ـ لقاء باريس في اليوم السادس للانتفاضة: عرفات مرتاح.. وباراك عصبي المزاج
الفلسطينيون اقترحوا نشر مراقبين دوليين فرفضنا فطالبوا بلجنة تحقيق أرادوها دولية وأرادها الإسرائيليون أميركية
قمة باريس وقمة شرم الشيخ وعود أُعطيت، وعود لم تتحقق أردت حصول حدث يعطي عرفات ذريعة لإعادة إحكام قبضته والخروج من دوامة العنف. اقترح شلومو، بعد أن تحدّث إلى عدد من الحكومات الأوروبية، عقد لقاء في باريس يجمع باراك وعرفات ووزيرة الخارجية، فذلك يعطي الفرنسيين سبباً لكي يبذلوا المساعدة، حتى ولو لم يكونوا طرفاً مباشراً في اللقاء الثلاثي. كنت قلقاً بشأن ميل الرئيس شيراك إلى تعظيم شأنه في مثل هذه الأوضاع، لكنّني وافقت على أنّ عقد لقاء في أوروبا سيكون مفيداً ـ خصوصاً إذا وفّر سبباً لمحاولة تبريد العواطف استباقاً لما قد ينتج عن مثل هذا اللقاء.
ولهذا السبب التقينا في باريس: باراك وعرفات ومادلين وجورج تنيت وأنا. وعند دخولي إلى ذلك الاجتماع، خطر ببالي أن خطوة معينة قد تلبّي رغبة عرفات في إظهار أنه حصل على شيء بدون أن يتعارض ذلك مع حاجة باراك إلى إظهار أن عرفات لم يكسب من العنف شيئاً. كانت فكرتي تقوم على الاستفادة من سابقة الخليل التي حدثت في عام 1994. فبعد المجزرة التي ارتكبها باروخ غولدشتاين سنة 1994، قبل رابين بإنشاء الوجود الدولي المؤقت في الخليل ونشره. وكان الوجود الدوليّ صغيراً ورمزيّاً بقيادة النرويجيين. لماذا لا ننشئ شيئاً شبيهاً الآن؟ لماذا لا نستخدمهم كمراقبين لما سيطلق عليه مناطق عازلة، تحيط بالمواقع العسكرية الإسرائيلية كافة؟
أحضر كل من باراك وعرفات وفده التفاوضي إلى باريس في 4 تشرين الأول/أكتوبر، والتقت الوفود الثلاثة في منزل سفيرنا في باريس. كان منزلاً رائعاً، تحيط به مساحات شاسعة، ويضم غرفاً مهيبة، وتستحضر إلى الأذهان حقبة لويس الرابع عشر ومملوءة بالمطرزات والأعمال اليدوية التي تليق بأن تعرض في اللوفر. كان فيلكس روهاتين سفيرنا هناك في ذلك الوقت، وقد أنفق مبالغ طائلة من جيبه الخاص لإعادة العظمة إلى ذلك المكان، وهو شيء يقدّره الفرنسيون.
كان العنف قد دخل يومه السادس (الإشارة من المؤلف لأحداث الانتفاضة الفلسطينية التي إنفجرت على خلفية زيارة شارون، وكان وقتها في المعارضة، الى الحرم المكي، بما قاد ووفق رواية المؤلف في حلقة أمس الى قطع الطريق على اتفاق كان المفاوضون الفلسطينيون والإسرائيليون على وشك التوقيع عليه.. الإيضاح من «الشرق الأوسط» )، ولم تكن مفارقة عقد لقاء في مثل هذا المكان الفخم لمناقشة انتفاضة جديدة خافية على أحد منا. بدا عرفات مرتاحاً; وكان باراك عصبي المزاج، ومن الواضح أنه كان يخشى أن يظهر بمظهر من يقدّم مكافأة للعنف. وكما توقّعت، فقد كان عازماً على ألاّ يكسب عرفات شيئاً. وعلى النقيض من ذلك، كان عرفات يسعى إلى شيء لكي يظهر لشعبه أنه استطاع مرة أخرى أن يعود بشيء إليهم بمهارته.
التقينا بباراك ووفده أولاً، وأسمعنا خطاباً مسهباً. وعندما اقترحت عليه فكرة إنشاء مجموعة مراقبين شبيهة بمجموعة الوجود الدولي المؤقت، كان رده رفض الفكرة جملة وتفصيلا قائلا: «عرفات يريد تدويل الصراع; لن نفعل ذلك». وعندما جادلته بأنه لم يأت بشيء جديد، فرابين من فعل هذه السابقة، ونشْر مراقبين عند نقاط التماس سيخدم مصالح إسرائيل، ردّ بشكل قاطع: لا».
بعد أن وجدا أنه لا سبيل إلى إقناعنا بضرورة نشر قوات أو مراقبين دوليين، ضغط نبيل وصائب، مع عرفات الذي انضم إلى المناقشة المتعلقة بهذا الموضوع، من أجل إنشاء لجنة تحقيق. فهذا سيسمح لهم على الأقل بأن يظهروا للفلسطينيين أنه ستكون هناك مساءلة أو مسؤوليّة قد تحمّل للإسرائيليين عن القتلى والجرحى الفلسطينيين. ومع أنني لم أقبل بالضرورة بتلك النقطة، فقد شعرت بأنه ستكون هناك فائدة في إنشاء لجنة لتقصّي الحقائق، ولم أكن أمانع في أن يستخدمها الفلسطينيون كغطاء أو تفسير لوقف العنف. ولذلك اقترحت إنشاء لجنة لتقصّي الحقائق ترأسها الولايات المتحدة للنظر في أسباب اندلاع العنف ولماذا زادت حدّته وكيف، وما هي الدروس التي يمكن للجانبين استخلاصها من هذه الأحداث لتجنب أي تكرار لها في المستقبل.
في اللقاء الثلاثي، كان عرفات وباراك مستعدين للقبول بهذه الصيغة، لكنهما اختلفا قي طريقة تشكيل مجموعة تقصّي الحقائق. رغب باراك في أن تكون مؤلفة بالكامل من الأميركيين، في حين أرادها عرفات مجموعة دولية ترأسها الأمم المتحدة.
بعد أن اتفقا على العودة إلى هذا الموضوع لاحقاً، ركّزنا اهتمامنا على الخطوات العملية التي يمكن لكل طرف اتخاذها لتسهيل خروج الطرف الآخر من الهوة. في تلك الأمسية، طلب باراك استراحة لكي يناقش مع وفده الخطوات الممكنة. وبعد تأخر دام ساعتين تقريباً، ذكّرنا باليوم الذي أمضيناه في انتظاره في كامب ديفيد، ضاق عرفات ذرعاً بالجلوس فغادر مجلسه وطلب إحضار سيارته ليرحل. لحقت به مادلين، وقطعت على الإسرائيليين خلوتهم، قائلة لرئيس الوزراء بأنّنا ضقنا ذرعاً، لقد شعر عرفات كما لو أنه مرؤوس قليل الشأن ينتظر إشارة له بالمجيء.
قالت مادلين لباراك، بعد أن أقنعت عرفات بالبقاء، إنه لا يمكنه معاملة الفلسطينيين بهذه الطريقة. نزل باراك المتكدّر واعتذر لعرفات، مما مهّد لتغيير المزاج وتهيئة الجوّ لمناقشة جيدة لكيفية معالجة نقاط الاحتكاك الرئيسية.
* كيف قاوم أبو عمار عقد قمة شرم الشيخ.. ولماذا لين موقفه؟
* قاوم عرفات، الذي كان يشعر بأن المزاج الدولي يميل إلى صالحه، فكرة عقد القمة. وسعى قبل الموافقة على القمة إلى انسحاب الإسرائيليين إلى المواقع العسكرية التي كانوا متمركزين فيها قبل اندلاع الانتفاضة، وإلى إنهاء إغلاق مطار غزة والمعابر الدولية، والالتزام بإنشاء لجنة دولية لتقصّي الحقائق.
عملنا لعدة أيام مع الرئيس مبارك، ومع الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان، الذي صادف وجوده في المنطقة وكان يتردد جيئة وذهاباً بين باراك وعرفات، والملك عبد الله عاهل الأردن، والأمير عبد الله ولي عهد المملكة العربية السعودية، والقادة الأوروبيين لإقناع عرفات بأن كافة القضايا التي يثيرها سيجري بحثها في القمة، وأنه لا يمكن فرض شروط مسبقة لعقد القمة. لين عرفات من مواقفه وذهبنا إلى شرم الشيخ لمدة يومين، 16 و17 أكتوبر (تشرين الاول).
ترأس القمة الرئيسان كلينتون ومبارك، وشارك فيها كل من الملك عبد الله وكوفي أنان وخافيير سولانا من إسبانيا (ممثلاً الاتحاد الأوروبي)، لكن الوفد الأميركيّ هو الذي أدار اللقاء. سعينا في البداية إلى صياغة إعلان متفق عليه على المستوى الوزاري، لكن تبيّن بشكل جليّ أنّ ذلك مهمة مستحيلة. أصرّ الفلسطينيون على اعتراف الإسرائيليين بالخطأ وهو ما لن يحصل قطّ. وبعد قضاء عدة ساعات في محاولة صياغة وثيقة، اقترحت أن يعمد الرئيس إلى الاجتماع بكل زعيم على حدة. وفي تلك الأثناء، بدأ جورج تينيت وعمر سليمان ـ رئيس الاستخبارات المصرية ـ مناقشات مشتركة مع المسؤولين الأمنيين الإسرائيليين والفلسطينيين.
وبحلول المساء، دعاني جورج تينيت ليخبرني بأنهم يحرزون تقدماً ملموساً نحو إعداد خطة عمل أمنية متفق عليها ـ تمثل جوهر الإعلانات الموازية التي تطالب بوقف لإطلاق النار وأوامر فلسطينية إلى قوات الأمن والتنظيم بوقف العنف، وإقامة الفلسطينيين مناطق خالية من المظاهرات بالقرب من المواقع الإسرائيلية، وإعادة فتح الإسرائيليين مطار غزة والمعابر الدولية بعد أربع وعشرين ساعة، والانسحاب التدريجي للجيش الإسرائيلي في غضون أسبوع إلى المواقع التي كانوا فيها قبل 29 سبتمبر (ايلول). بدأ هذا التسلسل بإعلانات مشتركة لكنّه كان يتطلّب يومين من الامتثال الفلسطينيّ الواضح قبل أن يبدأ الإسرائيليون بالردّ بالمثل. كان المطلوب أن يبقى الاتفاق سرّياً. لم يكن يمكن بالطبع أن يتمّ أي شيء بسهولة، ومع أن الجوهر الأساسي للخطة لم يطرأ عليه تغيير، لكن الصياغة والعناصر الإضافية المتعلّقة بضرورة وقف التحريض الفلسطيني وممارسة ضبط النفس من قبل الإسرائيليين أصبحت مصدراً للنزاع. وفي النهاية، حصل آفي ديختر، الرئيس الجديد لجهاز الشين بيت، على موافقة باراك، لكن جبريل الرجوب قال لجورج إنه بحاجة إلى الحصول على موافقة عرفات الصريحة على الخطة.
وقرابة منتصف الليل، طلب تينيت عقد لقاء ثلاثي بين كلينتون ومبارك وعرفات للحصول على موافقة الأخير. رافقت الرئيس وتينيت في اللقاء، ورافق سليمان وأسامة الباز الرئيس مبارك. وكان الرجوب وأبو ردينة بصحبة عرفات. أنصت عرفات فيما كان جورج يتلو نقاط خطة العمل. لم ينطق الرجوب بكلمة واحدة، ولم يرد عرفات، الذي كانت رجله تنتفض بسرعة، ردا فورياً.
أشار عرفات إلى الحاجة إلى وجود مراقبين دوليين أو تشكيل لجنة على الأقل، كما لو كان يسعى إلى إعادة فتح كافة المسائل. أومأت الى الرئيس (كلينتون) بأني أودّ أن أقول شيئاً فطلب مني التحدث فقلت، «السيد رئيس السلطة، لدينا خطة عمل صاغها جورج تينيت وعمر سليمان، وكِلا الرجلين يعرفان احتياجاتك. وما قاما به يتطلب من كِلا الطرفين الانتقال بخطوات دقيقة جداً مرتبطة بجدول زمني. وبدون النهج المتفق عليه في ما يختص بالأمن، لن يحدث أي شيء. لن يكون هناك اقتراح أميركي، مع أننا بذلنا الكثير من الوقت في التفكير بواحد، ولا تخفيف للظروف التي يعاني منها شعبك، وسوف تخسر ما تبقى من فترة رئاسة كلينتون. وأنت قلتَ لي مراراً إننا لا يمكننا حل النزاع وصنع السلام إلا مع الرئيس كلينتون».
عند هذه النقطة، أومأ عرفات برأسه، وقال له كلينتون إنه بحاجة إلى مساعدته لتحريك الأمور قدماً. وافق عرفات على خطة العمل، لكننا كنا لا نزال بحاجة إلى الاتفاق على ما سيقال في نهاية القمة ـ ومن سيتلو البيان الختامي.
وبناء على المناقشات الجدلية التي سبقت بشأن البيان، كانت توصيتي بأن نصدر نحن الأميركيين تصريحاً بالنيابة عن جميع الأطراف. وهذا ما جنّبنا الحاجة إلى توقيع كل من الجانبين على التصريح، لكننا لا نزال بحاجة إلى الموافقة الأساسية على مضمونه لضمان عدم مناقضة أي من الجانبين لما قلناه. التقى الرئيس بعرفات وباراك كل على حدة في الساعات الأولى من الصباح وكذلك قبل إصدار التصريح لجمع توقيعيهما.
تضمن البيان ثلاثة أقسام جوهرية: يوضح القسم الأول الخطوات العامة التي سوف تتخذ لإعادة الأمن وإنهاء العنف ـ وهي الخطوات التي تشتمل على الخطوط العامة لخطة عمل جورج تينيت بدون إيضاح جدول زمني لهذه الخطوات; ويتناول القسم الثاني موضوع تشكيل لجنة لتقصي الحقائق بناء على تنسيق الولايات المتحدة مع الإسرائيليين والفلسطينيين و«بالتشاور مع الأمين العام للأمم المتحدة». وستناط بهذه اللجنة مسؤولية تقييم الحقائق «فيما يتعلّق بالأحداث التي جرت في الأسابيع الماضية وكيفية منع تكرارها»; ويتحدث القسم الثالث عن إيجاد مسار للعودة إلى المفاوضات ينتج عن إعلاننا بأن الولايات المتحدة سوف تتشاور مع الفرقاء بشأن أفضل طريق لاستئناف «الجهود الهادفة إلى التوصل إلى اتفاق شرعي ودائم».
استطعنا أن نردم الخلافات بالإعلان عن أننا سنتشاور في موضوع لجنة تقصي الحقائق مع كوفي أنان بشأن ما تحصل عليه من معلومات وأنه سيترأسها أميركيون ـ عضوا مجلس الشيوخ السابقان جورج ميتشل ووارن رودمان ـ على أن تضم ممثلين أوروبيين ومسلمين. وعن مباحثات السلام، أعلنا بأننا سنجري مشاورات مع الجانبين تستغرق أسبوعين لتحديد أفضل السبل «للمضي قدماً».
قبل عرفات بالبيان آخر الأمر في لقاء جمعه مع الرئيس ومبارك قبيل إصدار الرئيس للبيان. لكن عمرو موسى أصرّ على رفضه حتى النهاية حيث رأى بأنه كثير العمومية ولأن على الإسرائيليين إعطاء إيماءات فورية مثل رفع الحصار عن الفلسطينيين ـ وهو أمر سيحدث في غضون أسبوع، على افتراض أداء الفلسطينيين ما عليهم في الثماني والأربعين ساعة الأولى. ولم يكتفِ مبارك بنقض مقترحات موسى فحسب، بل استبعده أيضاً من اللقاء الأخير بين كلينتون وعرفات (يعتقد البعض بأن تصرفات موسى في شرم الشيخ جعلت مبارك يستبدله كوزير للخارجية بعد ذلك بستة أشهر).
في اللقاء الخاص الذي جمع عرفات وكلينتون، قال عرفات للرئيس إنّه مستعد لعقد قمة أخرى لكنه شعر أنه من المهم بالنسبة إليه وإلى باراك عقد لقاءات منفصلة مع الرئيس أولاً لتمهيد الطريق. ونتيجة لذلك دعاه الرئيس إلى القدوم إلى واشنطن.
حصل عرفات على دعوة لزيارة واشنطن وحصلنا على بياننا عند انتهاء قمة شرم الشيخ، لكن عرفات أخفق مرة أخرى في أداء التزاماته. فقد صدر بيان عام باسم السلطة الفلسطينية يدعو إلى وقف العنف، لكن المناطق العازلة لم تظهر، ولم يتوقف التحريض، واستمر العنف. وبالتالي، توقّف الإسرائيليون عن الامتثال، بعد أن نفذوا بعض الخطوات الأولية. وعندما أجريتُ مع جورج تينيت اتصالات بالرجوب ودحلان، قيل لنا إنّ الرئيس سيفي بتعهداته لكنه بحاجة إلى الانتظار إلى ما بعد انتهاء القمة العربية المزمعة في 21 ـ 22 أكتوبر. كانت تلك القمة الأولى للجامعة العربية منذ أربع سنوات وأراد عرفات استخدامها لتبرير الخطوات التي ينوي اتخاذها حينها ـ أو هكذا قيل لنا.
* آخر عروض كلينتون لعرفات: دولة منزوعة السلاح والمجال الجوي بأراض فوق الـ90 في المائة
* لقاءات البيت الأبيض وقناة خلفية جديدة كنت أشك في نيات عرفات، بعكس الرئيس كلينتون، فإعادة تأسيس نفوذ له بين القادة العرب ومكانته في العالم العربي طغتا على مصلحته في وقف الانتفاضة في تلك الفترة الحاسمة. هل كان مستعداً في اللحظة الأخيرة، في الدقيقة الأخيرة، لعقد اتفاق سلام نهائي مع إسرائيل؟ بقيت غير متأكد، مع أن شكوكي تزايدت. إذا كانت له مصلحة في عقد اتفاق، فإن فرصتنا الأخيرة هي إبقاء الضغط عليه، ومن هذا المنطلق، كان علينا أن نلغي دعوته إلى البيت الأبيض، لكنّ ذلك لم يكن وارداً، لذلك سعيت إلى استخدام لقاء عرفات المتوقّع مع الرئيس كلينتون ـ وهو شيء يريده دائما ـ كورقة ضغط لكي يوقف الانتفاضة. وفي فترة الأسبوعين عقب القمة العربية، قلت لعرفات وللمحيطين به إنه من الصعب الاعتقاد بأن الرئيس سيكون على استعداد لمقابلته في البيت الأبيض إذا استمر العنف.
لم يتوقّف العنف، لكنه هدأ فعلاً في الأسبوع الذي سبق الزيارة. في الواقع، كان من غير المرجح إلى حد بعيد أن يلغي الرئيس كلينتون لقاءه تحت أي ظرف في تلك المرحلة، فقد كان مصمماً على محاولة تغيير الأوضاع، وكانت مدة رئاسته تقارب على نهايتها. من الواضح أن باراك لم يكن قد يئس بعد، وكذلك أنا بالرغم من شكوكي. وعلى ضوء سؤالي الدائم عما سيفعله عرفات عندما تحين لحظة الحقيقة، قلت للرئيس بأنه يحتاج في لقائه إلى اختبار عرفات لمعرفة ما إذا كان يريد التوصل إلى اتفاق. وافق الرئيس على ذلك: سيقوم بعرض الحدود الأساسية التي يمكن ضمنها التوصل إلى اتفاق ويسأل عرفات عما إذا كان مستعداً لقبولها.
في موضوع الأراضي والحدود، سيقول الرئيس لعرفات إن النتيجة النهائية بالنسبة للفلسطينيين في أواسط التسعينات في المائة. وفي موضوع الأمن، سيكرر الرئيس ما سبق أن قاله للفلسطينيين في سبتمبر (أيلول) عن دولة منزوعة السلاح، والمجال الجوي، وإعادة الانتشار في الحالات الطارئة، ومحطات الإنذار المبكر، والوجود الدولي، ومراقبة الحدود. وعن القدس الشرقية، وفي خطوة تتخطى كامب ديفيد وحتى ما ألمحتُ إليه في سبتمبر، سيتكلم عن مبدأ عريض: ما هو عربي سيصبح فلسطينياً وما هو يهودي سيصبح إسرائيلياً; وعن الحرم، سيقول إنه سيكون لكل طرف السيطرة على ما هو مقدس بالنسبة إليه. وفي موضوع اللاجئين، ستكون رسالته صريحة: لا يمكن أن يكون هناك حق للعودة إلى إسرائيل، لكن يمكن تأسيس صندوق دولي كبير للتعويضات.
وبيت القصيد في نهاية العرض: الرئيس بحاجة إلى أن يعرف من عرفات إذا كان يمكنه القبول بذلك. إذا كان الأمر كذلك، سيعمل الرئيس من أجل الوصول إلى اتفاق، وإلاّ فلن يكون في وسعه القيام بشيء آخر.
عندما دخلت البيت الأبيض للمشاركة في لقاء 9 نوفمبر (تشرين الثاني)، أدهشني توقيت ذلك اللقاء، فقد أجريت الانتخابات الرئاسية عندنا، ومع ذلك لم نتمكن بعد مضي يومين من معرفة من سيكون خليفة بيل كلينتون. بالنسبة إلى بيل كلينتون، ربما يكون ذلك لحظة للتفكير أكثر في بناء إرث له، لا سيما إذا كانت الانتخابات المتنازع عليها يمكن أن تؤثر على سلطة خليفته. قلت للرئيس إنه يجدر به أن يقول شيئاً عن الانتخابات، وكيف أنها لم تغير شيئاً بالنسبة إليه: سيغادر منصبه في غضون شهرين ونصف شهر، وهو بحاجة إلى أن يعرف الآن ما إذا كان التوصل إلى اتفاق أمراً ممكناً.
أومأ كلينتون برأسه مشيراً إلى موافقته. بدأ لقاءه بشرح معنى حصول انتخابات في الولايات المتحدة لا تكون نتيجتها حاسمة، وقال «الشيء الوحيد الأكيد هو أنني لن أكون الرئيس في 20 يناير (كانون الثاني)». ثم تحوّل إلى موضوع السلام في الشرق الأوسط، فكان عرضه لكافة القضايا تقريباً قريباً من الملخص السابق باستثناء قضية اللاجئين، حيث كان أقل صراحة مما كان مخططاً له، فاختار طريقة مختلفة لشرح سبب عدم قبول إسرائيل بحق العودة كمبدأ: لا يمكن التوقع من أي رئيس وزراء إسرائيلي أن يقدم تسويات مؤلمة في كافة القضايا ويسمح بوجود فتحة للاجئين تولّد على حد تعبيره «فيلاً في حجرة جلوسه بعد عشرين سنة»، مع عودة الشعب الفلسطيني الفتي جملة إلى إسرائيل.
في تلك اللحظة تناول عرفات من جيبه مقالة لصحيفة «هآرتس» تفيد بأن العديد من الروس الذين قدموا إلى إسرائيل إما أنهم ليسوا يهوداً أو أنهم لا يعتبرون كذلك في نظر الحاخامية في إسرائيل. وكانت وجهة نظره أنه إذا كان في وسع الإسرائيليين السماح بدخول هؤلاء الروس، فبوسعهم أيضاً السماح بذلك للفلسطينيين(*).1 وبالرغم من ذلك، سأل الرئيس عما إذا كانت الأطر التي أوجزها في صميم ما يمكنه الموافقة عليه، فردّ عرفات، «أجل». من الطبيعي انني أردت التأكد من أنه كان يعني ما يقول ـ أي أنه فهم ما طلبه الرئيس ـ لذا تدخلت وقلت «السيد رئيس السلطة، إن الرئيس يريد أن يعرف إذا كان ما عُرض عليك للتو مقبولاً من حيث الأساس بالنسبة إليك، وأنك تقبله كخطوط عامة لكل مسألة في الاتفاق».
ردّ عليّ عرفات، «أجل، مقبول كمبادئ». سألته ماذا عن التفاصيل؟ هل هي مقبولة؟ فلم يقل شيئاً. لم يكن بوسعه القول، لم يوافق على التفاصيل لأنها لم تُعرَض عليه. قال الرئيس كلينتون إن معرفة إذا ما كانت النقاط العامة التي اقترحها مقبولة هو ما يحتاج إليه الآن. وعاد عرفات إلى التأكيد بأنها كذلك.
بالنظر إلى الماضي، ربما حمّلنا إجابته الكثير من المعاني، وربما قال إنه موافق اعتقاداً منه أن ذلك سيمهد لأساس جديد في المفاوضات يتصف بالعمومية بما يكفي لكي لا يكون مقيداً له أو السماح لنا بالادعاء لاحقاً بوجود سوء نية لديه. لكن الرئيس وساندي ومادلين وأنا (وكافة أعضاء الفريق) رأينا في رد عرفات جواباً جدياً ـ جواباً يعني أن تلك الحدود تشكّل إطار عمل مقبولاً بالنسبة إليه للتوصل إلى اتفاق نهائي. فعرفات لم يكشف لنا قط أي شيء ذي معنى بالنسبة إلى الخطوط العامة لاتفاق الوضع النهائي. هنا، كان يبدو موافقاً على التسويات الأساسية لكافة القضايا الجوهرية، مؤكداً في الواقع على أنه قادر في اللحظة الأخيرة على اتخاذ القرار وصنع السلام.
من جهتنا، كنا متشوقين لإبلاغ باراك بأن عرفات يقبل بهذه الأطر كأساس لأي اتفاق. لكن في 12 نوفمبر، وعندما انضممت إلى الرئيس في اجتماعه الخاص مع باراك على مائدة العشاء في المطبخ الصغير الخاص بالرئيس خلف المكتب البيضاوي، بدا باراك غير متجاوب، فقد أصغى ببساطة إلى نقاط الاتفاق وإلى قبول عرفات بها كخطوط عامة، واختار عدم التعليق. وبدلاً من ذلك، عاد إلى التركيز على العنف، موضحاً أنه سيضطر إلى تشديد سياسته إن لم نشدد نحن سياستنا تجاه عرفات. كان ذلك مفهوماً من ناحية، لكنه غير محتمل بالنظر إلى ما أطلعناه عليه للتو.
لم نتقدم في مباحثات العشاء إلى أي مكان، فأثرت فكرة كنت قد تطرقت إليها مع عرفات أثناء زيارته: لمَ لا نفتح قناة خلفية بينه وبين أمنون شاحاك أولاً لنزع فتيل العنف ثم العمل على التوصل إلى تفاهم بشأن الوضع الدائم؟ لقد وافق عرفات على إنشاء هذه القناة، فلماذا لا تشرع في استخدامها لترى ما ستثمر عنه؟ وجهت السؤال إلى باراك فوافق على ذلك برغم أنه لم يكن متحمساً لها.
تبين بعد ذلك أنّ باراك أحجم عن فتح هذه القناة نحو أسبوعين. وعندما فعل، سرعان ما أدت إلى تراجع أعمال العنف. لا شكّ أن عرفات فاجأ شاحاك في اللقاء الأول عندما عرض القيام بخطوة اعتبر أمنون أنها أكثر صعوبة من تلك التي كان يثيرها: إرسال الشرطة الفلسطينية إلى بيت جالا (القريبة من بيت لحم) لمنع الفلسطينيين من إطلاق النار على حي جيلو في القدس. كان لذلك مغزى بالنسبة إلى الإسرائيليين أكثر من وقف العنف في غزة.
لكن لسوء الحظ، بعد هذه البداية الطيبة، وقعت حادثة في غزة قَتل فيها أحد أفراد جهاز الأمن الوقائي التابع لدحلان أحدَ الإسرائيليين. ألغى أمنون اللقاء التالي، لكن مع تضاؤل وتيرة العنف، وافق أمنون على استئناف المناقشات مع وضع قضايا الوضع النهائي الآن على طاولة البحث. وفي اللقاءات التالية، طلب عرفات أن يعود جلعاد شير وصائب عريقات إلى البحث في تفاصيل مختلف القضايا، وهذا ما قاما به.
استمرت الأوضاع في التحسن، وتوقف المشاغبون والمتظاهرون خلال شهر نوفمبر، لكن استمرت حوادث إطلاق النار في إثارة المشاكل، وبخاصّة داخل الضفة الغربية أو منها ضد الإسرائيليين. وقد كان يقع أكثر من أربعين من مثل هذه الحوادث يومياً إلى أن استؤنف الاتصال على القناة الخلفية. ثم انخفض عددها بعد ذلك إلى ست أو سبع حوادث يومياً. وصرنا نعتقد الآن كما الإسرائيليون، أن عرفات يبذل جهداً حقيقياً لإعادة السيطرة على الوضع. وأظهرت محادثاتي مع يوسي غينوسار وجلعاد وأمنون وصائب ومحمد دحلان ومحمد رشيد، إحراز تقدم في مناقشات الوضع النهائي.
اقترح الطرفان أن الوقت قد حان لكي أجتمع بعرفات. لم أرغب في الذهاب إلى المنطقة الآن لأن لجنة تقصي الحقائق التي يرأسها ميتشل كانت هناك في رحلتها الأول، ولكي تكون مستقلة، كان من المهم بالنسبة إلي أن أبقي نفسي بعيداً عن هذه المجموعة. واقترحت بالمقابل إجراء لقاء في المغرب، فوافق عرفات على الفور.