يعد الفريق غلوب باشا واحد من أهم وأعظم الشخصيات العسكرية والسياسية في بريطانيا ، وكان له مكانة عظيمة في تاريخ العرب بكونه شاهداً وقائداً للأحداث الكبيرة التي مرت بها الأمة العربية خلال الحرب العالمية الأولى وما تلاها وخاصة مأساة فلسطين ، والدور الكبير الذي لعبه الرجل بالانتصار لقضية العرب ودفاعه المستميت عن الأراضي الفلسطينية وفضحه للسياسات الصهيونية الوحشية التي ارتكبت بحق الفلسطينيين على الصعيد الميداني والسياسي والفكري .
وفي مذكرات غلوب باشا المعنونة بـ " حياتي في المشرق العربي " والصادرة عن دار الأهلية للنشر والتوزيع ، الأردن ، بترجمة جورج حتّر وفؤاد فياض ، يتحدث المؤلف في بداية الكتاب عن السيرة الشخصية عن عائلته التي تمتد في التاريخ البريطاني حتى أن أول غلوب فيها قد تحدر من أوائل البريطانيين وهو هنري غلوب الذي كان عضواً في البرلمان عن مقاطعة أوكتشامبتون في سنة 1313 في عهد الملك إدوارد الثاني . أما جده الأكبر توماس غلوب فقد ولد سنة 1725 وتزوج من إليزابيث كننغهام سنة 1756 وهي من أسرة تتحدر من نسل الإميرال الثامن لمقاطعة غلنكيرن .. وفي هذا الجزء يتحدث عن العلاقة الدافئة بين جده وجدته و قصة الحب الملتهبة التي كانت بينهما .. ويستمر غلوب باشا في سرد سريع لتاريخ العائلة حتى يبدأ الحديث عن نفسه ، ويصف زواج أبيه من أمه في عام 1889 بأنه كان من الزيجات السريعة والهادئة حيث غادر أبوه بعد ذلك مباشرة إلى هونج كونج ومكثا ثلاث سنوات .
ولد غلوب عام 1897 في مدينة برستون في لانكشاير ، وقد حدثت أمور أكثر خطورة ـ على حد تعبيره ـ أثناء حضانته ، فقد اندلعت الحرب في جنوبي أفريقيا ، وقد استولى على والده القلق مخافة أن تنتهي الحرب قبل أن يذهب إلى هناك ، فقد مضى عليه اثنتين وعشرون سنة في الجيش ولم يشارك في الخدمة الفعلية النشطة ، يقول غلوب " كتب أبي إلى أمه يقول بأنه لم يتسلم أية أوامر بعد ، وأضاف بمرارة يقول : أفترض بأنني سأظل على الدوام جندياً في وقت السلم ليس إلا .. وأخيراً جاءت الأوامر فأبحر أبي في سنة 1900 إلى جنوب أفريقيا .
انتقل غلوب مع والده إلى جزيرة موريشيوس ويتحدث عن بعض الذكريات السعيدة في تلك الفترة بالرغم من تعليقه عن تلك السنين من ذكرياته بأنها كانت مبهمة ، ثم عاد بعد ذلك إلى إنجلترا ليستقر ببيتهم القديم .
عندما بلغ غلوب الثامنة كان والده يعتقد بأن ذلك هو الوقت الذي يجب أن يصبح فيه فارساً ولذلك بدأ يمتطي صهوة جواد واستطاع أن يحقق تقدماً مرضياً . ثم انتقلت الأسرة إلى سويسرا بسبب ضيق العيش في إنجلترا وهناك أرسل غلوب كتلميذ إلى مدرسة داخلية ، وكانت سويسرا آنذاك محطاً لاجتماع الأمم ، كان السويسريون قلة ولكن كان هناك البريطانيون والألمان والأمريكان والكنديون ، وأحد المصريين ، وآخرون غيرهم . ثم ألحقه والده بعد ذلك بمدرسة تشلتنهام ليتمكن بالالتحاق إلى الكلية العسكرية من خلالها ، يقول " لقد كنت منذ طفولتي المبكرة أطمع دوماً بأن أكون ضابطاً في كتيبة المهندسين مثل أبي تماماً ، ولم تكن لدي هناك أية حرفة بديلة كنت أحلم بها ، وقد بحثتها بحثاً مستفيضاً ، ونتيجة لذلك أدرج اسمي في امتحان القبول في الكلية العسكرية في وولوج والتي فتحت أبوابها في شهر آب سنة 1914 .. وبعد أيام قلائل اشتركت في امتحان الدخول إلى الكلية العسكرية ونجحت فكنت الثاني بين المقبولين ، وقبل أربعين سنة من ذلك التاريخ كان أبي هو الثالث بين الناجحين .. " وقد اشترك غلوب في الحرب العالمية الأولى مع والده ، وهو مازال في الثامنة عشرة من عمره . وأخذ في سرد ذكرياته عن الحرب التي انتهت بعد أربعة سنوات ، ثم استدعي إلى تشاثام لحضور دورة هندسية تستمر لمدة عام واحد ، وما كادت تلك الدورة تنتهي حتى يقول غلوب باشا : " حين يوصد الله أحد الأبواب ، فإنه يفتح أخرى غيرها ، ففي مجرى العمليات العسكرية ضد الأتراك في الحرب العالمية الأولى كانت بريطانيا قد احتلت وديان نهري دجلة والفرات ، التي تعرف الآن باسم العراق ، ولقد تم تسريح الجيوش منذ ذلك الوقت ، ولم تبق منها سوى قوى الهياكل بقصد الحفاظ على الأمن .
ويواصل غلوب الكلام عن كيفية وصوله إلى العراق قائلاً : " في ربيع سنة 1920 انفجرت الاضطرابات ، كان معظم الضباط البريطانيين في القوات البريطانية الملغاة على استعداد لتسريحهم من الجيش . ونتيجة لذلك دعت وزارة الحرب ثلاثمائة من الضباط النظاميين للتطوع بالذهاب إلى العراق ، فقدمت اسمي وتم قبوله " .
كان الوضع في العراق في سنة 1920 معقداً ، لقد انقضت سنتان منذ أن انتهت الحرب العالمية الأولى ، غير أن مؤتمرات الصلح المختلفة قد أخفقت في اتخاذ أي قرار بشأن مستقبل العراق ، كانت بريطانيا من ناحية ، قد شجعت القومية العربية ، تحت إمرة شريف مكة لكي تضمن بريطانيا تعاون القوات العربية بقيادة شريف مكة معها ضد الجيش العثماني في فلسطين وسوريا ، وتنفيذاً لتعهداتها ، أقامت بريطانيا الأمير فيصل بن شريف مكة ، ملكاً على سوريا . ثم قامت فرنسا بمهاجمة دمشق وطرد فيصل ، غير أن بريطانيا لم تستطع أن تعلن الحرب على حليفتها في الوقت الذي مازالت فيه مفاوضات الصلح جارية في فرساي .
ويواصل غلوب باشا سرد ذكرياته في العراق قائلاً : " كان الجيش البريطاني قد بدأ بمغادرة العراق وكان ينبغي لي باعتباري عسكرياً فيه أن أغادر معه ، غير أنني ما أن وقعت في حب العراق ، غدوت على استعداد لتقبل المركز الذي أعطي لي ، وهو تعييني في إحدى المناطق الريفية ومهاجمتها بالطائرات إذا ما حدثت اضطرابات . كانت المنطقة التي كنت مسئولاً عنها تمتد إلى حوالي خمسمائة ميل حتى نهر الفرات ، من الحدود السورية إلى مقربة من البصرة على سبيل الحصر ، وربما إلى حوالي ثلاثين أو أربعين ميلاً على كل جانب من النهر ، أما إلى الغرب الجنوبي فكانت الصحراء تمتد إلى نحو مائتي ميل ، من حدود ما كانت تعرف باسم بلاد نجد آنذاك ، أي المملكة العربية السعودية في الوقت الحاضر ..
أما عن علاقة غلوب باشا بالعرب في صحراء العراق فإنه يخبرنا بأنه أقام معهم صداقات واسعة للدرجة التي أطلقوا عليه بعض الألقاب العربية ، مثل " أبو حنيك " ويشيرون إلى الجرح الذي أصيب به في الحرب العالمية ، كما أنه تلقى اسماً جديداً لكنه يعتبر مع ذلك محدوداً بالنسبة إلى عالم البدو ، فقد أصبح معروفاً بأنه " راعي وضيحة " ؛ والوضيحة البعير الأبيض الصغير ، أي صاحب البعير الأبيض الصغير .
ثم يقول في سنة 1928 انتهى الانتداب على العراق ، استدعيت إلى القصر ببغداد لأتلقى توديعي الرسمي من لدن الملك فيصل ولأتلقى منه وسام الرافدين ، لقد كان الملك معروفاً إلى شرقي الأردن ، لأن الأمير فيصل هو الذي قاد القوات العراقية ، التي شقت طريقها من العقبة إلى دمشق في الحرب العالمية الأولى ، باعتبارها حليفة لبريطانيا . كانت تلك بالطبع هي الحرب التي نال فيها لورنس الشهرة وحقق فيها سمعته السيئة بتبذيره الأموال على القبائل البدوية . وجه إليّ الملك فيصل نصيحة فقال يخاطبني " لا تعط المال إلى البدو ، إن في مستطاعهم أن يفعلوا كل شيء من أجل التكريم ، أما أن تهبهم المال فإن ذلك سوف يحطم صفاتهم الاخلاقية " .
ويقول غلوب باشا " حين ظهرت شرقي الأردن إلى الوجود في سنة 1921 نتيجة تفكك الإمبراطورية العثمانية ، كانت قد ورثت معظم الجيش الذي استطاع به الأمير فيصل الاستيلاء على دمشق في سنة 1918 فهذه القوة ، وإن لم يكن تعدادها ليزيد عن ألف وخمسمائة نفر ، كانت تضم وحدات من المدفعية والمخابرة . وإذا كان هذا هو الجيش العربي الوحيد الذي خاض غمار الحرب العالمية الأولى ، فقد أطلق عليه اسم الجيش العربي ، وحين طرد الفرنسيون فيصلاً من دمشق كانت بقايا هذا الجيش قد التفت حول شقيقه الأمير عبد الله . ومع ذلك فإن الحكومة البريطانية لم تكن ترتاب من إخلاص هذه القوة ، ولذلك أعلنت بأن ألفاً وخمسمائة رجل لا يمكن أن يؤلفوا جيشاً ، ولهذا أطلقت عليه اسم " الفيلق العربي " .
استطاع غلوب أن يقضي على غارات القبائل على شرقي الأردن وتمت له السيطرة تماماً على هذا الجانب من الصحراء ، يقول " تقرر أن تجري محاولة تهيئة شيء من النظام في غمرة هذه الفوضى ، ولذلك استدعتني الحكومة الأردنية لأن أتولى السيطرة على الصحراء التابعة لها ، وعلى هذا الأساس منحت رتبة لواء في الفيلق العربي ، وطلب إلى بأن أوطد القانون والنظام في منطقة الصحراء " ، ولمعرفة غلوب بقبائل العرب وطباعها تمت له السيطرة على الصحراء بالسلام ، يقول " كان من دواعي فخري وابتهاجي أن هذا السلام والأمن الجديدين ، قد تم توطيدهما ، من دون إطلاق رصاصة واحدة أو توقيف أو حبس رجل واحد " .