آخر الأخبار

صدمة وصمود يؤرخ لمرحلة إميل لحود

كريم بقرادوني الذي لم تأخذه السياسة كلياً من عالم الكتابة بات متخصصاً في كتابة سيرة »العهود« في لبنان، بجوانبها السياسية والشخصية لنجومها والقوى التي لعبت الأدوار الحاسمة في المسيرة والخاتمة »التي غالباً ما كانت مأساوية«.
»السفير« اختارت فصلاً وبعض فصل من الكتاب الجديد الذي تصدره »شركة المطبوعات للتوزيع والنشر« في بيروت... للفائدة والعبرة.

قصة كتاب
خصّني رئيس الجمهورية إميل لحود بلقاء أسبوعي كل يوم جمعة من منتصف العام ١٩٩٩ إلى نهاية ولايته في العام .٢٠٠٧ بداية، كانت الاجتماعات تحصل في نادي الكسليك في جونيه، إلى أن وقعت جريمة اغتيال رفيق الحريري، فانتقلت هذه اللقاءات إلى قصر بعبدا.
بعد ظهر يوم الجمعة كان مرافق الرئيس يتصل بي هاتفياً ليعلمني »أننا في طريقنا إلى المكان المعتاد« من دون أن يسمّيه. فور الاتصال كنت أتوجه إلى نادي الكسليك، فأجد مجموعة من الحرس الجمهوري بالثياب المدنية منتشرين حول المكان بلا سلاح ظاهر، وقد فتش رجالها الغرفة حيث نلتقي للتأكد من سلامتها.
أدخل إلى غرفة مطلة على البحر، وفيها مقعدان متواجهان نجلس عليهما وتفصل بينهما طاولة صغيرة. وفي إحدى الزوايا طاولة مربعة عتيقة ومنسيّة كانت تستخدم للعب البريدج، وعلى الجدار ثلاث لوحات بشعة ومهملة. يعلو في الغرفة صيفاً وشتاء صوت مكيّف مزعج، وتتدلى على الباب ستارة مصفرة جراء الشمس والبحر.
عند وصولي يعرض عليّ المرافق القهوة فأشكره. لا يلحّ لعلمه أني سأرتشفها مع الرئيس. يقف عند باب الغرفة حاملاً جهاز اتصال لاسلكي، وبعد فترة ينظر إليّ ليعلمني بوصول »فخامتو« الذي يأتي على الدوام بسيارة مموّهة. وكثيراً ما كان يفيد من الطريق ليأخذ قيلولة أو ليقرأ التقارير المقدمة إليه.
يقطع المسافة بين مكان وقوف السيارة والغرفة بخطى سريعة ورجال الحماية يلهثون وراءه ليلحقوا به. يدخل عليّ وهو يبتسم كعادته، ينزع نظارته الشمسية ويقبّلني بحرارة، وهي عادته مع معظم من يلتقيهم.
يعتني على الدوام بهندامه الخارجي، ويحبّ الظهور مظهر الأنيق، ويهمه أن يلفت الأنظار، ولا سيما أنظار النساء. خارج الاستقبالات الرسمية، غالباً ما يرتدي في فصل الصيف قميصاً أسود مع بنطلون أسود، وبلا جوربين. أما في الشتاء فيرتدي سترة من الجلد الأسود يخلعها فور دخوله الغرفة كأنه يريد التخلص منها.
أخبرني أنه يرتدي السترة ليظهر في عيون الناس أنه »طبيعي«. وهو لا ينسى حادثة وقعت معه، فيما كان يسبح مرة والأرض مغطاة بالثلج. صودف وجود واحد من رفاق المدرسة كان يلبس معطفاً وحول رقبته خمار من الصوف، فذهل لرؤية لحود في حوض السباحة، فسأله: »يا إميل، هل أُصبت بضربة على رأسك في صغرك؟«. منذ ذلك التاريخ راح يلبس سترة في الشتاء حتى لا يقال عنه إنه »مجنون«.
ما إن نجلس حتى يقدّم لنا طبّاخه فنجانين من القهوة الإيطالية، كبوتشينو، مع القليل من السكر، وكوبين من المياه المعدنية. وكان في بعض الأحيان يبدل القهوة بالبوظة المخففة التي يتناولها بدل طعام الغداء ظهراً، وقد تعوّد ان يفطر على موزة عند الصباح، أما وجبة الطعام الأساسية فهي العشاء.
يبادر في أكثر الأحيان إلى الكلام ليعرب عن رأي او موقف، او ليتحدث عن واقعة او لقاء. في الفترة الأولى كان يتحفظ معي بعض الشيء ولا يدخل في التفاصيل والتسميات. وعندما تأكد له مع مرور الوقت أني لا أنقل أي أمر عن لسانه، وأحافظ على سرية لقاءاتي به، رغم أنها شاعت، أضحى يسمّي الأشخاص بأسمائهم، ويطلعني على الخفايا والأسرار، وما أكثرها في عهده.
يسجل ما يريد أن يتذكره على آلة تسجيل صغيرة لا تفارقه. وإذا سجّل أمراً فهذا يعني أن في نيته أن يلاحقه. يستفيض في شرح القضايا المتعلقة بشخصه ومواقفه، لكنه يحافظ على باطنيته مع الأشخاص الذين يشك في ولائهم له. حياؤه الطبيعي يحول دون النطق بكلام غير مستحب، لكنه يسمح لنفسه مع الأصدقاء بأن يطلق للسانه العنان.
شكّلت هذه اللقاءات الأسبوعية مادة الكتاب الأساسية، وقد حرصت أن أسجل هذه الأحاديث خطياً، وأحياناً بالصوت الحيّ، فأوردت الكثير من الأحداث بلا تعليق، بعيداً عن الكتابة الأيديولوجية او الكتابة العاطفية.
أصعب ما في الكتاب العنوان، وعكفت على التفتيش عن العنوان الأكثر تعبيراً عن عهد إميل لحود إلى ان استضافتني الإعلامية البارعة ماغي فرح في برنامج تلفزيوني واقترحت عليّ مجموعة عناوين حفظت منها »صدمة الحكم«.
راجعت أستاذ الكلمة أنسي الحاج الذي أعانني بثقافته الواسعة على هذا الكتاب، فلاقى العنوان لديه استحساناً، وقال لي: »يجب اعتماد »صدمة حكم« وتحريكه حتى لا تخـتلط قراءته على أحد«.
وما إن شارفت على خاتمة الكتاب حتى تراءى لي أن عهد إميل لحود يختصر بحالتين: حالة الصدمة أو الصدمات التي زلزلت الوطن جراء اغتيال رفيق الحريري وقبله إيلي حبيقة وما استتبعهما من اغتيالات طاولت بيار الجميل وأنطوان غانم، وحالة الصمود التي جسّدها الشعب اللبناني في وجه الصعوبات والمصائب التي توالت عليه على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، إضافة إلى صمود المقاومة الوطنية في وجه الغزوات الإسرائيلية المتكررة التي بلغت أوجها أثناء حرب تموز. صمد الرئيس اللبناني رغم الشدائد حتى آخر دقيقة من ولايته، ففرض العنوان نفسه عليّ: »صدمة وصمود«.
أبرزت في هذا الكتاب مدى التبعات التي تقع على عاتق لحود في العديد من المسائل والمشاكل، ولا سيما في بداية عهده. وأظهرت مدى الإجحاف الذي تعرض له، وبخاصة في السنوات الممددة من ولايته.
عاينت عن كثب صعود إميل لحود وهبوطه في ما يشبه لعبة »الجبال الروسية«. عند انتخابه في أواخر ١٩٩٨ جسّد صورة الرئيس القوي الذي يحمل مشروع تغيير طموحاً، كما جسّد صورة الرئيس المقاوم الذي حمى »حزب الله« وأجبر الجيش الإسرائيلي على الانسحاب من طرف واحد من معظم الأراضي اللبنانية في ربيع .٢٠٠٠ لكن رفيق الحريري هو الذي كسب الانتخابات النيابية بعد أشهر قليلة، وفرض نفسه رئيساً للحكومة. لم يحصد لحود في الانتخابات النيابية ثمار خياره الصائب في التحرير والتغيير.
تميزت المرحلة الثانية من العهد التي امتدت من ٢٠٠١ إلى ٢٠٠٤ بالاستقرار الأمني، وبحال من المساكنة المتوترة بين لحود والحريري انتهت بقرار التمديد للحود ثلاث سنوات إضافية في رئاسة الجمهورية وبموافقة الحريري على مضض. وشهدت هذه الفترة أكبر صدمة عرفتها الولايات المتحدة في تاريخها إثر عملية ١١ أيلول ،٢٠٠١ كما عاش لبنان على وقع تصادم أهل الحكم، في وقت انعقدت القمة العربية على أرضه فأصرّ لحود على حق عودة الفلسطينيين ورفض التوطين، كما فعل مع العديد من الشخصيات التي زارته، وفي مقدمها كولن باول ومحمد خاتمي، فيما كانت واشنطن تمارس الضغوط على سوريا بإصدار قانون لمحاسبتها.
دخل العهد زمن الويلات في مرحلته الثالثة والأخيرة، فتجدّدت الخلافات بين لحود والحريري وبلغت أوجها مع قرار التمديد للحود لثلاث سنوات في رئاسة الجمهورية، ومحاولة اغتيال مروان حمادة، وتشكيل حكومة عمر كرامي، واغتيال رفيق الحريري في ١٤ شباط ،٢٠٠٥ وما تبعه من انسحاب الجيش السوري على نحو سريع ومفاجئ، إضافة إلى حالة العزل التي فرضت على لحود، مروراً بعودة ميشال عون من المنفى وإطلاق سراح سمير جعجع من السجن، انتهاء بمسلسل الاغتيالات والمواجهات. وحده »حزب الله« شكل علامة فارقة في حرب تموز ٢٠٠٦ حين حقق إنجازاً غير متوقع، فصمد مقاتلوه ثلاثة وثلاثين يوما أمام الجيش الاسرائيلي الذي كان حتى الأمس القريب »لا يُقهر«، فذاق اللبنانيون للمرة الأولى نشوة النصر، واستشعر الاسرائيليون للمرة الأولى بعاصفة »حزب الله« تهبّ عليهم.
غادر لحود قصر بعبدا عند انتهاء ولايته الدستورية الممددة، في ٢٣ تشرين الثاني ،٢٠٠٧ من دون ان يتم انتخاب خلف له، ليدشن اللبنانيون مرحلة الفراغ الرئاسي الذي استمر قرابة الستة أشهر، إلى أن انتخب مجلس النواب العماد ميشال سليمان رئيسا توافقيا للجمهورية في ٢٥ أيار ٢٠٠٨ إثر انعقاد »مؤتمر الدوحة« الذي جمع كل القادة اللبنانيين الرئيسيين.
تسلّم لحود رئاسة الجمهورية ولبنان ينوء بثقل الاحتلال الإسرائيلي والوجود العسكري السوري، وبارح سدة الرئاسة وقد انسحب الجيش الإسرائيلي من الأراضي اللبنانية باستثناء مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، كما لم يبق فيه جندي سوري.
على وقع هذه التحولات الكبيرة تألق نجما ميشال عون وأمين عام »حزب الله« حسن نصر الله في عهد إميل لحود، على غرار صعود نجم بشير الجميل في عهد الياس سركيس ([)، ونجمي نبيه بري ووليد جنبلاط في عهد أمين الجميل ([[)، ونجم رفيق الحريري في عهد الياس الهراوي، فلكل عهد نجمه في لبنان.

([) مراجعة كتاب كريم بقرادوني: »السلام المفقود، عهد الياس سركيس«، طبعة جديدة، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، عام .٢٠٠٨
([[) مراجعة كتاب كريم بقرادوني: »لعنة وطن، من حرب لبنان إلى حرب الخليج«، طبعة جديدة، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، عام .٢٠٠٨

القرار الدولي والقوة القاهرة
في العشاء الذي جمع بين بوش وشيراك في حزيران ٢٠٠٤ في قصر الأليزيه، بمناسبة مشاركتهما في إحياء الذكرى الستين للإنزال الاميركي في النورماندي في الحرب العالمية الثانية، قال شيراك لبوش، بلهجة الخبير في خفايا الشرق الأوسط: »إذا قطعنا العلاقة بين سوريا ولبنان، يسقط النظام العلوي في دمشق«. أجابه بوش: »أنت أدرى بهذا الملف، ابدأ به ونحن وراءك«.
إثر هذا العشاء صدر بيان أميركي ـ فرنسي مشترك يعلن رغبة الدولتين في إصدار قرار دولي في شأن لبنان. وشكل هذا البيان شرارة انطلاق القرار الدولي ١٥٥٩ الذي صدر لاحقا، في ٢ أيلول ،٢٠٠٤ والهدف منه إخراج الجيش السوري من لبنان، وتجريد »حزب الله« من سلاحه. كان القرار ١٥٥٩ هو »مرتكز« التفاهم الأميركي ـ الفرنسي في لبنان، كما وصفه الكاتب والصحافي الفرنسي ريشار لابيفيير الذي بات كتابه »التحول الكبير« مرجعا لفهم خلفيات القرار الدولي ١٥٥٩([).
بقدر ما كانت الضغوط الدولية تكبر على سوريا، كانت حظوظ إميل لحود تكبر في التمديد. وقد عبّر الأمين العام لـ»حزب الله« في خطبة له عن هذا الرأي، حين وصف لحود بأنه »الأوثق والأقرب والأقدر«.
وبمناسبة زفاف تيمور جنبلاط، ابن وليد جنبلاط، دعا لحود العروسين والأهل إلى عشاء عائلي في بيت الدين، وتجدر الإشارة الى أن الزعيم الدرزي كان لا يعارض التمديد ولكن بشكل خفي وملتبس. غير أنه وقع خلاف مفاجئ بينه وبين العميد رستم غزالي، فاتصل جميل السيد بلحود ينصحه بإلغاء هذا العشاء خشية أن يستغله جنبلاط ليشن هجوما على سوريا من القصر الجمهوري. قرر لحود العمل بهذه النصيحة، فأجل العشاء فغضب جنبلاط، وشن على لحود حملة قاسية. لكن البطريرك الماروني كان الأعنف فانتقد بدءا تعديل الدستور لإعادة انتخاب »الشخص عينه للمنصب الكبير إلى ما لا نهاية أسوة بما حولنا من الأنظمة المحيطة بنا«.
مساء يوم الجمعة ٢٧ آب ،٢٠٠٤ اتصل الحريري بلحود الذي كان في فقرا، وأعلمه أنه دعا مجلس الوزراء في الغد لاتخاذ قرار التمديد، وشدد على ضرورة حضوره. أبلغه لحود أنه لن يطلب التمديد لنفسه، أجابه الحريري: »أنت افتتح الجلسة وغادر متى شئت«. سأله لحود عن سبب العجلة وإذا كان بالإمكان عقد اجتماع مجلس الوزراء الاثنين بدل السبت، قال الحريري: »أنا مستعجل حتى لا يسبقنا القرار الدولي«.
حضر لحود جزءا من الاجتماع، وكانت علامات الارتياح بادية على وجهه. قال للوزراء، وفق ما جاء في محضر الجلسة: »بداية أشكركم على مجيئكم اليوم، لا سيما أن البعض منكم كان بعيدا في الجبل ووصل على الموعد. أود أن أقول لكم إننا نعي معا ما يحصل إقليميا، ونقدّر حجم الهجمة الكبيرة التي نواجهها، ونتابع ما يجري في العراق وفي فلسطين، ونسمع عن تهديدات اسرائيل لنا ولسوريا. رغم كل ذلك، وبفضل خطنا السياسي، فإننا نعيش بأمان واستقرار لدرجة أن دولا مهمة تحسدنا على ذلك، ورعاياها والمسؤولون فيها يقصدوننا لقضاء العطلة عندنا، مما يعطينا دفعا كبيرا«.
أنهى لحود كلمته المقتضبة: »وددت أن أقول لكم انه يجب الاستمرار في هذه السياسة لنحافظ على الاستقرار الذي ننعم به، وعلى هذا الأساس أردت أن آتي لأشكركم في حال وافقتم على أن أستمر في الحكم«. بعدها سلّم لحود رئاسة الجلسة إلى الحريري الذي قال له وهو يغادر القاعة: »مبروك سلفاً«.
بعد انسحاب لحود ترأس الحريري الجلسة وقال بإيجاز شديد: »تعرفون لماذا نحن اليوم مجتمعون. السبب واضح، والوضع الإقليمي ضاغط، والخط السياسي الذي سار عليه فخامة الرئيس يجب أن يستمر. إن تمديد الولاية ثلاث سنوات لغاية ٢٣/١١/٢٠٠٧ يتطلب وضع مشروع قانون يصدره مجلس الوزراء وفق إجراءات خاصة. اسمحوا لي بأن أطرح عليكم الموضوع بطريقة معكوسة، فأسأل إذا كان لدى أحد منكم أي اعتراض أو تحفظ فليتفضل ويقله، وإذا لم يكن لأحد أي تحفظ فخير البرّ عاجله«.
طلب مروان حمادة الكلام فقال: »مع تقديرنا الكامل للاعتبارات وللخط الذي نحن من مؤسسيه وقد قدّمنا الدم في الدفاع عنه ونحن مستمرون فيه، وصوناً منا للتلازم بين الأصول الديموقراطية في لبنان وثبات العلاقة الاستراتيجية مع سوريا، ودفاعا عن المقاومة وخط الصمود في وجه إسرائيل وفخامة الرئيس لحود من أبرز وجوهه، وحماية لسوريا ولبنان، لا بد من احترام مبدأ تداول السلطة على كل المستويات. ومع تقديرنا الكامل لفخامة الرئيس، أود إبلاغ مجلس الوزراء باسم »اللقاء الديموقراطي« الذي يترأسه وليد جنبلاط معارضتنا لمشروع القانون«.
لم يفاجأ الحريري وكأنه كان على علم بكلام حمادة فسأل: »هل من أحد آخر يريد أن يتكلم؟«، طلب غازي العريضي الكلام فأعلن: »إضافة إلى ما قاله مروان (حمادة) فإنني باسم وليد جنبلاط والحزب التقدمي الاشتراكي أسجل ايضا اعتراضنا«. بدوره سجل الوزير عبد الله فرحات اعتراضه من دون تعليق.
سأل الحريري مجددا: »هل من اعتراضات أخرى؟«. لم يعترض أحد. عندها وصل فؤاد السنيورة فقال له الحريري ممازحا: »مبروك... أنت تصل آخر شخص، وتقبض أول شخص، وتدفع آخر شخص...«.
بعد ممازحة الحريري للسنيورة انفرج جو الاجتماع، فطلب الياس المر الكلام، وتوجه إلى الحريري بلهجة فيها الكثير من التودد، فقال: »نعتز برحابة صدرك واستيعابك الدائم للأمور. إن مواقفك الوطنية والقومية يشهد لها التاريخ ولم نشك بها لحظة. فباسمي وباسم الخط السياسي الذي ننتمي إليه جميعا في هذه الحكومة، نشكرك، يا دولة الرئيس، على موقفك«. لم يجب الحريري على مديح المر له، ورفع الجلسة التي لم تستغرق إلا نصف ساعة، وهي أقصر جلسة عرفتها هذه الحكومة، وقد ذكرتني بجلسة التمديد لالياس الهراوي.
بالتزامن مع انعقاد مجلس النواب للموافقة على التمديد، أصرت واشنطن وباريس في ٢ أيلول ٢٠٠٤ على إصدار القرار ١٥٥٩ الذي أكد سيادة لبنان واستقلاله السياسي وبسط سلطة حكومته وحدها دون منازع على جميع أراضيه، وطالب جميع القوات الأجنبية الباقية بالانسحاب من لبنان، كما دعا الى حل جميع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية ونزع سلاحها، وأعلن تأييده لانتخابات رئاسية »حرة ونزيهة«، و»من غير تدخل أو نفوذ أجنبي« وفقا لقواعد الدستور اللبناني.
أوفدت واشنطن مساعد وزير الخارجية وليام برنز الى دمشق لإبلاغها رسالة قوية وحاسمة بأن »اللعبة انتهت«، ولا مفر لسوريا من أن تبدل سياستها في لبنان، وأن تتوقف عن التدخل في شؤونه الداخلية، وأن تسحب جيشها منه، وتنهي دعمها لـ »حزب الله«.
تصدّر الموضوع اللبناني مناقشات اجتماع وزراء الخارجية العرب المنعقد في منتصف أيلول. طلب فاروق الشرع موقفا عربيا رافضا للقرار ،١٥٥٩ فردّ عليه وزير الخارجية الأردني مروان المعشر بوجوب التزام سوريا قرار الشرعية الدولية، سأله الشرع: »أين قرارات الشرعية الدولية ٢٤٢ و٣٣٨؟«. احتدم النقاش وتدخلت مصر والكويت ودول الخليج داعمة الموقف الأردني، وأفضت التسوية إلى تجاهل قرار مجلس الأمن .١٥٥٩ فسّرت الأوساط الدبلوماسية أن عدم إدانة وزراء الخارجية العرب القرار الدولي يعني ضمنا الموافقة عليه.
وصل الرئيس المصري حسني مبارك بصورة مفاجئة وعاجلة الى دمشق في أول زيارة له الى الخارج بعد الجراحة التي خضع لها. نبّه مبارك الأسد إلى خطورة الوضع الإقليمي والدولي، وإلى ما يحيط سوريا من أخطار جراء القرار .١٥٥٩ كانت نصيحته أن تتعامل دمشق بإيجابية مع القرار ١٥٥٩ نظرا إلى »إصرار واشنطن وباريس على تنفيذه«، وألا تستخف به أو تعارضه. »لتتفادى الوصول إلى قرار ملزم« لافتا إلى أن القرار ١٥٥٩ »ليس ملزما ولا يذكر سوريا بالاسم ولم ينص على عقوبات«.
لم تعمل سوريا بالنصيحة المصرية، ولم تنظر إلى المطالب الأميركية التي نقلها على التوالي باول وبيرنز على أساس انها »رزمة واحدة لا تقبل المساومة«.
كانت دمشق عاتبة على فرنسا »الصديقة« أكثر من عتبها على الولايات المتحدة. بدورها كانت باريس عاتبة على دمشق التي »لم تُصغِ إليها في أي شيء يتعلق بلبنان«، ولم تستجب للنصائح والرسائل المتعددة الموجهة إليها. أما اسرائيل فكانت تدفع واشنطن الى المزيد من الضغط على سوريا، لكنها كانت ترى أن الأسد »شخص جدي« يتقن المناورة، وهو »قادر« على تحمل الضغوط، ويسير »بين النقاط«.
غير بعيد عن هذه الصورة، أعلن سفير سوريا في واشنطن عماد مصطفى عن إعادة انتشار جديدة وواسعة للقوات السورية باتجاه منطقة البقاع، وهي الرابعة من نوعها، بعدما أخلت آخر النقاط العسكرية الباقية لها في جبل لبنان وسلّمتها إلى الجيش اللبناني.
لخص مساعد وزير الخارجية الأميركي للشرق الأوسط مارتن أنديك موقف دمشق بعد لقائه الرئيس السوري فقال إن الأسد يضع في سلّم أولوياته تحسين علاقته بالولايات المتحدة، وعقد صفقة متكاملة معها تُبقي سيطرته على لبنان وتعيد إليه الجولان، مقابل اتفاق سلام مع اسرائيل ووقف الدعم السوري للمنظمات الفلسطينية.
لم يخفِ أنديك أن الجهود التي قام بها الرئيس الفرنسي جاك شيراك لإصدار القرار ١٥٥٩ تمت بناء على طلب من »صديقه« الحريري، وأضاف: »التقيت الرئيس الحريري الذي ذكر لي أنه تعرّض لضغوط، وسيستقيل من رئاسة الحكومة، ولا يعرف ما يمكن تحقيقه في هذه الظروف بعد تجربة المساكنة الفاشلة مع الرئيس لحود...«.
([) Richard LABEVIERE, le Grand Retournement, Bagdad ? Beyrouth, Seuil, octobre 2006