موفق نيربية
في الحرب العالمية الأولى، جاء جمال باشا حاكماً لسورية، ويُقال إنه كان لا يمانع لو تيسّرت له السبل في أن يحوز دون رفاقه الاتحاديين بلاد الشام، وأعدم في السادس من أيار/مايو 1916عن طريق المحاكم العرفية نخبةً من السياسيين كان يمكن أن يكونوا قادرين على تغيير مستقبل بلادهم لو عاشوا. التهمة كانت الخيانة العظمى، أو بلغة أخرى: العمالة. كثيرون قالوا مثل ذلك، عمّن يتخلّى عن إخلاصه للدولة العلية حامية الإسلام.
أحد الكتاب (محمد الجارودي) ذكر في كتابه: «يجب أن نعلم شهداء 6/أيار ما كانوا إلا عملاء لفرنسا وبريطانيا وكل ما فعلوه هو تبديل استعمار الاتحاد الماسوني التركي بمثيله الفرنسي البريطاني». وابتدأت مسيرة التخوين وتزييف الوقائع المزدهرة الآن.
حين قال «لورنس العرب» في مذكرته إلى المخابرات البريطانية مطلع عام 1916 «إن العرب أقلّ استقراراً حتى من الأتراك، وإذا عوملوا بشكلٍ صحيح، يمكن أن يبقوا في حالة من الموزاييك السياسي، كنسيج من وحدات إدارية صغيرة ضنينة بذاتها، غير قادرة على التلاحم»، اعتمد على ما رآه، ولا يستطيع رؤية غيره. كان بالطبع يريد الترويج لمهمته وهوايته، إلاّ أنه لم يجانب الصواب كلياً.
حاول العرب آنذاك شيئاً أفضل وأشدّ طموحاً، يهدف إلى إقامة دولة عربية (أو كونفدرالية في الواقع) فيما كان معروفاً باسم «المشرق» مع العراق والجزيرة العربية. وهذا عنوان كبير مليء بالإيحاءات الروحية للقوميين منذ ذلك الوقت. ولم يكن الشريف حسين إلاّ عنواناً وطرفاً فيه، اعتمد على تفويض القيادات العربية ودعمها وخبراتها حتى يسير في مشروعه.
فبالارتباط مع مواضيع حركة الاتحاد والترقي، بالتوافق والتفارق، كانت الحركة العربية قوية حتى في الآستانة نفسها، معتمدة على دمشق كمركز اتصال رئيس. حمل الجناح المدني منها اسم جمعية «العربية الفتاة»، والعسكري اسم جمعية «العهد». واحتاج الشريف حسين إلى تفويضهما ومساعدتهما له وقبولهما بمبدأ التعاون مع قوى أجنبية لتحقيق الأهداف المشتركة، قبل أن يغوص في مفاوضاته مع البريطانيين. فزار ابنه فيصل (ملك سورية عام 1920، ثم ملك العراق بعد ذلك) دمشق مرتين، قبل عام من إعلان «الثورة العربية» والانضمام إلى أعداء العثمانيين والألمان لتسهيل الاستقلال. وحمل إليه منها «بروتوكول دمشق»، الموَقّع من قادة الجمعيتين.
تلك الوثيقة نصّ صغير عملي وبراغماتي يخلو من الإنشاء وعوامل التنميق والتفصيل، يطلب أن تعترف بريطانيا باستقلال البلاد العربية الواقعة ضمن الحدود التي تبدأ شمالاً بخط مرسين-أظنة ثم بموازاة خط العرض 37 درجة، ممتدًا إلى أورفة و ماردين و جزيرة ابن عمر فحدود فارس، وشرقًا: حدود إيران حتى الخليج، وجنوبًا: المحيط الهندي (ما عدا عدن)، وغربًا: البحر الأحمر والأبيض. كما ينص على مطلب إلغاء الامتيازات الأجنبية، وعلى القبول بمبدأ عقد تحالف دفاعي بين بريطانيا والدولة العربية المستقلة، وعلى منح بريطانيا الأفضلية في الشؤون الاقتصادية.
لم تنكشف تلك الورقة كما يبدو للسلطات العثمانية في دمشق، ولو حدث ذلك لاعتمد عليها جمال باشا وديوانه العرفي في حكم الخيانة العظمى الذي صدر بمقتضاه الحكم بشنق القيادات العربية البارزة في بيروت ودمشق. وربما اكتفى بتلك الوثائق التي حصل عليها من المخبأ الذي أودعت القنصلية الفرنسية فيه أوراقها السرية حين أغلقت مقرها في بيروت عندما اندلعت الحرب.
هنالك إذن وثيقة بقبول العلاقة الخاصة مع بريطانيا في سبيل الاستقلال، وأوراق تثبت اتصال شهداء 6 أيار بالفرنسيين لا أعلم أين يمكن أن توجد حالياً. ولم يكن ذلك مشكلةً لأولئك الشجعان آنذاك، الذين عقدوا المؤتمر العربي أساساً في باريس قبل عامين، وهم الذين يحتفل أهل المشرق سنوياً بذكراهم ويعتبرون حياتهم وموتهم نقطة انطلاق ونهوض في القرن العشرين ما بعد العهد العثماني. هم «الشهداء الآباء» في العصر الحديث.
في المنقول عنهم (في العربة التي نقلتهم إلى المشنقة أو أمامها) ما هو أكثر عروبةً ممن أتى بعدهم: نحن أبناء الألى... شادوا مجدا وعلا/ نسل قحطان الأبي... جد كل العرب- نموت لتحيا بلادنا حرة عزيزة.
استخدام التهمة بالخيانة جزافاً على الطريقة العثمانوية سرى كالنار في الهشيم، وظلّ سلاحاً «إرهابياً» يستسهله من لا زاد ولا حجة له، سواءٌ من أهل الحكم والسلطة أو المتعلقين بالإيديولوجيات على الطريقة التي فشلت وشبعت فشلاً، ولم يستوعبوا دروس الحداثة التي فهمها الرواد ببساطة من دون عُقد. ليس على نهج أولئك الوطنيين الذين أرادوا وعملوا من أجل الاستقلال والتقدم، بل على نهج جمال باشا المذكور، الذي يشهد عصره الذهبي حالياً... أم الخشبي؟!