ابن سودون ظهر في عصر الانحطاط وكان شعره في ظاهره ساذجا ,ولكنه يبطن سخرية من عصره وحياته وربما كان من أوائل من نحا منحى العبث واللاجدوى
ولد علي ابن سودون اليشبغاوي أو البشبغاوي في القاهرة سنة 810 هـ - 868 وصفه الزركلي(1) بأنه «أديب فكه، ولد وتعلم بالقاهرة، ونعته ابن العماد بالإمام العلامة» وقال السخاوي: «شارك مشاركة جيدة في فنون وحج مراراً، وسافر في بعض الغزوات، وأم ببعض المساجد، ولكنه سلك في أكثر شعره طريقة هي غاية في المجون والهزل والخلاعة، فراج أمره فيها جداً».
ابن سودون في دمشق
إن من يؤكد الجانب الساخر في شخص ابن سودون وشعره، أنه حين قدم إلى دمشق عمل في فن «خيال الظل»، ومن المعروف أن السخرية والعبث جزء لا يتجزأ من عمل هؤلاء الفنانين.
ويبدو أن ابن سودون، كان يتعمد الإضحاك في ما يمارسه من فن، سواء كان شعراً أم خيال ظل، ولذلك فإننا نجد أنه في كتابه الذي جمع فيه أشعاره وحكاياته الساخرة ودعاه «نزهة النفوس ومضحك العبوس» استخدم لغة هي بين الفصحى والعامية تارة، وأورد بالعامية بعض نوادره وسخرياته، تارة أخرى، لأنها، في نظره لا يمكن أن تضحك إلا إذا قيلت بالعامية.
قصيدة ابن سودون في زوجته
ولقد كان ابن سودون إنساناً من النوع الذي لا يتردد في السخرية.. حتى من نفسه، وجعلها مناسبة للإضحاك.. وهذا ما فعله مثلاً في القصيدة التي كتبها بعد زواجه، فبعد المقدمة الشعرية التقليدية أو المطلع:
حل السرور بهذا البيت متبدرا
ونجم طالعه بالسعد قد ظهرا
يصل الشاعر إلى بيت القصيد فيقول:
وكنت عند زفافي قد وصلت إلى
حد الأشد وعقلي في الورى اشتهرا
مع ذلك، فإنه، رغم هذا العقل الراجح المشهود له به، يطرح في البيت التالي صورة بالغة السخرية من نفسه.. ولابد أن هذه كانت طريقته في السخرية من زواجه غير الموفق، وربما كانوا في تلك الأيام لا يسمحون للرجل برؤية زوجته إلا ليلة الزفاف:
فكنت أدرك من عقلي وكثرته
أني إذا نمت مع ظهري يكون ورا
هذا وعقل عروسي كان أصغر من
عقلي ولكن حوت في عمرها كبرا
تفاصيل من ليلة الزفاف
ثم لا يلبث ابن سودون أن يقدم بعض التفاصيل مما فوجئ به في زوجته ليلة الزفاف:
في السن قد طعنت ما ضر لو طعنت
بالسن من رمح، والسيف إذ بترا
في لونها نمش، في أذنها طرش
في عينها عمش للجفن قد سترا
في بطنها عوج، في رجلها عرج
في كفها فلج.. ما ضر لو كسرا
يا حسن قامتها العوجا إذا خطرت
يوماً وقد سبسبت في جيدها شعرا
تظل تهتف بي: حسناً حظيت بها
أواه لو حاشها موت، لها قبرا
ولا تفارق الشاعر خفة ظله حتى في المواقف الحزينة المؤسسية، كفقده والدته وها هوذا يقول:
الموت أمي أرى الأحزان تحنيني
فطالما لحستني لحس تحنين
وطالما دلعتني حال تربيتي
خوفاً على خاطري كيلا تبكيني
أقول «نم نم» بالطعام تطعمني
أقول «أمبو» تجي بالماء تسقيني
إن صحت في ليلة «واوا» لأسهرها
تقول «ها ها» بهز كي تنسيني
وربما «شكشكتني» حين أغضبها
وبعد ذا «كشكشتني» كي ترضيني
وإنما تبلغ سخريته ذروتها إذ يقول:
وخلفتني يتيماً، ابن أربعة
وأربعين سنيناً في حسابيني
بديهيات الحياة والطبيعة والكون
من جانب آخر، فإن ابن سودون، اعتمد في أسلوبه، إلى حد كبير، على ذكر بديهيات الحياة والطبيعة والكون، وكان ذلك، في جملة الأدوات التي لجأ إليها للإضحاك والسخرية، وفهمها بعض النقاد على أنها سقم وركاكة وسخف. فهو يقول:
وإني سأبدي بعض ما قد علمته
لتعلم أني من ذوي العقل والحجا
فمن ذاك أن الناس من نسل آدم
ومنهم أبو سودون أيضاً وإن قضى
وإن أبي زوج لأمي وإنني
أنا ابنها، والناس هم يعرفون ذا
وتصل سخريته هذه ذروتها في وصفه الطبيعة:
بها البدر حال الغيم يخفي ضياءه
بها الشمس حال الصحو يبدو لها ضيا
ويسخن فيها الماء في الصيف دائماً
ويبرد فيها الماء.. في زمن الشتا
كأن الشاعر وهو يردد هذه البديهيات ينتظر من يقول له: بالله عليك هل هذا صحيح؟! ثم يكون الضحك.
ابن سودون يصف البقرة
ويتابع ابن سودون طريقته العابثة الماجنة الساخرة، في معظم أشعاره، على النحو ذاته، وها هوذا يصف البقرة:
عجب، عجب، عجب، عجب
بقر تمشي ولها ذنب
ولها في بزبزها لبن
يبدو للناس إذا حلبوا
لا تغضب يوماً إن شتمت
والناس إذا شتموا غضبوا
وينتقل إلى موضوعات أخرى في القصيدة نفسها:
من أعجب ما في مصر يرى
الكرم يرى فيه العنب
والنخل يرى فيه بلح
أيضاً ويرى فيه رطب
ويقلد أصوات الحيوانات
ويقول في قصيدة أخرى:
البحر بحر والنخيل نخيل
والفيل فيل والزراف طويل
والأرض أرض والسماء خلافها
والطير فيما بينهن يجول
وإذا تعاصفت الرياح بروضة
فالأرض تثبت والغصون تميل
ولا يتوانى، في أبيات أخرى عن تقليد أصوات الحيوانات كالبقرة والخروف والإوز، ولا شك أن هذا الجانب يجد تفسيره، في اشتغاله بفن «خيال الظل» الذي يتطلب تقليد أصوات كثيرة.. من قبل شخص واحد(2).
وتوفي ابن سودون في دمشق عام 868 هـ - 1463م عن ست وخمسين سنة.
نموذج من نثره:
( كنت وأنا صغير بليداً لا أصيب فى مقال ولا أفهم ما يقال.. فلما نزل بى المشيب زوجتنى أمى بامرأة كانت أبعد منى ذهناً إلا أنها أكبر منى سناً وما مضت مدة طويلة حتى ولدت.. والتمست منى طعاماً حاراً.. فتناولت الصحفة مكشوفة.. ورجعت الى المنزل آخذ المكبة.. والمكبة هى غطاء الصحفة.. فنسيت الصحفة.. فلما كنت فى السوق تذكرت ذلك فرجعت وأخذت الصحفة ونسيت المكبة.. وصرت كلما أخذت واحدة نسيت الاخرى.. ولم أزل كذلك حتى غربت الشمس فقلت: لا أشترى لها فى هذه الليلة شيئاً وأدعها تموت جوعاً.. ثم رجعت إليها وهى تئن وإذا ولدها يستغيث جوعاً.. فتفكرت كيف أربيه.. وتحيرت فى ذلك.. ثم خطر ببالى أن الحمامة إذا أفرخت وماتت ذهب زوجها والتقط الحب.. ثم يأتى ويقذفه فى فم ابنه وتكون حياته بذلك.. فقلت: لا والله لا أكون أعجز من الحمام، ولا أدع ولدى يذوق كأس الحِمام .. ثم مضيت وأتيته بجوز ولوز فجعلته فى فمى.. ونفخته فى فمه فرادى وأزواجاً.. أفواجاً أفواجاً حتى امتلأ جوفه وصار فمه لا يسع شيئاً وصار الجوز واللوز يتناثران من أِشداقه حتى امتلأ فسررت بذلك وقلت: لعله قد استراح.. ثم نظرت إليه وإذا به هو قد مات.. فحسدته على ذلك وقلت: يا بنى إنه قد انحط سعد امك وسعدك قد ارتفع.. لأنها ماتت جوعاً وأنت مت من الشبع!.. وتركتهما ميتين ومضيت آتيهما بالكفن والحنوط .. ولما رجعت لم أعرف طريق المنزل.. وها أنا فى طلبه الى يومنا هذا…!!!)
(1) الأعلام - خير الدين الزركلي - المجلد 4 - ص 292.
(2) الفكاهة في مصر - د. شوقي ضيف - سلسلة دار الهلال الشهرية العدد 83 - فبراير / شباط 1958 - ص 67 وما بعدها.