آخر الأخبار

فيروز وزمن "صح النوم"

انشغلت الشارقة خلال الليالي الماضية بمتابعة الحدث الذي شغل من قبل بيروت ودمشق وعمّان، والمتمثل بعودة الفنانة اللبنانية فيروز إلى خشبة المسرح، في استعادة لعملها الشهير "صح النوم،" فتقاطر عشاق الفنانة ممن رغبوا باستعادة ذكريات" الزمن الجميل" أو مشاهدة "الأسطورة" أمامهم.

لكن صوت فيروز السحري والديكور الرائع واللوحات الراقصة المبتكرة وأجواء "الفنتازيا" التي تخيم على العرض، لم تفلح في حجب الجدل الذي أحاط بالعرض.

فنص المسرحية النقدي، الذي يحمل بشدة على الأنظمة الوراثية الجامدة وممارساتها المتجاهلة لرأي الشعب ومطالب المواطنين، احتضنته مدن وعواصم ليست في نظر الكثيرين النموذج الأمثل للديمقراطية والتداول على الحكم والاحتكام للشعب.

وكانت فيروز قد قررت استعادة المسرحية "الرحبانية"، التي عرضت للمرة الأولى مطلع العقد السابع من القرن الماضي، خلال مهرجانات مدينة "بعلبك" اللبنانية صيف عام 2006، حينها رأى الكثير من النقاد رابطاً ما بين العرض وما تشهده المنطقة من تطورات وأحداث سياسية.

وقال حينها الصحفي والكاتب جوزيف بشارة: "السيدة فيروز، كأنما أرادت بحسها الوطني المرهف، أن توقظنا من غيبوبتنا الطويلة.. عودة فيروز بمسرحية صح النوم تحمل معان وطنية وقومية كثيرة، فهي ستخاطب لبنان المحتقن بالانقسامات الطائفية المرة، وهي ستتحدث إلى المنطقة العربية الملتهبة بظلم الدكتاتورية وتطرف المتدينين وإرهاب الحمقى، هي تدرك أن لازال هناك أمل في إعادة الحياة إلى الجسد الوطني الغائب عن الوعي."

وبالفعل، ارتبطت المسرحية منذ ذلك الوقت بأحداث المنطقة، وكان الانعكاس الأول لهذه الأحداث فشل العرض المقرر في ذلك الصيف، بعدما تحول لبنان بأسره إلى مسرح كبير لمواجهة شرسة بين حزب الله والجيش الإسرائيلي، لتعود فتعرض مطلع 2007 في بيروت.

وتدور أحداث مسرحية "صح النوم" في قرية صغيرة، يحكمها والٍ لا يستيقظ إلا مرة واحدة في الشهر لساعات معدودة، يقوم فيها بتلبية احتياجات عدد بسيط من الناس، قبل أن يعود إلى سريره في "قصر النوم" تاركاً احتياجات الآخرين للشهر المقبل.

وتلعب فيروز في المسرحية دور المواطنة "قرنفل" التي تسعى للحصول على ختم الوالي لتعمر سقف بيتها الذي سقط منذ فترة، إلا أن الوالي يرفض طلبها لهذا الشهر، مما يرغمها على سرقة الختم لإتمام معاملتها، قبل أن تقوم بختم جميع معاملات أهل القرية ليتمكنوا من القيام بما يريدون.

وفي قمة الأحداث، لا تدري قرنفل أين تضع الختم، فتقوم برميه في بئر القرية، ويبدأ الوالي ومستشاره رحلة البحث عن السارق، لتعترف قرنفل في النهاية بمسؤوليتها عن ذلك، فيحكم الوالي عليها بالإعدام، لكن الأهالي يطالبونه بالصفح عنها، الأمر الذي يضطره للقيام بذلك، وإلى تسليمها الختم بشكل دائم، لأن يدها "مرنة" أكثر منه، وهو يخشى أن يداهمه النوم مجدداً فيعجز عن تلبية مصالح الناس.

ورغم "الطرافة" التي حاول الرحابنة إضفاءها على العرض، للتخفيف من حدة النص ورمزيته، إلا أن العمل لم يكن من النوع الذي يمكن أن ترحب به حكومات المنطقة في ذلك الوقت، فالرسائل واضحة والمغزى السياسي صريح.

لكن المفاجأة جاءت في أن ما لم تتقبله الأنظمة "الوطنية" في السبعينات استضافته وريثتها في الألفية الثالثة، ورغم أن حكام العهود السابقة كان لديهم من الشرعية والحجج على غرار "ضرورات المرحلة" و"الظروف الراهنة" ما يسمح لهم نظرياً برفض العرض، إلا أن ورثتهم على عروشهم - وكراسيهم الرئاسية أحياناً - لم يجدوا غضاضة في استقبال العرض، وكأن ما فيه لا يعنيهم.

فما تقوله فيروز على لسان قرنفل عن أن "الختم هو الدولة والدولة من خشب،" لم يمس الأمن الوطني هذه المرة، أما مشهد دخول الوالي إلى ساحة القرية وخلفه مجموعة من الجنود الذين يحملون لوحات تمثل عائلة الوالي، كناية عن السلطة المتوارثة في العائلة فقد بات اليوم عرضاً لواقع الحال عوض أن يكون إشارة احتجاجية ساخرة.

وبعيداً عن الدخول في موقف زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي في لبنان، وليد جنبلاط، المناهض للنظام السوري، إلا أن الكثير من النقاد في لبنان ردد كلماته التي وجهها إلى فيروز عندما قررت عرض المسرحية في دمشق حيث قال: "بعض الأصوات الغنائية القديرة تتبرع لأجهزة الاستخبارات السورية التي تفهم ثقافة القتل والاستبداد والقهر والظلم والبطش ولا تقدر الفن".

وقد سأل بعضهم عن سر قبول العمل الذي أدخل إليه ابن فيروز، الفنان اليساري زياد الرحباني، لمسات خاصة، مع العلم بأن أعمال الأخير لم تكن موضع ترحيب خارج حدود لبنان، بل كانت تهرّب مثل الممنوعات بعيداً عن أنظار حرس الحدود والرقابة.

وعلى كل حال، فإن الجمهور الذي خرج بعد مشاهدة عروض "صح النوم" لم يندفع لرفع صوته ضد "جور الحكام" أو "البيروقراطية" التي تنخر النظم والمجتمعات العربية أو "التعليب" الجاهز للانتخابات والإعلام.

ولم يندفع في مظاهرات تغذيها أحلام "التغيير" التي سادت المنطقة قبل ثلاثة عقود، عندما عرضت المسرحية للمرة الأولى، بل اكتفى بقيادة سيارته عائداً إلى منزله على وقع "الموسيقى الجميلة،" فالعصر ليس عصر التبدلات الكبرى، بل تطغى عليه هموم الرغيف.

وربما كان تعبير ناقد عجوز عاصر المرحلة الأصدق تعبيراً، إذ قال "لا يجب لوم فيروز، فالمسرحية وجدت لتعرض، ولا يجب استغراب الترحيب بعملها في مدن وعواصم كانت تعتبر النقد خطراً على أمن الدولة، إنما اللوم كل اللوم للذين يسمعون ولا يعون، فالعصر لم يعد عصر "جماهير" بل عصر "مشاهدين،" وهذا ليس وقت "صح النوم" بل "من عز النوم".. عذراً فيروز.