أليس من المؤسف أن يمر هذا السؤال مرور الكرام فلا يهتم به أحد؟
سين سؤال: لنفرض أننا لا نعرف عن ديكارت سوى مقولته: "أنا أفكر إذن أنا موجود". بناء على هذه الجملة، كيف تصنف ديكارت: أتصنفه فيلسوفا مثاليا أم ماديا؟
***
مقدمة لا بد منها: واش هاظي المثالية و واش هاظي المادية؟
أكرر مجددا ما يجب قوله: المثاليون ليسوا من "يتبعون المثل الأخلاقية العليا"، لا و لا الماديون هم من "يتكالبون على متع الحياة المادية"...
بل العكس هو الأصح...
فمن "المثاليين" الذين نعرفهم كلاب آل سعود ممن يقضون حياتهم في التعريص في الكوت دازور...
و من "الماديين" الذين نعرفهم "الكتائب الأممية" التي ذهبت للدفاع عن الشعب الإسباني في وجه الوحش الفرانكي فكانوا يقطعون إربا و لا يتراجعون عن مواقعهم، و يفعلون ذلك دفاعا عن شعب لا يعرفونه و لا ينتمون إليه لا من أب و لا من أم، فلا يجمعهم به إلا حب الحرية.
تعريفا، المثالية هي مذهب فكري يزعم أن "المثال" (يعني: الفكر، الروح، يعني باختصار: الله) سابق على المادة و خالق لها.
المادية بالمقابل هي مذهب فكري يزعم أن "المثال" (يعني الفكر، الروح المزعومة، الله المزعوم) ليس إلا نتيجة بسيطة لوجود المادة (الإنسان يفكر، و الإنسان هو من اخترع فكرة الله، فالفكر الإنساني و بما فيه فكرة الله هو نتيجة تطور المادة العضوية من مرحلة وحيد الخلية وصولا للإنسان العاقل)...
هذا هو ما يسمى "السؤال الأساسي للفلسفة". و هو: أيهما وجد أولا: المادة أم الفكر؟
هذا السؤال يمكن طرحه بطرق متعددة، كلها متكافئة. سأعتمد إحداها لأنها تنفعنا في هذا المجال...
السؤال الأساسي في الفلسفة بطريقة أخرى: هل يمكن للعقل الإنساني أن يفهم الوجود؟
وضوحا، في الفلسفة المثالية، و هي الفلسفة التي تؤمن بوجود "الله" (أيا كان الإسم الذي نطلقه عليه ) فالجواب بديهي: لا يمكن للعقل الإنساني أن يفهم الله، ذلك أن الله "متسام"، يعني أن معرفته مستعصية على عقولنا. و منه فقدرات الفكر الإنساني محدودة، لا بل هي ضئيلة.
بالمقابل، ففي الفلسفة المادية التي تنفي وجود أي "متسام" لا يوجد ما يمنع العقل الإنساني من إدراك الحقيقة، فلا حدود لقدرة العقل الإنساني.
لهذا السؤال تتمة: ما هي الحقيقة؟
ففي فلسفة المثاليين هناك حقيقة عظمى: الله. (أذكركم أن أحد أسماء الله باللغة العربية هو "الحق"). و هذه الحقيقة هي حقيقة نهائية قاطعة و، كما أسلفنا، متسامية، يعني مستعصية على العقل الإنساني.
بالمقابل ففي فلسفة الماديين ليس هناك "حقيقة نهائية قاطعة"، عداك عن أن تكون "متسامية". الحقيقة في عرف الماديين هي "مجموعة من الحقائق الجزئية التي يؤدي تراكمها لمعرفة لا تنفك تزداد عمقا بالمادة بالعالم الذي يحيط بنا).
***
أمثلة متعددة...
لنأخذ مثالا عن الروح!
﴿يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي و ما أوتيتم من العلم إلا قليلا﴾ (قرآن المسلمين، الإسراء، آية 85).
بهذه الكلمات البسيطة يكاد محمد بن عبد الله يلخص النظرة المثالية للعالم! إنه يقول: "دعكم و التساؤل عن الروح، إنها الحقيقة النهائية التي لا يعرفها إلا الله! و أصلا علمكم محدود و لن تتمكنوا من الوصول إلا للقليل من العلم"...
فهو من ناحية أولى يزعم وجود "حقائق نهائية متسامية"، و من ناحية أخرى يدعي أن العقل الإنساني محدود القدرة.
بالمقابل، الماديون يدرسون جسد الإنسان فيعلمون أن "الروح" هي نتيجة عمل الدماغ. و هم على استعداد للبرهان على ذلك: أعطني أي رجل مؤمن بما يسمى "الروح"، سأستأصل دماغه... و دعنا نرى إن بقي لديه بقية من "روح"...
و أكثر من ذلك: الماديون لا يزعمون معرفة تلك "الحقيقة المطلقة" المسماة "روح". إنهم يعرفون، و يدرسون بشكل رائع، الحقائق الجزئية: عمل الدماغ، نبضات القلب، مرض الكوليرا، الأذن الوسطى و الداخلية... إلخ.
مثال ثان...
في النقاشات بين المتدينين و الملحدين نلاحظ عادة أن منهج المتدينين هو التركيز على بعض النقاط التي لم يتمكن العلم من حلها محاولين الإيحاء أن عقل الإنسان عاجز. بالمقابل يقوم الملحدون بالتذكير بتاريخ العلم و كيف أنه دمر سخافات المتدينين واحدة إثر الأخرى.
هذا الكلام كان صحيحا حين قام المتدينون في أثينا بمحاكمة و إدانة أناكساغوراس لأنه جرؤ أن يزعم أن النجوم هي حجارة مشتعلة تسبح في السماء فهو بذلك "أهان الآلهة"... اليوم المتدينون لم يعودوا يجرؤون حتى على الإعتراض على كلام أناكساغوراس... لكن هل يقبل المتدينون بأن حديث القرآن عن "السماوات السبع" هو مجرد تكرار لأساطير الأولين؟
***
مقدمة أخرى لا بد منها...
ما الذي كان يقصده ديكارت بجملته؟
ديكارت وضوحا كان يقصد أنه لن يقبل بأي حقيقة إلا إن تمكن من إثباتها بواسطة عقله. بواسطة محاكمة عقلية منطقية تتضمن برهانا واضحا: فحتى مسألة وجوده هو يشكك بها، حتى إذا ما وصل للإستنتاج أنه يفكر، و أن الفكر لا ينتمي إلا لكائن موجود، فديكارت يستنتج أنه موجود.
نلاحظ نقطتين:
- أولاهما ثقة ديكارت بقدرة العقل الإنساني على معرفة الحقيقة...
- ثانيتهما قناعته أن الفكر لا يأتي إلا من موجود، موجود مادي بداهة. وضوحا، بالنسبة لديكارت "الوجود المادي" سابق على الفكر.
***
نتيجة:
ديكارت يجيب بجملته إياها على السؤال الأساسي في الفلسفة، يجيب مرتين، و الجوابان متطابقان، و هما جوابا الفلسفة المادية:
- نعم، المادة سابقة على الفكر.
- نعم، العقل قادر على معرفة الحقيقة.
بداهة، ديكارت كان فيلسوفا ماديا.