتتمكن لدرجة التسيد إذ سعى الرجل للمطابقة ما بين المنصب وفعاليته فأراد أن يكون رئيس دولة وقائد جيش بحق وحقيق وبالتالي وجد أن صلاح جديد عقبة كؤود في هذا الطريق كما وجده الأخير شريكا استنفذ أغراضه وأصبح ليس فقط عبئا بل وتهديدا خارقا. على خلفية كل هذه التطورات المتسارعة أصبح صيف وخريف 65 مسافة زمنية انتقالية قبل ارتسام تخوم الصراع الحاسم. كانت الصراعات داخل القيادة القطرية الائتلافية قد شبت بين العفالقة والقطريين لدرجة أن شلت أعمال القيادة فقام الأخيرون بحركة التفاف بارعة باستدعاء مؤتمر قطري استثنائي للانعقاد في آب وتقديم استقالة القيادة له. عندها انتخب المؤتمر قيادة قطرية جديدة لم يفز فيها من الخصوم إلا أمين الحافـظ. انطلقت هذه القيادة الخالصة للقطريين للتحرك في اتجاهات عدة .. شكلت وزارة جديدة برئاسة أحد رموزها يوسف زعين عجت بآخرين من هذه الرموز .. اعتقلت أكرم الحوراني والعديد من أنصاره في خطوة ابتغت إحراج عفلق الشريك القديم له في الأيام الخوالي .. وشكلت برلمانا معينا بغالبية بعثية كاسحة اختلط فيها القومي بالقطري مع رجحان نسبي للأخير.
ومع انتزاع رئاسة الحكومة من الحافظ أحاطته القيادة القطرية باثنين من رموزها في مجلس الرئاسة معه .. نور الدين الأتاسي الآتي من خريف ميشيل عفلق إلى ربيع صلاح جديد ومعه فايز الجاسم. أما الخطوة الأهم فكانت انتزاع القيادة العام للقوات المسلحة عمليا من يد الحافظ وذلك عبر تنسيب عضو اللجنة العسكرية حمد عبيد ليتولى وزارة الدفاع مع توحيد سلطة وزير الدفاع بصلاحيات القائد العام. وكشكل ترضوي قام صلاح جديد بتنسيب محمد الشنيوي أحد المحسوبين على أمين الحافظ ليصبح رئيسا للأركان مكانه - أي جديد. كانت تلك ضربة بارعة حار الحافظ في كيفية اتقائها وعدم إنفاذها وفشل.
مع ذلك كله وفوقه اتخذ صلاح جديد لنفسه موقع قوميسار الحزب المتفرغ عبر منصب الأمين القطري المساعد بعد أن جعل من السلطة الحزبية السلطة الأولى في حياة البلاد تخضع لها أجهزة الدولة وفعاليات المجتمع. لم تعن انتصارات صلاح جديد التكتيكية كلها أن الأمر قد قضي لصالحه فلا زال الجيش مليئا بأنصار فعليين أو محتملين لأمين الحافظ ثم أن تهمة الطائفية قد فعلت فعلها وساد الاستراب. أضف إلى ذلك أن الخصوم على المقلب الآخر كانوا يدبرون ويتدبرون.
عاد محمد عمران في إجازة صيفية ليتصل بمحازبيه السابقين محاولا تفعيل الوشائج معهم وعاقدا لمباحثات مع صلاح البيطار (كان الاثنان قد وصلا لحالة من التقارب عام 63-64 خصوصا مع أزمة ديسمبر 64) لمحاولة بناء تحالف قوى يتفوق على تحالف جديد - القطريين. في ذات الوقت دأب صلاح البيطار على تمتين الأواصر مع أمين الحافظ - بموافقة من ميشيل عفلق - منخيا إياه للوقوف مع الشرعية الحزبية المتمثلة في القيادة القومية ضد خصومها القطريين.
خلال كل هذه المناورات المثيرة للدوار قام صلاح جديد عبر وزيره الجديد للدفاع حمد عبيد بنقل قائد اللواء المدرع الخامس العقيد صلاح نمور - وهو بنفسه أحد أعضاء اللجنة العسكرية - إلى دمشق في محاولة لتهشيم أحد أهم عناصر قوة أمين الحافظ العسكرية. رفض نمور الإنصياع للقرار. أمر صلاح جديد مصطفى طلاس نائب نمور في اللواء باختطافه وإرساله مخفورا إلى دمشق. كانت تلك القشة التي قصمت ظهر البعير مع أمين الحافظ وعبره مع القيادة القومية.
تداعت القيادة القومية لدورة انعقاد مفتوحة في 8 كانون الأول/ديسمبر 65 لبحث الأزمة الحزبية وقررت بعد أيام من الانعقاد حل القيادة القطرية وإقالة الوزارة وحل البرلمان المعين وإعادة تشكيل مجلس الرئاسة. كان القرار المهم الآخر هو استدعاء اللواء محمد عمران من منفاه الإسباني وزيرا للدفاع رغم اعتراض خصمه القديم أمين الحافظ. السبب الحقيقي وراء تفعيل عمران كان علويته. باختصار ظن ميشيل عفلق أن عمران هو ورقة الجوكر في كسب ولاء عدد مؤثر من الضباط العلويين يستطيعون إحباط مخطط صلاح جديد في استعمالهم في صراعه ضد عفلق - الحافظ. مرة ثانية كان الرهان فاشلا إذ سبق سيف صلاح عزل عمران فاستحوذ على ولائهم مبرهنا لهم أن عمران مرة ثانية اتخذ الموقف الخطأ نصرة للطرف الخطأ. بالمقابل لم تكن حوافز عمران للعمل ضد صلاح جديد مقنعة له بالتمام ذلك أن نفوره من الحافظ تساوى مع صدامه مع جديد مما حيد دوره وجعله غير ذي قيمة.
مقابل خطوة صلاح جديد في الاستيلاء على اللواء المدرع الخامس بحمص قررت القيادة القومية إقالة عدد من ضباط اللجنة العسكرية من مناصبهم العسكرية المهمة وهم بالتحديد أحمد سويداني مدير المخابرات العسكرية وسليم حاطوم قائد كتيبة المغاوير وعزت جديد قائد اللواء 70 المدرع بالكسوة. تلك كانت نقطة الفصال وعندها تحرك صلاح جديد بقضه وقضيضه لهزم أعدائه بالضربة القاضية.
صبيحة الثالث والعشرين من شباط تحرك لواء الكسوة المدرع السبعين ومعه كتيبة المغاوير لتطبق على أمين الحافظ في بيته حيث خاض المهاجمون وحرس المدافع معركة دموية شرسة انتهت باعتقال الحافظ وجرح أولاده ومقتل الكثيرين من عناصر الطرفين. ومع ذلك فإن هذه المعركة لم تكن تكفي للحسم إذ أن صراعا دار في حلب بين معسكري الخصام حسمه بالكاد مؤيدوا جديد وعلى رأسهم الرائد ناصر ناصر عضو التنظيم العسكري القديم (والذي أصبح وزيرا للداخلية بعد أكثر من عقدين). أوفد صلاح جديد وزير الدفاع وحليفه حمد عبيد إلى حلب للإشراف على حسم الموقف لكن الأخير محركا بعوامل الغيرة مما سمعه عن تصعيد قائد الطيران حافظ أسد لمنصب وزير الدفاع آثر البقاء على الحياد مما جعله منبوذا في عيون رفاقه السابقين ثم هو في كل الأحوال ورقة استعملت لحد النفاذ ولم يعد له من قيمة شيء يذكر.
من عوامل تسهيل انتصار صلاح جديد تخاذل حسين ملحم حليف الحافظ وقائد الشرطة العسكرية وعدم نصرته للحافظ في محنته الدموية. تم اعتقال عفلق والبيطار وعمران لكن صلاح جديد فضل بعد حين تيسير هروب عفلق والبيطار تهيبا من صفتيهما كمؤسسين للحزب مفضلا معالجة عقابيل وجودهما المتوقع في لبنان على تحمل وزر البطش بهما داخل السجون. أكمل عفلق طريقه إلى البرازيل فيما أعلن البيطار ومعه منصور الأطرش تبرؤهما من البعث وانسحابهما منه في بيان إصداره من بيروت. قبع الحافظ وعمران في السجن لحين الإفراج عن المعتقلين السياسيين يوم 9 يونيو 67 في جو الهزيمة الفادحة. والملفت للنظر أن عبد الناصر وهو يرقب مشهد التناحر البعثي لم يمد يد العون لعفلق خلال فترة استيلائه الواقعي على السلطة ما بين 8 كانون الأول/ديسمبر 65 و 22 شباط/فبراير 66 رغم أن وزارة البيطار الجديدة ضمت عناصر صديقة لعبد الناصر مثل محمد الفاضل ومحمود عرب سعيد سواك عن عمران الذي لم ينفك يحاول التقرب. والسبب اليتيم هنا هو أنه رغم حذره الشديد بل وتوجسه من صلاح جديد وجناحه إلا أن أزمة الثقة بينه وبين عفلق وحناحه كانت على درجة من الاستحكام منعت إمكانية التقارب من جديد رغم الإشارات المليئة بالتودد من قبل القيادة القومية.