----------------------------------------------
حشد من الناس ,علقت أنظارهم باتجاه باب لا يتعدى عرضه المتر ,صبايا وشباب بأعمار مختلفة أتوا من كل مكان وتجمعوا في ساحة صغيرة هي بالأساس رصيفا للمارين مع فسحة تؤدي لباب القلعة.
وفي الجهة المقابلة ..ثمة مقهى يغص هو الآخر بالمرتادين ,بين الحين والآخر يلتفت أحدهم ناحية الحشد ..قبل أن يأخذ نفسا من نرجيلته متابعا لعب طاولة الزهر أو الشدة أو لأخذ رشفة من كأس موضوع أمامه.
وعلى اليسار ينتصب تمثال برونزي لصلاح الدين الأيوبي , يبدو غير مكترث بالهواء الذي بدأ بالتحرك وبهز لوحة إعلانية أمام مدخل القلعة , حتى لقد أوحت بأنها على وشك السقوط .
من يرى المشهد من بعيد .. لا يتبادر لذهنه أن هذا الجمع قد أتى لحضور حفلة موسيقية لفرقة أوركسترا يتجمع فيها مجموعة من أقدرالعازفين والكورال في هذه المنطقة ..فطريقة التحشد أمام هذا المدخل الضيق والملاسنات التي نجمت عن الزحمةوالضيق البادي على أوجه الناس من هذا الموقف لا توحي بذلك.
المكان أصم أيضا لا يبعث تلك الأحاسيس التي ترافق من يذهب لمكان يفترض به أن يستقبل فرقا موسيقية بهذا الحجم وهذه الأهمية ...حجارة وأسوار تذكر بالفترة العثمانية تزيد من الإحساس بالكآبة .
...وقدما ..قدما ,تدخل..
يتغير إحساسك فور ولوجك تلك البوابة الضيقة , وهي على ضيقها تفصل بين عالمين ومنطقين وحياتين .
وكالعادة تنسى معظم تلك المشاعر السلبية التي كنت منذ فترة قصيرة تضيق بها .
وما إن تستقر على إحدى الكراسي البلاستيكية البيضاء حتى تستعيد شيئا فشيئا جزءا من إحساسك بالأشياء ..وبذاتك,محاولا أن تصطنع شيئا من العادات الأليفة ..تدخن سيجارة ..السلام على بعض الأصدقاء ..استكشاف جيرانك ..والمنصة التي ستستقبل الموسيقيين .
ولا تلبث أن تطمئن على أن الأمور تسير بشكل حسن , حتى تنتابك الأفكار المتشائمة مرة أخرى ..
من انقطاع الكهرباء لعدة مرات قبل بدء الحفل , واصوات بعض الأطفال الصغار ,حتى أجهزة الموبايل البغيضة والتي تم الطلب مرارا بإغلاقها ,تستل مرارا للتصوير والكلام مع الخارج.
وخوفك الأكبر من أن تكون طلة زياد الأولى..لا كما يتوقع الناس الذين بدأوا بترديد أغانيه , ولا كما يتصورونه ..الساخر والمتحدث ..
بل ان يتفاجأوا بموسيقى أوركسترالية صارمة قد لا تستساغ .
لكنهم أصغوا برهافة للموسيقى ,وغنوا بصخب مع الأغاني وبدوا وكأنهم يكملون الفرقة.
تتساءل بعد أن ترى هذا الإقبال وهذا الحماس:
هل من المعقول أن لا يجد زياد وفيروز من ينتج لهما أعمالهما؟
وهل من المعقول أن يضطر زياد يوما ما لبيع الإستديو الخاص به ؟
.....
كعادته ..
كان أكثر من المتوقع ..وأكبر من الواقع ..
بدا وكأنه القادر بنغمة أو بكلمة أو بتعليق ..على اختصار المشهد كله ..
كان حضوره طاغيا ..رغم انزوائه في ركن قصي وراء البيانو كعضو في الفرقة ..
وفي التفاصيل ..كان حبيبا ... وأليفا..
وبدا أنه حسب حسابا لكل شيء..
حتى لهواجسك الصغيرة
مسقطا إياها دفعة واحدة ..
وكان كعادته..
زياد الرحباني ...