جنازة النسر
أظنُّها من الوطن
هذه السحابةُ المقبلةُ كعينين مسيحيتين ،
أظنُّها من دمشق
هذه الطفلةُ المقرونةُ الحواجب
هذه العيونُ الأكثر صفاءً
من نيرانٍ زرقاءَ بين السفن .
أيها الحزن .. يا سيفيَ الطويل المجعَّد
الرصيفُ الحاملُ طفله الأشقر
يسأل عن وردةٍ أو أسير ،
عن سفينةٍ وغيمة من الوطن ...
والكلمات الحرّة تكتسحني كالطاعون
لا امرأةَ لي ولا عقيده
لا مقهى ولا شتاء
ضمني بقوة يا لبنان
أحبُّكَ أكثر من التبغِ والحدائق
أكثر من جنديٍّ عاري الفخذين
يشعلُ لفافته بين الأنقاض
ان ملايين السنين الدمويه
تقف ذليلةً أمام الحانات
كجيوشٍ حزينةٍ تجلس القرفصاء
ثمانية شهور
وأنا ألمسُ تجاعيد الأرضِ والليل
أسمع رنينَ المركبة الذليله
والثلجَ يتراكمُ على معطفي وحواجبي
فالترابُ حزين ، والألمُ يومضُ كالنسر
لا نجومَ فوق التلال
التثاؤب هو مركبتي المطهمةُ ، وترسي الصغيره
والأحلام ، كنيستي وشارعي
بها استلقي على الملكاتِ والجواري
وأسيرُ حزيناً في أواخر الليل .
جناح الكآبة
مخذولٌ أنا لا أهل ولا حبيبه
أتسكعُ كالضباب المتلاشي
كمدينةٍ تحترقُ في الليل
والحنين يلسع منكبيّ الهزيلين
كالرياح الجميله ، والغبار الأعمى
فالطريقُ طويله
والغابةُ تبتعدُ كالرمح .
. . .
مدّي ذراعيك يا أمي
أيتها العجوزُ البعيدةُ ذات القميص الرمادي
دعيني ألمس حزامك المصدَّف
وأنشج بين الثديين العجوزين
لألمس طفولتي وكآبتي .
الدمعُ يتساقط
وفؤادي يختنق كأجراسٍ من الدم .
فالطفولة تتبعني كالشبح
كالساقطة المحلولة الغدائر .
جفاف النهر
صاخبٌ أنا أيها الرجلُ الحريري
أسير بلا نجومٍ ولا زوارق
وحيد وذو عينين بليدتين
ولكنني حزين لأن قصائدي غدت متشابهة
وذات لحن جريح لا يتبدَّل
أريد أن أرفرفَ ، أن أتسامى
كأميرٍ أشقر الحاجبين
يطأ الحقول والبشريه ..
. . .
وطني .. أيها الجرسُ المعلَّقُ في فمي
أيها البدويُّ المُشْعثُ الشعر
هذا الفمُ الذي يصنع الشعر واللذه
يجب أن يأكلَ يا وطني
هذه الأصابعُ النحيلة البيضاء
يجب أن ترتعش
أن تنسج حبالاً من الخبز والمطر .
. . .
لا نجومَ أمامي
الكلمةُ الحمراء الشريدة هي مخدعي وحقولي .
كنتُ أودُّ أن أكتب شيئاً
عن الاستعمارِ والتسكع
عن بلادي التي تسير كالريح نحو الوراء
ومن عيونها الزرق
تتساقط الذكرياتُ والثيابُ المهلهه
ولكنني لا أستطيع
قلبي باردٌ كنسمةٍ شماليه أمام المقهى
إن شبحَ تولستوي القميء ،
ينتصبُ أمامي كأنشوطةٍ مدلاة
ذلك العجوز المطوي كورقةِ النقد
في أعماق الروسيا .
لا أستطيع الكتابةَ ، ودمشقُ الشهيه
تضطجعُ في دفتري كفخذين عاريين .
. . .
يا صحراءَ الأغنية التي تجمع لهيب المدن
ونواحَ البواخر
لقد أقبلَ والليلُ طويلاً كسفينة من الحبر
وأنا أرتطمُ في قاع المدينه
كأنني من وطنٍ آخر
وفي غرفتي الممتلئة بصور الممثلين وأعقابِ السجائر
أحلمُ بالبطولة ، والدم ، وهتاف الجماهير
وأبكي بحرارة كما لم تبكِ امرأة من قبل
فاهبطْ يا قلبي
على سطح سفينةٍ تتأهب للرحيل
إن يدي تتلمس قبضة الخنجر
وعيناي تحلقان كطائرٍ جميلٍ فوق البحر .
تبغ وشوارع
محمد الماغوط
شعركِ الذي كان ينبضُ على وسادتي
كشلالٍ من العصافير
يلهو على وساداتٍ غريبه
يخونني يا ليلى
فلن أشتري له الأمشاط المذهبّه بعد الآن
سامحيني أنا فقيرٌ يا جميله
حياتي حبرٌ ومغلفاتٌ وليل بلا نجوم
شبابي باردٌ كالوحل
عتيقٌ كالطفوله
طفولتي يا ليلى .. ألا تذكرينها
كنت مهرجاً ..
أبيع البطالة والتثاؤبَ أمام الدكاكين
ألعبُ الدّحل
وآكل الخبز في الطريق
وكان أبي ، لا يحبني كثيراً ، يضربني على قفاي كالجارية
ويشتمني في السوق
وبين المنازل المتسلخةِ كأيدي الفقراء
ككل طفولتي
ضائعاً .. ضائعاً
أشتهي منضدةً وسفينة .. لأستريح
لأبعثر قلبي طعاماً على الورق
. . .
في البساتين الموحله .. كنت أنظمُ الشعر يا ليلى
وبعد الغروب
أهجر بيتي في عيون الصنوبر
يموت .. يشهق بالحبر
وأجلسُ وحيداً مع الليل والسعال الخافت داخل الأكواخ
مع سحابة من النرجس البرّي
تنفض دموعها في سلال العشبِ المتهادية
على النهر
هدية لباعة الكستناء
والعاطلين عن العمل على جسر فكتوريا .
. . .
هذا الجسرُ لم أره من شهورٍ يا ليلى
ولا أنت تنتظرينني كوردةٍ في الهجير
سامحيني .. أنا فقيرٌ وظمآن
أنا إنسانُ تبغٍ وشوارع وأسمال .