سأتحدث عن منظمة سرية شديدة الفعالية: إنها منظمة بورباكي...
الجنرال بورباكي، و هو Charles Bourbaki، و أقصى ما نعرفه عنه هو أنه كان جنرالا في الجيش الفرنسي و هزم هزيمة شنيعة أمام الألمان عام 1871، فكيف تشكلت إذن منظمة سرية تحمل اسمه؟
أدهى من ذلك و أمر: هذه المنظمة، و للتمويه على نفسها فإنها اتخذت اسم بورباكي، لكنها غيرت الإسم الأول: فاسمها هو "نيكولا بورباكي"، يعني Nicolas Bourbaki...
فمن تكون هذه المنظمة السرية؟ و ما هي أهم منجزاتها العظيمة؟ و متى نشأت و كيف استمرت حتى يومنا هذا مع أن معظم -إن لم يكن كافة- أعضائها
معروفون و مكشوفون و مفضوحون؟
منظمة بورباكي السرية نشأت في إحدى المدارس العليا في فرنسا، و"المدارس العليا" في فرنسا هي كليات الهندسة العليا، لقد تشكلت منظمة بورباكي من طلاب النورمال،
L'Ecole Normale Supérieure
إحدى أعظم، إن لم تكن "الأعظم بالإطلاق" بين المدارس العليا...
ذات يوم من العام 1923. قام راؤول هوسون (Raoul Husson) طالب السنة الثالثة في مدرسةالنورمال بتعليق إعلان يخبر فيه طلاب السنة الأولى بأن البروفسور هولمغرن سيلقي محاضرة في المدرج رقم كذا في الساعة كذا و أن عليهم أن يحضروها...
ثم إنه و في الساعة إياها جاء بنفسه -بعد أن ارتدى لحية مزيفة و تنكر قليلا- فبدأ بطرح محاضرته... المحاضرة ابتدأت بأشياء صحيحة و دقيقة، ثم إنه راح يضيف أشياء مختلقة: براهين خاطئة، حسابات مغلوطة، أخطاء منطقية بسيطة، لكنها جميعا مقدمة بأسلوب جذاب يخفي الخطأ، حتى توصل في نهاية المحاضرة لنتيجة خرافية ، أن هذه النظرية هي "نظرية بورباكي"...
الجميل في الموضوع أن طلاب السنة الأولى بلعوا القصة بالكامل لا بل و راحوا يفاخرون بعضهم البعض بفهمهم لنظرية بورباكي...
انتشرت القصة و أضحكت طلاب السنتين الثالثة و الثانية، و أيضا طلاب السنة الأولى حين عرفوا الحقيقة، و صارت هذه القصة تنتمي لتراث النورمال...
فكيف نشأ تنظيم سري يحمل اسم هذه المزحة؟
لمعرفة ذلك يجب علينا أن ننظر لحالة الرياضيات في أوروبا في بداية القرن الماضي، بعيد انتهاء الحرب
العالمية الأولى...
ففي حين كانت الرياضيات الألمانية، خصوصا الجبر، تخطو خطوات جبارة للأمام تحت رعاية العالم العظيم دافيد هلبرت، كانت الرياضيات الفرنسية،
خصوصا بعد وفاة العالم العظيم هنري بوانكاريه تعيش حالة من السبات الشتوي. تتعدد أسباب ذلك لكن أهمها هو، من ناحية أولى، أن هيلبرت جمع حوله عددا كبيرا من التلاميذ في حين أن بوانكاريه كان يعمل وحيدا و لا يهتم بتدريب التلاميذ، هذا من ناحية، و من ناحية أخرى خسائر الحرب...
ذلك أن ألمانيا كانت، خلال الحرب العالمية الأولى، تحتفظ بالرياضيين، و بشكل عام بنخبتها العلمية، في المؤخرة فلا ترسلهم للجبهة، و هذا ما سمح للرياضيات، و بشكل عام للعلم و للصناعة الألمانيان، أن يحافظا على نشاطهما.
أما في فرنسا حيث تسود المفاهيم الجمهورية فلا فرق بين مواطن و مواطن آخر، فقد تم إرسال الرياضيين كغيرهم للجبهة، و كغيرهم مات منهم الكثيرون: فمثلا مدرسة النورمال نفسها خسرت ربع خريجيها في تلك الحرب...
إذن كانت الرياضيات الفرنسية تمر في عصر انحطاط... و قد كان أول من دق جرس الخطر مدرسا في الجامعة، هو هنري كارتان، دق جرس الخطر خلال محادثاته مع صديقه أندري فيل -و كلاهما من خريجي النورمال- حيث كان يحدثه عن تفاهة منهاج التحليل الرياضي الذي يتوجب عليه أن يدرسه لطلاب كلية العلوم...
تفاهة منهاج التحليل إياه كانت تتمثل، من وجهة نظر كارتان، في نقطتين...
- أولاهما: الإبتعاد عن الحالات العامة، السهلة، الواضحة و التركيز على كل حالة خاصة على حدة...
- و منه ثانيتهما: الإمعان في التكرار: فالنظرية الواحدة كانت تكرر عدة مرات، وفقا لعدد الحالات الخاصة...
و في ذات يوم من العام 1934 يتخذ فيل قراره: إنه يقول لكارتان أن الوقت قد حان كي يصححا هذا الوضع الشاذ، و اتفق معه على أن يقوما بكتابة كتاب في التحليل الرياضي يستعيضان به عن المناهج الموجودة وقتها، كما و اتفقا على أن يستعينا لأجل ذلك بمجموعة من خيرة الرياضيين من زملائهم في مدرسة النورمال...
فهاهو التنظيم السري على وشك أن يولد...