ظواهر علوية أم سوريّة؟
والأجيال التي جعلت من علي الديك رمزها الصباحي معذورة في بطالتها وتشردها وضيقها اليومي والإنساني، معذورة في رغبتها الجامحة في الهجرة، والجميل فيها أنها ليست طائفية كما تتصور، إنها جماهير من الشّغيلة اليومية التي تتجمع في ساحة اليمن في اللاذقية، وقرب حديقة الباسل والمرفأ في طرطوس بحثاً عن عمل يومي يسد الرمق والروح، جماهير مكسورة متعبة لا تعرف من لغة القساوة سوى الصراخ على الأهل والأولاد ولا تجرؤ على النظر في وجوه السادة الأخيار، وهي لا تميز في سوق العمل بين السُّنة وأهل الواق واق.
إن هذه الطائفة التي لم تنجب الفيلسوف المؤدلج للسلطة، هي التي أنجبت من هو أهم من أي تطبيل وتزمير، أنجبت في الشعر هامة مثل(أدونيس) ، أنجبت في المسرح قامة مثل سعد الله ونوس، أليس شخصاً مثله أهم من الكتبة والمؤدلجين والطبالين (من عماد فوزي الشعيبي وجرّ)؟ أليس هو الوحيد عربياً الذي أفتى بحق في جروحنا اليومية (الموت ولا التعريص مع دولة هذه الأيام؟) والذي كتب في كلمة العرب الوحيدة على مسارح العالم جميعها "إننا محكومون بالأمل وما يحدث اليوم ليس نهاية التاريخ" والذي قال للرئيس السابق ككلمة شكر عن العملية التي أجراها له (طوّقت عنقي يا سيادة الرئيس.)
وكما قاد حيدر حيدر الرواية عبر (الفهد، والوعول، ووليمة لأعشاب البحر، وشموس الغجر)جهر الشاعر حسن الخير بالقول إن السلطة والإخوان هما مجرد عصابتان واحدة تتاجر بالدبن والأخرى بالعروبة,وقال مخاطبا رفعت الأسد:(علا برتبته لص من سوئه خجلت فانحطت الرتب).
كان الأدق أن تقول أن السلطة لم تنتج الفيلسوف الذي ينظِّر لها أعمالها وأفكارها وقد ظهر أخيراً المفكر الهمام الذي سيجلو الغبار عن الأفهام الدكتور عماد الشعيبي (والذي افترض في حوارات المجتمع المدني المرحومة أن الطائفية هي "بنية أولية في الفكر البشري.") وإن اكتفت السلطة بالشعراء فهي لم تخرج عن الإجماع العكاظي العربي فقصيدة للشاعر محمود حبيب أو لأسعد الحارة أولسطام العلي هي أهم من كل ما ستحكيه المعارضة السورية في ضرورة المجتمع المدني .ولمعلوماتك فإن أهم المراجع النظرية لحزب البعث العربي الاشتراكي لم تكتب للحزب إنما كانت كتابات قوموية عربية، وسلسلة الإعداد الحزبي لم تظهر للوجود إلا بعد عام 1985.
لم تعن السلطة في سوريا بتقديم تبرير لتصرفاتها أياً كانت، والجميع يذكر كيف تعامل الإعلام السوري مع العديد من القضايا التي حدثت في داخل البلد وسياسة التطنيش وحتي والتجاهل: كان راديو لندن ومونت كارلو هما مصدر الأنباء للمواطن السوري ، واليوم هناك العديد من هذه التصرفات (مثلاً حجب الإعلام المحلي أكثر من ألفي كلمة من حديث بشار الأسد لصحيفة نيويورك تايمز قبل فترة.)
ليس خافياً عليك أن علاقة السلطة المبنية على أيديولوجيات مقدسة مع الحركة الثقافية التي تعاصرها ليست علاقة وئام على الأغلب وذلك لأن الثقافة لا حدود لها أي أن مَكْمن المشكلة هنا نظام ضائع بين القوالب الثابتة التي ورثها عن المعسكر الشرقي وعدائيته لهذا المعسكر أيديولوجياً.
الحرامي والأربعين علي بابا:
من الصعب ربط كل ما حدث في سوريا ضمن ثنائية مزدوجة (البعث والعلويون، الأصولية والسنة) وذلك لأن للسلطة فلسفتها الخاصة، الفلسفة التي تبيح كل المحرمات للوصول والحفاظ على المكتسبات، والسلطة السورية ليست علوية، بل هي زواج غريب بين العسكر والتجار، التجار الذين يهمهم الأمن كي يسرحوا ويمرحوا ويتاجروا بالوطن، والعسكر الذين مهمتهم تأمين هذا الجو للتجار مقابل تبادل (الخبرات والمصالح) وهذا لا يعني أبداً وجود توافقية بين أطراف هذا الزواج غير الشرعي وإنما هي محاولة لرفع المسؤولية التاريخية عن تخريب البلد وإلصاقها بالآخر دوماً. مع عدم إغفال سياسة التجار (المع والضد) حيث أن القيادات السنية التجارية التي تقف مع الدولة تمارس نوعاً من الحماية الأصولية خلاف السلطة التي لا توفرها للعلويين مثلاً (هناك مرجعيات دينية لكل الطوائف تقريباً تقوم بدور الحماية والدعم لأبناء رعاياها على عكس العلوية التي دمّر مشروع مرجعيتها المفتي العام للدولة المرحوم مؤخراً) والتي تخضع الآن لمرجعيات فردية متفرقة ذات مكانة روحية أكثر منها سياسة وذات اهتمام حياتي لا سياسي.
وحين يخرج كائن ما من بيئته ويتطبع بطبائع بيئة ثانية، يحمل في ذاكرته أيديولوجية المكان الجديد والعمل الجديد ولا يعود كما كان إلا بالاسم (هل نتكلم كماركسيين هنا؟)، والأجهزة الأمنية المرعبة فعلاً جزء من هذا الزواج الجديد ولا علاقة للمواطن السوري (العلوي أو غير العلوي) بهذا الأمر لأنه ما إن يدخل فرعاً أمنياً (كمعتقَل بفتح القاف) حتى ينسى حليب الرضاعة ويتذكر فقط (مع نيدو كبرو الولاد بصحة وفرح!)
أما كمعتقِل (بكسر القاف) فهو لا يعود علوياً، يُصبح ابن سلطة، وكثير من المعتقَلين العلويين كان لهم أقرباء في الأجهزة الأمنية الأمر الذي زاد عليهم التعذيب بدل تخفيفهم لتأكيد الولاء للسلطة (مدير التعذيب التدمري كان قريباً لأكثر من خمسة من معتقلي رابطة العمل ومع ذلك فقد قضى هؤلاء هناك.)
هل هذه هي القساوة العلوية؟
هذه القساوة التي منحتها إياهم الجبال لا تختلف كثيراً عن الطبع العام لسكان حماه مثلاً أو حلب أو غيرها بل هي على الأغلب أقل قسوة من الآخرين أي قسوة (الضعفاء) وذلك لكون الوضع العام مستوحى من واقع بدوي هو أساس الفتوحات الإسلامية الذي جلب معه أخلاقيات البدو المعروفة وذلك من دون التطرق إلى تشكيلة الواقع الاثني السابق للفتوحات الإسلامية والذي كان ذو غنى هائل مارس عليه الفتح الإسلامي التطهير(كان هناك بين دمشق ومكة أكثر من مئة دير بين مسيحي وابراهيمي وغيره.)
هل المواطن العلوي مسؤول عن تخريب شبكة المياه في درعا؟ هل هو مسؤول عن جفاف المياه في الحسكة أو عن أحداث القامشلي؟؟
المواطن هذا (وأفضِّل كلمة السوري بدل العلوي) هو جزء من الرمل المداس عبر خريطة هذا الوطن الكبير، هو جزء من الطحين وليس الطاحون لأن من في الأعالي لا يعرفونه، وليس علويو جبلة بأحسن من علويي طوكيو بهذا الأمر، إليك نماذج تؤكد هذا الكلام:
لماذا خلت كل مناطق الساحل من المشاريع والاستثمارات القادرة على إيجاد فرص عمل للشباب ؟
لماذا لم تصل الكهرباء إلى جرد القرداحة حتى عام 2002؟
لماذا جرد بانياس محروم حتى الساعة من مياه الشرب؟
لماذا تنخفض أسعار الليمون كل عام ويضطر المزارعون أحيانا لترك الشاحنات في البازار دون قبض ثمنها أو لإلقاء الحمولة على الطريق لأن ثمنها لا يفي حتى بأجرة النقل؟
لماذا تم القضاء على زراعات اقتصادية مهمة مثل التبغ وبالأخص الأنواع المرغوبة عالميا ,فالتنباك اللاذقاني كان ماركة مطلوبة كما السيجار الكوبي .
لماذا تم تخريب طبيعة الساحل والقضاء على جزء نفيس من الأراضي الزراعية الخصبة ,حيث تم شق الأوتوستراد في منتصف الساحل .
لماذا يجد التاجر الشامي أو الحلبي سوقاً لتصريف البندورة ولا يتم الأمر لتجار الساحل؟
مئات الأسئلة التي تدور في أذهان الناس باستمرار ولا تجد جوابا ..
أُعيد القول: السلطة سلطة، والمواطن خارجها هو مواطن لا طائفة له أياً كانت جغرافية سِتّه وجدّه!
الأصولية السنية لم تترك فرصة في الشارع السوري إلا واستغلتها لتأكيد "التلازم البعثي العلوي" الذي هو في منشأه أصلاً خطأ فالبعث الأول مسيحي علوي سني اسماعيلي درزي واليوم هو كذلك أيضاً وليس فاسدو السلطة في حلب بأقل من نظرائهم في اللاذقية (من مصطفى ميرو إلى أولاد مخلوف والأسد)، ليس هناك تلازم، وإلا لكنت شاهدت الإستثمارات والمنشآت والمصانع تغمر الجبال العلوية وليس يغمرها اليوم غير التناقض الفظيع بين الفيلات الحديثة والفقر المدقع.
هل كان علي بابا يسأل الأربعين (ألف فأكثر) حرامي عن طوائفهم؟
السفح السلطوي العلوي هو اسم لحالة غير موجودة، كان الأدق القول السفح السلطوي السوري (وهي القراءة التي أتوقعها منك ) وزيارة واحدة حقيقية للقرى العلوية توضح لك أن الجميع هنا متعب وفقير ودائخ يبحث عن وظيفة (تقدّم لمسابقة المركز الثقافي في اللاذقية أكثر من أحد عشر ألف بني آدم لشواغر تعدادها –صدِّق- سبعة عشر شاغراً)
أي سطح أوسع من هذا؟ هل تعتقد أن كل علوي هو "ابن سلطة"؟
إن الإساءة إلى البلد ليست مرتبطة فقط بالعلويين الذين هم حديثون على هذه اللعبة والتي يصعب تحديد بداية واضحة لها (الفترة التاريخية الملازمة لإسلام يهود الدونمة في تركيا هي نفس الفترة التي أسلمت فيها الكثير من عائلات دمشق اليهودية والتي كانت تتمركز في بيوتها المخططة في القيمرية بدمشق والتي هي أساس اللوبي السني التجاري الذي يحكم حركة رأس المال الموجه من جيوبنا نحو الخارج ونتفق تماماً مع ماركس أن اليهودية هي ممارسة يومية أكثر منها ديناً)
أعرف تماماً أنك تعرف كل هذا ولكن الذاكرة غير المثقوبة التي تحدثت عنها هي التي تتطلب هذا الأمر، ربما ذات يوم يفيق هذا التاريخ فيأخذ كل ذي حق حقه.
كان الأدق القول السفح السلطوي السوري الذي لم ينتج (منذ الاستقلال) دولة مؤسسات، أنتج قطّاعات وهمية تحت الاسم السابق، كل المؤسسات السورية (تجاوزاً) ولدت بعملية قيصرية، فلا المدير العام يفقه في الإدارة إلا كما يفهم تاجر الحليب في التصنيع النووي، ولا البقية من موظفيه يهمّهم المؤوسسة: هناك منهج متكامل لتخريب البلد: الموظف يهمّه الهرب من دوامه لكي يرتاح قبل عمله الإضافي الثاني، والمدير يهمه كمية النقود التي يستطيع جنيها خلال فترة إدارته وهكذا دوالي...ب!
هل العلويون هم من أصدر قرار إنشاء المؤسسات السورية كلها من (الخماسية) وانتهاء بآخر عملية تخصيص للقطاع العام تجري حالياً في صمت مدقع.
لماذا يُتَّهم من هم من أكثر المتضررين من هذه العمليات بإجرائها؟
الاستبداد تهمة الجميع، أساساً لأن مشروع (الدولنة) لم يتم منذ الاستقلال، ليس هناك انتماء حتى تكون هناك دولة، هناك مغتربين في وطنهم بالمعنى النفسي، الاغتراب العام الذي يخلق حقداً متبادلاً بين مشروع المواطن (إذا بقي هناك مشروع أو مواطن أو وطن) وبين السلطة، ليس هناك انتماء، هناك تفارق وانفصام لن يستطيع الدكتور جورج شولتز (وهو مختص بعلم النفس) أن يحله على ذمة محمد الماغوط.
إشارة ربما هامة: الأفكار الواردة في هذا المقال هي نتاج حوار طويل في المنتديات بين 2003-2005
يتبع....