يحتاج المرء إلى أن يكون في غاية التفاؤل، حتى يمكنه توقع حدوث تقدم حقيقي من وراء المباحثات غير المباشرة التي بدأتها كل من سوريا وإسرائيل عبر وساطة تركية في أنقرة. في الحقيقة أن العقبات، التي تقف حجر عثرة في طريق السلام بين العدوين اللدودين- سوريا وإسرائيل- هي عقبات هائلة لدرجة تستبعد أي إمكانيات حقيقية للتوصل لصفقة بين الدولتين سواء في المستقبل القريب أو المتوسط.
الأمر المؤكد، أنه لا يمكن إنجاز أي خطوة جوهرية على طريق السلام بين الدولتين، طالما ظل بوش موجوداً في البيت الأبيض. فالرئيس الأميركي من ناحية أوضح بجلاء، أنه لا يوافق على الاتصالات الإسرائيلية- السورية، ويفضل بدلاً من ذلك أن تركز إسرائيل على المسار الفلسطيني في المقام الأول، ومن ناحية ثانية، فإن كراهيته لنظام الرئيس السوري بشار الأسد لا تخفى على أحد، حيث حاول دوماً ومن خلال أساليب التطرق إلى العقوبات، والترهيب والضغط الدبلوماسي، وإلى عزل هذا النظام وتقليص دوره الإقليمي خصوصاً ما يتعلق بلبنان. السوريون- من جانبهم- ليس لديهم ثقة في إدارة بوش، ولا يميلون إليها، وينتظرون على أحر من الجمر استبدالها بإدارة أخرى بعد الانتخابات التي ستجرى في شهر نوفمبر المقبل.
أما رئيس الوزراء الإسرائيلي "إيهود أولمرت الذي اختار- لأسباب تخصه- تجاهل الاعتراضات الأميركية على اتصالاته بسوريا، وقام بالفعل بإجراء مباحثات معها في أنقرة، فيعرف جيداً أن هناك أيضاً حدوداً للمدى الذي يمكنه الذهاب إليه في إغضاب واشنطن.
أولمرت لا يمتلك النفوذ السياسي، أو السلطة المعنوية اللازمة لإقناع الرأي العام الإسرائيلي المتشكك، بأن ثمن السلام مع سوريا هو ثمن يستحق الدفع.
ومن بين العقبات المهمة التي تعترض التوصل لصفقة بين إسرائيل وسوريا، تلك المعارضة الشرسة التي تبديها شريحة لا بأس بها من الرأي العام الإسرائيلي، لمثل تلك الصفقة. فهناك على الأقل نسبة لا تقل عن 60% من السكان الإسرائيليين يرفضون فكرة إعادة هضبة الجولان لسوريا، على الرغم من علمهم أن سوريا لن توافق أبداً على السلام مع بلدهم من غير استعادة هضبة الجولان.
فهذه الهضبة التي احتلتها إسرائيل منذ 40 عاماً تقريباً، تعتبر في نظر الكثيرين من الإسرائيليين جزءاً لا يتجزأ من إسرائيل لا يمكن التخلي عنه بأي حال من الأحوال. فخلال فترة الاحتلال الإسرائيلي تحولت الجولان إلى منطقة ترفيهية، يهرع إليها الإسرائيليون هرباً من مدنهم الضيقة. فالجولان من ضمن الأماكن التي يمكن للمرء أن يعيد فيها اكتشاف الطبيعة، ويركب الخيول، ويستمتع بالمناظر الخلابة، ويأكل ويشرب ما لذ وطاب من أنواع الأطعمة والمشروبات التي تقدمها المطاعم والكافتيريات والمحلات التي يمتلكها المستوطنون الإسرائيليون المقيمون في الهضبة. والجولان بالإضافة لذلك، مورد مهم من موارد المياه وموقع استراتيجي مهم، وهي حقائق تجعل "لوبي" مستوطني الجولان الذي يمثل 20 ألف مستوطن يهودي وهو "لوبي" قوي، ونافذ، وعالي الصوت، يعارض فكرة الانسحاب من الهضبة معارضة شرسة.
قليلون هم المراقبون الذين يؤمنون بأن رئيس الوزراء الإسرائيلي "إيهود أولمرت" جاد بشأن التوصل إلى سلام مع سوريا، أو أنه على درجة من القوه تسمح له بالقيام بالدور الذي سيناط به في أي صفقة تعقد مع الجانب السوري. فلو نظرنا إلى وضعه السياسي وظروفه الحالية وخصوصاً على ضوء تفجر قضية الرشوة التي طالته، فسوف نجد أن أولمرت لا يمتلك النفوذ السياسي، أو السلطة المعنوية اللازمة لإقناع الرأي العام الإسرائيلي المتشكك، بأن ثمن السلام مع سوريا هو ثمن يستحق الدفع. أما موافقته على الدخول في مباحثات غير مباشرة مع دمشق، فينظر إليها على نطاق واسع في المنطقة على أنها إما حيلة لصرف النظر عن اتهامات الفساد الموجه إليه في الوقت الراهن، والتي تهدد بقاءه في منصبه، أو أنها محاولة للضغط على الفلسطينيين لإجبارهم على تقديم المزيد من التنازلات، في أي مفاوضات أو تسويات قد تعقد معهم مستقبلاً.
لقد سعت إسرائيل دوماً إلى ضرب المسار السوري بالمسار الفلسطيني والعكس صحيح. فبدخوله في مباحثات مع سوريا ورؤية الفلسطينيين لذلك، فإن إيهود أولمرت يأمل في أن يؤدي هذا في حد ذاته إلى إخافة رئيس السلطة الفلسطينية "محمود عباس" ودفعه للاعتقاد بأنه سوف يُترك ليواجه مصيره وحيداً أمام إسرائيل الهائلة القوة.
وزعماء إسرائيل الرئيسيون بما فيهم "أولمرت"، ووزير الدفاع" إيهود باراك" ووزيرة الخارجية "تسيبي ليفني" لا يخفون أن دافعهم الرئيسي للسعي لتحقيق السلام مع سوريا، هو دفع دمشق إلى قطع علاقاتها مع طهران- التي يعتبرونها عدوهم الرئيسي- وكذلك قطع علاقاتها مع "حزب الله" في لبنان، و"حماس" في غزة.
ولكن مطالبة سوريا بقطع علاقتها مع طهران، و"حزب الله"، و"حماس"، مطالبة غير واقعية في الحقيقة، ويمكن القول إنها تعادل في درجة عدم واقعيتها مطالبة إسرائيل بقطع علاقتها مع الولايات المتحدة. يرجع ذلك لحقيقة أن سوريا قد دخلت في شراكة استراتيجية مع إيران منذ 30 عاماً، وتحديداً منذ الإطاحة بالشاه السابق محمد رضا بهلوي، وقيام نظام الجمهورية الإسلامية عام 1979. كما أن حلف (طهران- دمشق- حزب الله) يُمثل العمود الفقري للسياسة الخارجية السورية، والتحدي الرئيسي للهيمنة الأميركية- الإسرائيلية على المنطقة.
والحجة المضادة التي يمكن لسوريا تقديمها إذا ما طولبت بقطع علاقاتها مع طهران و"حزب الله" و"حماس"، هي أن إسرائيل يجب ألا تُملي على سوريا تفاصيل سياساتها الخارجية، لأن ذلك شأن سوري بحت، وأن خير ما يمكن أن تفعله هو الاعتراف بأن السلام، وعلاقات حسن الجوار الطبيعية، يجب أن تكون أهدافاً في حد ذاتها. ولكن السوريين يضيفون إلى ذلك أيضاً إنه في حالة تحقق السلام الفعلي بين الدولتين، فإنهم سيكونون أقل اعتماداً على إيران بالطبع، أما "حزب الله" فسيتحول في سياق السلام إلى حزب سياسي لبناني، بدلاً من البقاء كميليشيا مسلحة، بحجة أنه حزب مقاوم كما هو الحال في الوقت الراهن.
من وجهة نظر سوريا، يجب على أي صفقة سلام أن تتضمن عنصرين جوهريين: الأول تعهد إسرائيلي بالانسحاب من هضبة الجولان وتحديداً إلى ما وراء خط الرابع من يونيو 1967، أي إلى الخط الذي كانت تقف عليه سوريا مباشرة قبل حرب الأيام الستة. أما العنصر الثاني فهو اتفاق مؤداه على أن الترتيبات الأمنية التي سيتم التوصل إليها من جانب الطرفين من خلال التفاوض، سوف تكون ترتيبات ثنائية، ومتبادلة، ومتوازنة، في الوقت ذاته.
ويُفترض أن تتضمن تلك الترتيبات الأمنية مناطق منزوعة السلاح، ومناطق تحتوي على عدد محدود من القوات، ونظام إنذار مبكر، ومحطات رصد في المناطق الحدودية. ومن المتوقع كذلك في إطار تلك الترتيبات أن تصمم سوريا على الحيلولة دون حصول إسرائيل- التي تتفوق عليها بفارق كبير من الناحية العسكرية- على أية مزايا استراتيجية إضافية من وراء هذه الترتيبات الأمنية.
إن بدء العلاقات غير المباشرة بين إسرائيل وسوريا سوف يفيد دون شك في تخفيف حدة التوتر في منطقة الشرق الأوسط المضطربة، وهو تطور مرحب به في حد ذاته، لكن يجب أن نضع في اعتبارنا أيضاً أن الفجوة بين الدولتين هي فجوة واسعة، وعميقة، وقائمة، منذ أمد طويل، وبالتالي سيكون من قبيل التسرع توقع جسرها خلال وقت قريب في المستقبل.