لا ينبغي لاقامة الدولة الفلسطينية ان تكون الغاية النهائية لاتفاق السلام انما يجب ان تكون المحفز الذي يقود الى حل النزاع.
في فيلم "صوت الموسيقى" تحاول جولي اندروز بث روح المرح في الصغار الذين تركوا في عهدتها داخل اوروبا التي مزقتها الحرب فتغني لهم "لنبدأ من البداية, فالبداية مكان مناسب للابتداء".
ومن اجل اسكات صوت العذاب في ارضهم التي مزقتها الحرب يجد الاسرائـيليون والفلسطينيون انفسهم امام تحدي اعادة صياغة الاغنية لتأتي معكوسة على هذا النحو: لنبدأ من النهاية, فالنهاية مكان مناسب للابتداء". يقول توني بلير, المبعوث الدولي للسلام: "اقيموا فلسطين الان".
قبل ستين عاما, كانت الامم المتحدة قد قررت بان الطريقة الوحيدة لحل النزاع المرير في فلسطين هي البدء اولا بتقسيم الارض الفلسطينية الخاضعة للانتداب البريطاني الى دولتين. وهكذا فان ما يعتبر الان "النهاية القصوى", اي حل الدولتين, كان في ذلك الحين "البداية الاولى".
قبل عقد ونصف, حدث في اوسلو هذه المرة, ان قرر الفلسطينيون والاسرائـيليون وبمحض ارادتهم ان يضبطوا آلاتهم الموسيقية على ايقاع اغنية مختلفة. وقامت الاسرة الدولية في انابوليس في شهر تشرين الثاني الماضي بكتابة اللازمة التي تقول: في خلال السنة المقبلة ستقوم الدولة الفلسطينية التي ستعتبر خاتمة سمفونية السلام.
نمط التفكير الذي ساد هذه العملية يقول: توصل الى صفقة وسوف يأتي كل شيء في موقعه. لكن بلير يشير الى عدم وجود صفقة اصلا. فبخلاف اتفاقية الجمعة الحزينة التي حلت مشكلة ايرلندا الشمالية, فان الاتفاق الوحيد الذي تم التوصل اليه في الحالة الفلسطينية هو الاتفاق على السعي للتوصل الى اتفاق.
رئـيس الوزراء البريطاني السابق يريد ان يعيد تدوير الاسطوانة الاصلية. وتراه يجادل بان الطريق الى امام لا تقوم على التوصل الى صفقة بشأن الاتفاق اولا انما "كي ينجح مشروع قيام الدولة الفلسطينية, نحتاج الى البدء بتوفير حقائق الدولة على الارض قبل ان نتوقع من المفاوضات السياسية ان تكون مفيدة. فالدولة لا تتوقف على الاتفاق, انما على قدرة الفلسطينيين على ادارة امنهم واقتصادهم".
لقد اجهز صوت الحرب على جميع جهود السلام بين الفلسطينيين والاسرائـيليين, كما لو ان العنف مرتبط ارتباطا لا انفصام له بعملية صنع السلام. وبدلا من الاتفاق المنشود, لم يصل الشعبان الى اي وعد سوى توقع نشاز لا نهاية له من الارهاب والفوضى واليأس.
درجت عملية صنع السلام على سلوك التسلسل التالي: افرض وقف اطلاق النار, ثم تعامل مع القضايا المؤقتة مثل مكافحة الارهاب (بالنسبة للفلسطينيين) وتجميد المستوطنات (بالنسبة للاسرائـيليين), ثم وبعد ان تنتهي من ذلك عليك ان تتصدى للقضايا الاساسية وهي قضايا الحدود والامن واللاجئين والقدس.
في انابوليس, تم تغيير الجدول. فقد دعي الاسرائـيليون والفلسطينيون الى تجاوز الجدل حول من الذي يبدأ في تنفيذ القضايا المؤقتة التي تعرقل المسيرة والتوجه, بدلا عنه, الى المرحلة النهائية من عملية صنع السلام.
ووفقا لاستراتيجية بلير, فان الدولة يجب ان لا تكون النتيجة النهائية لصفقة السلام انما المحفز الذي يقود الى حل النزاع. يقول بلير "نحتاج الى تجسير هذه المصداقية بين التشكيك الاسرائـيلي بشأن قدرات الفلسطينيين الامنية والتشكيك الفلسطيني بشأن ارادة اسرائيل في ازالة عبء الاحتلال.
بلير الخارج لتوه من الاجتماع بالرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود اولمرت, اكد على الحاجة الى اعادة تأليف سمفونية السلام. فالمشكلة لا تتعلق بالقضايا الجوهرية التي يعتقد انها قابلة للحل. فصفقة "الارض مقابل السلام" لم تعد مشكلة, او بالاحرى انها لم تعد تمثل حجر العثرة. فاقامة الدولة امر يتجاوز جانب الارض والجغرافيا. وعلى الفلسطينيين ان يبرهنوا على كونهم قادرين على ادارة الدولة وحكمها على نحو جيد.
وبالنظر لغياب الثقة الذي يعانيه الاسرائيليون ازاء الفلسطينيين والفلسطينيون ازاء الاسرائيليين, فان الطرفين سيجدان ان من المستحيل تنفيذ صفقة الاتفاق حتى ولو تمكن زعماؤهم من تفعيل مفاتيح السلام.
ان قيام دولة فلسطينية لا بد ان يعزز من ثقة الفلسطينيين بقدرتهم على ادارة دولة فاعلة. وفي الوقت نفسه, سيكتسب الاسرائيليون ثقة بقدرة الفلسطينيين على توفير الهدف الذي يسعى اليه الاسرائيليون اكثر من سعيهم الى السلام وهو الامن. ان صنع السلام لا يكتسب مصداقيته الا من النتائج المنظورة. وهل هناك انجاز منظور اكبر من قيام دولة?
في شهر كانون الاول الماضي, وتحت تلويح عصا بلير, خصصت الاسرة الدولية مبلغ 7.4 مليار دولار لاقامة وتحسين البنية التحتية في فلسطين.
ان الخطوط العامة للتسوية السلمية, او ما يدعوه بلير "البيت على التل", واضحة بما فيه الكفاية لكن الطريق الى "تسوية قمة التل" تزدحم بالمطبات. اما الطريق التي تلتف حول العوائق فهي بيت يقوم على منتصف الطريق على منحدر التل, اي اقامة دولة فلسطينية.
ان صنع السلام عملية صعبة تشبه معركة صعود التل وخصوصا عندما يكون حولك كل هذا العدد من المشككين"..
ربما لا يكون لشعار "فلسطين الان" نفس وقع شعار "السلام الان", لكنه النغمة الوحيدة القادرة على طمس صوت الحرب.