، ثم - تدريجيا - يتبسطون و يسترسلون في الحديث عنها ، و يشيرون بحذر أنهم ربما زاروها مرة او مرتين للإطلاع على ما فيها فقط ، ثم و بصوت منخفض - مع تحذيري من نقل ما يحكونه على لسانهم - يروون مغامراتهم فيها .
و بما أنها تعد جزءا من تاريخ بلدنا ، و التاريخ تاريخ ،سواء كان سلبيا او ايجابيا ، و لم أجد في أي مرجع دراسة وافية لتاريخ هذا المكان ، الذي قل من امتنع عن زيارته في ذلك الزمان ، حسبما تبين لي ، و لأهمية المؤشرات الأخلاقية و الاجتماعية التي يكشفها تاريخه ، و التي أترك تقديرها للقراء ، قمت بجمع المعلومات عنه من شفاه من عاصروه ، و ها أنا أقدمها لكم في مقالتي هذه :
في عام 1901 م قرر والي حلب العثماني رائف باشا افتتاح دار دعارة مرخصة في حلب ، أسوة بباقي مدن السلطنة العثمانية ،كما ذكر الطباخ في كتابه إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء ، و كان الهدف منها حصر و تنظيم عمل المومسات في هذا المجال منعا من تواجدهن في مختلف الأحياء و فرض رقابة صحية عليهن ، و انقسم الناس حينها بين مؤيد لفكرة حصر الدعارة في أماكن محدودة ، و معارض بشدة للترخيص الرسمي لها ..
يقول الطباخ في كتابه الصادر في العشرينيات من القرن الماضي : (بعد ان كانت المومسات قلائل أصبح عددهن يناهز خمسمائة ، و أصبح زائرو هذه الأماكن مئات من الناس بل ألوفا ، و تهافت الشباب على هذه المواخير لسهولة الوصول إليها و فشا فيهم داء الزهري و التعقيبة) .
لكن ترخيص الدعارة في أماكن محددة محصورة لم يمنع انتشار هذه الظاهرة بشكل سري، و المرأة التي كانت تمارس الدعارة بدون رخصة خارج البيوت الرسمية المخصصة لها، كانت تعاقب بالحبس ، فإذا ضبطت مرة ثانية او ثالثة تجبرها السلطات المختصة على الإقامة الإجبارية في دور الدعارة المرخصة.
و تقرر على إقامة بيوت الدعارة المرخصة في حلب - التي أطلق عليها اسم المحل العمومي - في حي بحسيتا ،التابع لحارة القلة ، قرب ساعة باب الفرج الحالية .
كان أغلب سكان حارة القلة و بحسيتا قبل افتتاح المحل العمومي من العائلات اليهودية ، و قد حدد مؤرخ حلب كامل الغزي في كتابه نهر الذهب عدد سكانها اليهود بحوالي أربعة ألاف شخص في العشرينيات ، و اشهرهم آل جدّاع , آل نحمات , آل ساسون , وآل دويك ، الذين انتقل الأغنياء منهم للإقامة في محلة الجميلية تجنبا للإقامة قرب بيوت الدعارة .
أما معنى اسم بحسيتا فقد أورد الغزي عدة آراء حول معنى الاسم ، و رجّح أخيرا ان بحسيتا مركبة من كلمتين : أولاهما بيت و التي تختصر في السوريانية بحرفي ( با ) فقط مثل أسماء المناطق السوريانية الأخرى ( بانقوسا و تعني بيت الناقوس ، باريشا و تعني بيت الريس و غيرها ) والثانية حسيوتا ومعناها الغفران أو الطهارة ، و بذلك يكون معناها بيت الطهارة و المغفرة .
ويقول الغزي : (الظاهر إنه كان فيها زمن الكلدانيين مكان مقدس ،يقصده الناس للاعتراف بخطاياهم )
أما خير الدين الاسدي صاحب موسوعة حلب المقارنة فقد رجح رأياً آخر أورده الغزي فيما أورده من آراء ، و هو الرأي الذي يقول أن الاسم محرف من باح سيتا ، وان شخص اسمه سيتا باح بسر ما ، و افترض الاسدي ان سيته هذا رجل صالح و لهذا السبب هناك جامع قديم جدا في المنطقة اسمه جامع سيته .
و هناك رأي يقول ان سيتة هو اسم منطقة من اصل سورياني ، و ان جامع سيته المذكور كانت له باحة أمامه ، و بدمج باحة مع اسم سيته كانت بحسيتا .
و أنا أرجح رأي الغزي على الآراء الأخرى فمن الواضح ان اسم سيته هو اسم قديم آرامي سرياني ، و لا يعقل ان يسبق بكلمة عربية هي كلمة باح ( بمعنى أفشى ) أو بكلمة باحة ( بمعنى ساحة ) .
شارع بحسيتا هو شارع مستقيم بطول ثلاثمائة متر تقريبا ، على جانبيه كانت توجد الدكاكين و اغلبها بقاليات ، و منها دكان يبيع المشروبات الروحية ، و في منتصف الشارع جهة اليمين يوجد مدخل صغير يؤدي الى زقاق المحل العمومي .
و سابقا كان في الزقاق الذي أقيم فيه المحل العمومي قبل ترخيصه ، مضافة للعموم ، و يطلق العامة على بيوت الضيافة اسم المنزول ، و هي من كلمة ( نزل ) الفصحى ، فيقال مثلا : (حللت أهلا و نزلت سهلا ) ، و عادة كان الأثرياء و الباشاوات و الآغوات ينشئون مكانا مخصصا لإقامة الأغراب و ضيافتهم مجانا ،هو المنزول ،و يسمى في الأرياف ( الاوضة ) .
و بعدما تحول هذا الزقاق الى مكان للدعارة ، صار اسم المنزول لدى الحلبيين مرتبطا ببيوت الدعارة ، بينما يستخدم أبناء بقية المحافظات هذا الاسم للإشارة الى المضافات . كما يستعمل الحلبيون كلمة كارخانة للدلالة على بيوت الدعارة ، و هي كلمة تركية تعني ( مكان العمل ) ، فالكار هو العمل او المهنة و الخانة هي المكان .
كان المحل العمومي الذي تم ترخيصه للدعارة ، مؤلف من مدخل ضيق يحمل رقم 142 في لوحة معلقة على جداره ، و لذلك اشتهر هذا الرقم كرمز للمنزول .
و تنفذ من المدخل الى زقاق ضيق ، على طرفيه مجموعة من الدور العربية، لكل دار حوش و عدة غرف موزعة في أطرافه ، لبعضها غرف علوية ( مربع ) .
و في نهاية الزقاق منفذ آخر له باب مغلق لا يفتح إلا في أحوال خاصة كاستقبال الجنود الفرنسيين و المليس ( و هي كلمة مشتقة من ميليشيا ) او لدخول الأطباء و موظفي الصحة .
قرب المحل العمومي كانت توجد حمام عامة تحمل اسم حمام الهنا ، و قد خصصت أوقات محددة فيها لفتيات الكرخانة ، و قد هدمت الآن .
و قرب المنزول مشفى خصصته الدولة لفحص الفتيات و لمعالجة الأمراض التناسلية .
في الأربعاء من كل أسبوع ، تخرج الفتيات من الباب الخلفي للزقاق المخصص لهذا الأمر ، ليقمن بزيارة الطبابة الشرعية - التي كانت قريبة من المنزول - لإجراء الفحص الدوري ، و في حال تبين إصابة أي منهن بمرض ما ، تعزل و تحجر حتى تتماثل للشفاء في المستوصف القريب من المنزول . و توجد فيه غرف تشبه الزنزانات ، كما تحجر الفتيات فيه طوال فترتهن النسائية الشهرية ، لمنعهن من العمل خلالها .
كانت الفتيات تلجأن لكيّ الرحم منعا من حصول الحمل ، و الى الإجهاض في حال تم حدوثه ، فقد كانت تربية الأطفال ممنوعة داخل المحل العمومي .
في مدخل المحل العمومي غرفة صغيرة تتواجد فيها دائما مفرزة مؤلفة من عنصرين من رجال الشرطة ، لمنع دخول الأحداث و للتفتيش عن الاسلحة منعا من استعمالها من قبل أقرباء الفتيات اللذين يرغبون بقتلهن لغسل عارهم .
للشرطي في المنزول أهمية عظمى ، فهو يمنع إدخال الأسلحة والسكاكين والمشروبات ويتدخل في كل صغيرة وكبيرة .
و يصدف أحيانا أن يعين شرطي متساهل ، فيتقاضى مبلغ بحدود الربع ليرة سورية - ارتفعت لاحقا الى ليرة واحدة - لغض النظر عن الشبان القاصرين الذين دون السن القانونية و الراغبين في دخول المنزول .
أمام مدخل المنزول مباشرة يوجد مسرح ضخم لتقديم العروض الفنية ، مؤلف من ثلاث طوابق ، على واجهته الحجرية كتابة قديمة هي ( قهوة السلام ) ، و قد اشتهر آخر أيام عمل المنزول باسم ( مسرح غازي )، و كانت الفتيات اللواتي يملكن مواهب فنية يقدمن عروضا فيه، و يسمين حينها الخوجات و مفردها خوجة ، و لا يشترط بالخوجة ان تمتهن الدعارة .
في المنزول تقيم عشرات الفتيات البالغات من مختلف الأعمار و الجنسيات، و كلهن غريبات من خارج المدينة ، فلا تضع السلطة فتاة من ذات المدينة في منزول المدينة ، لأنها تتعرض للقتل فورا من قبل أفراد عائلتها .
السبب الأكبر الذي كان يدفع الفتيات للدعارة ، و من ثم الإقامة الجبرية في المحل العمومي بعد القبض عليهن ، هو الفقر و الظروف الاجتماعية و الأسرية السيئة ، و أغلب المومسات لسن جميلات .
كانت المشروبات الروحية ممنوعة بشكل رسمي تجنبا للمشاكل التي يثيرها السكارى ، و لكن بعض الزجاجات كانت تتسرب للداخل ، كما تقدم المطاعم المحيطة بالمحل العمومي أنواع اللحوم المشوية الى داخل المحل .
لا يجوز أبدا إخراج الفتيات من المحل العمومي الى منازل المدينة . و يحق للفتاة يوم إجازة أسبوعي هو يوم الاثنين فكانت الفتيات - في فترة بعد الظهر - ترتدين لباسا محتشما ، و يركبن الحنتور مع رجال مفضلين لديهن لحضور السينما .
و في حال كبرن في السن ينقلن الى منزل قريب يسمى المنزول العتيق ، حيث يمضين ما تبقى من حياتهن في عوز و فاقة بالغين.
كان أغلب رواد المحل العمومي من الشباب العازبين و المراهقين و من العساكر و الوافدين الغرباء عن المدينة.
كان للعساكر يوم خاص هو الخميس مساءاً ، من الساعة السابعة حتى التاسعة مساءاً ، و تم تغييره لاحقاً الى يوم الجمعة ، و لهم تخفيض خاص في السعر يصل حتى النصف ، و يأتون برفقة عريف و يصطفون بالدور برتل عسكري ، قد يصل الدور الى العشرات ، و تستبدل يومها مفرزة الشرطة التي تحرس مدخل المنزول بعناصر من الشرطة العسكرية.
في الأربعينات كانت هناك ثلاث تسعيرات متعارف عليها ، و هي ليرتين ، و ثلاث ليرات ، و خمس ليرات ، تبعا لعمر الفتاة و مستوى جمالها ، و قد زادت هذه التسعيرة لتصل الى إحدى عشر ليرة في أواخر أيام المحل العمومي .
يمضي الشاب مع الفتاة فترة قصيرة لقاء هذا المبلغ لا تزيد عن ربع ساعة ، في حال رغب بتمديدها لمدة ساعة كان عليه ان يطلب فنجان قهوة و يدفع ثمنا له ليرة كاملة، أما إذا رغب بتمضية ليلة كاملة فيدفع تسعيرة مرتفعة و يسمى هذا الأمر الأنكاجيه ( و هي كلمة من اصل لاتيني يستعملها الفرنسيون و الإنكليز و تفيد التعليق و الانشغال ) .
بعد وصول الكهرباء للمنطقة ، وضُع في أرض حوش كل دار آلة كهربائية تسمى ( بيك آب ) لإذاعة تسجيلات الاسطوانات ، فيضع الرجل ربع ليرة سورية فيها ، و ينتقي الاسطوانة التي تحمل الأغنية التي يفضلها ، لتدار آليا .
ومن اشهر الفتيات اللواتي أقمن فيه في العشرينيات الفنانة ( بديعة ) اللبنانية الأصل ، و التي حملت لاحقا لقبٌ مشتق من حي المصابن القريب من بحسيتا ، هي الفنانة الشهيرة ( بديعة مصابني ) ، و كانت تقوم بالرقص و الغناء في المسرح المقابل للمحل العمومي، ثم رحلت الى لبنان ثم مصر حيث أقامت كازينو شهير جدا و هو كازينو بديعة مصابني ، و قد صدر فيلم مصري شهير بطولة نادية لطفي حول حياتها ، و في آخر حياتها عادت بديعة مصابني الى شتورة في لبنان ، حيث فتحت مخزنا صغيرا بالقرب من مزرعة عائدة لها ، تبيع فيه الألبان على الطريق العام باتجاه الحدود السورية .
يتبع