ها أنا ذي وراء القضبان أجرع ساعات الوحدة المريرة و ينسكب سواد السجـن و روائحه العطنة في داخلي كسيل من النار لا يتوقف...
لا أنكر أنني استشعر في داخلي انتصارا و تحرّرا لم أشعر بهما قطّ بل و فرحا شيطانيا يخدر أعصابي و يحملني إلى أعلى سماء و لكني في ذات الوقت لم أفعل سوى أنني تنازلت عن حريتي من حيث أردت استردادها، هي حرية أردت استرجاعها من الماضي فإذا بي أضحّي بحريتي الممكنة...
قد تتساءلون: ما الذي أتى بي إلى هذا المكان و قد كنت قبل دخوله أبعد ما يكون عن ذلك بل لا يمكن لأي شخص يراني أن يمرّ بخاطره أن هذه العوالم قد خلقت لمثلي و مع ذلك فأنا هنا...
عشت حياة عادية ككل الفتيات... ذهبت إلى المدرسة ثم إلى المعهد ثم إلى الجامعة و في كل مرّة كنت أخرج و أنا أحمل شهادة بين يدي و قلبا خافقا بين ضلوعي يطمح للمزيد...
و كان هو في حياتي...
تعارفنا في المرحلة الجامعية، في إحدى كليات الفنون المسرحية، أحببنا بعضنا لحدّ الجنون و عندما حصل كل واحد منا على شهادته كان من الطبيعي أن ندخل ميدان العمل و نفكر في بناء بيت صغير يجمعنا و لكن شيئا من هذا لم يحدث فقد اختار هو السفر إلى الخارج لإتمام دراسته و حيازة شهادة الدكتوراه في مجاله... رفضت، تألّمت، بكيت لكنه اختار الشهرة على الحب، اختار الغربة على الأهل، اختار نفسه على الكل.
التحقت أنا بإحدى فرق التمثيل و عملت فيها مدة طويلة لم تقلّ عن خمس عشرة سنة، انتظرته و لم يأت. كنت أنا أيضا أكبر و أشتهر و صار المخرجون يتسابقون لإشراكي في أعمالهم الفنية. عملت هنا و هناك، نلت الكثير من الجوائز
و صارت صوري تملأ الجرائد و أغلفة المجلات و في يوم من الأيام رنّ جرس الهاتف... كان هذا أحد المخرجين الذين تعاملت معهم سابقا و كان يدعوني لشرب القهوة معه و يعرض علي المشاركة فـي مسرحيتــه القادمة و التي يعتبرها "ضربة الموسم" و "المسرحية - الحدث".
حدّدنا موعدا ثم و ضعت السماعة و انصرفت إلى بعض شؤوني. جاء الموعد المحدّد فالتقينا و تبادلنا التحية ثم اخترنا مكانا جلسنا فيه نتحدث... سألني عن أعمالي الأخيرة و ما أنوي فعله في المستقبل و سألته بدوري عن مسرحيته الأخيرة التي شاهدتها و أبديت له رأيي فيها... أحضر النادل قهوة و عصيرا، اخترت العصير و شرب مرافقي القهوة.
سألته عن عنوان المسرحية فقال إنه لم يختر لها عنوانا مناسبا بعد و لكن النص جاهز و ما علي إلا الإطلاع عليه و إبداء رأيي فيه. قلبت صفحاته فشدّتني بعض العبارات و وعدته بدراسة الموضوع بجدية و تقديم رأيي بعد ثلاثة أيام.
عدت إلى المنزل، أعددت قهوتي و أسدلت الستائر حتى صارت الغرفة نصف معتمة ثم أخذت أقرأ نص السيناريو...
استغرقني النص و لم أدر بنفسي و أنا أشعل السيجارة من الأخرى و أغوص في تركيبة الشخصيات و علاقاتها المعقدة. شعرت للحظة أن تلك الحكاية حكايتـي و إن تبدل الإطار و الزمان و الإنسان. كان السيناريو يحكي قصة زوجين ارتبطا عن حب و اتفاق في الميولات و الأفكار... كان كلاهما يعمـل و لكن لكل مجاله... لم يكن لهما أطفال رغم عشرتهما الطويـلة، كـانا يستمتعان بوقتهـما و عمرهما كأفضل ما يكون و لا يفوّتان على بعضهما أية فرصة في أن يكونا معا خارج دوامة العمل و الهموم المنزلية. و ذات يوم كان في غرفة مكتبه يراجع بعض الأوراق حين رنّ جرس الباب، خرج ليفتح فوجد رجلا أخذ يتحادث معه على الدرج... كانت هي في تلك الآونة قـد أحضــرت له بعض العصيـر و المرطبات دخلت إلى مكتبه و فجأة وقعت عيناها على ذلك الدّرج المغلق منذ عشرين سنة و الذي لا تعرف حتى شكل مفتــاحه... كان مفتوحا و هذا ما ألهب فضولها لمعرفة محتواه فقد كانت دائما تتساءل في سرّها عما يمكن أن يكون بداخله...
مدّت يدا مرتجفة تحاول أن تعرف ما فيه. لم يكن فيه سوى أوراق و بعض الصور: "يا الهي من في الصورة، انه هو لا ريب و لكن من هذه المرأة التي تقف بجانبه في إحدى الصور و تعانقه في الأخرى و تنام على ركبتيه في غيرها؟
و من هذا الطفل؟ لا لم يعد طفلا، انه شاب يافع في هذه الصورة، يا إلاهي، من هؤلاء؟ و متى كان ذلك، أقبل أن يتزوج بي أم بعد ذلك"؟
و لعبت برأسها الظنون و أنكرت في داخلها، لا، لا، ربما كانت تلك أخته فقد حدّثها عن أخت له تعيش ببلد أجنبي و عن أخيه الوحيد الـذي كـان يكبره سنا و يشبهه تماما و قد مات... من هذه المرأة، و من هذا الطفل؟ سقطت في صدرها حفنة من الجمر زادت نيرانها لهبا.... أعادت الصور بذات اليد المرتجفة و لكن وجهها صار فاحما بلون القطران الذي تجمع في حلقها و هي تكابد الهزيمة بعد عشرين سنة من الغباء... دلفت إلى غرفة الحمام تبترد و لكن شيئا من ألمها لم يخفّ. إنها زوجته، لقد تزوّج بعد إن يئس من إمكانية إنجاب الأطفال معها و هو ككلّ رجل يتمنى أن يكون له طفل بل أطفال كثيرون. عاد إلى المكتب، وجد العصير و المرطبات فتناولها و تابع عمله أما هي فقد باتت ليلتها على الجمر تفكّر و تفكّر حتى شعرت أنّ لفيفا مـن أعصابها سيحتـرق و لكنها حزمت أمرها أخيرا و في الصباح الباكر ذهبت إلى بائع السلاح الوحيد في المدينة فوجدت دكانه مغلقا، طرقت باب منزله الملاصق للدّكان ففتح لها ثم طلبت منه ما جاءت لأجله، رفض لأنها لا تملك رخصــة و لكنها أغرته بالمال، بكل ما لديها و كان كثيرا فوافق.
وضعت المسدّس في حقيبتها بحرص شديد و كأنّه رضيع تخاف عليه البرد أو عيون الناس ثم عادت إلى المنزل و دسّته داخل ثيابها و عندما حان الموعد لبست أحلى الثياب و بقيت في انتظار زوجها... تناولا العشاء معا ثم بقيا في غرفة الجلوس يشاهدان أحد الأفلام و لكن لم يمض وقت قصير حتى تواصلت في نشيج مرير و هي تقول :" لقد عشنا عشرين سنة من الهناء و الفرح و لم يكن يبدو عليك أيّ اشتياق إلى الأطفال، كنت أسعى إلى تلبية كل رغباتك حتى لا تستشعر قصورا أو إهمالا مني و لكن و بعد عشرين سنة من الزواج أجد صورة تقدم الدليل الصارخ على إدانتك
و عدم اعترافك بالجميل، كيف تخونني و أنا التي أعطيتك عمري و شبابي؟ كيف تخونني و أنا التي كنت أظن انك تكتفي بي عن العالم كله؟ " بقي فاغر الفاه لحظات ثم صرخ: "أنت، ظالمة، أنا لم أخنك، إنها ليست صورتي".
أخذها ضحك هستيري: "ليست صورتك؟ ليست صورتك؟"
كانت تدور كالمجنون في بهو الغرفة ثم استلّت المسدّس و أخذت تضغط على الزناد و الطلقات تنخر الجسد المسكين
و هو يصيح دون انقطاع:"ليست صورتي".
كان مصير البطلة السجن و لكن عقلها لم يستطع أن يمسح من ذاكرته تلك الكلمات الأخيرة تتردد كصفارة الإنذار: ليست صورتي.
لم أستطع أن أتمّ قراءة النص فقد كانت أبخرة السجائر تخترق رأسي كالسيوف و لكني رفعت السماعة على الفور و اتصلت بالمخرج اخبره بموافقتي على أداء المسرحية... كان المخرج مستغربا من سرعة استجابتي و من سرعة قراءتي للنص و لكنه كان سعيدا بحماسي و حدّد الموعد للغد للبداية بالتمارين.
كانت تلك المرأة أنا بأحلامها وأوهامها وانخداعها بالسراب سنوات طويلة ولم تكن المرأة التي في الصورة سوى الشهرة التي سعى إليها وكل ما لم يجده فيّ فأخذ يبحث عنه في مكان آخر .
أخذت حماما باردا لكي أطفئ نار المحرك الذي كان يصدر هديرا لا يحتمل داخل رأسي ونمت حتى الساعة التاسعة صباحا.
أفقت من النوم وأنا أعد نفسي بثأر عظيم لا على المستوى الواقعي طبعا بل على مستوى الأفكار والإبداع بل إني كنت أرى في هذا العمل عملية علاجية عليّ أن لا استهين بها.
وصلت إلى مقر الفرقة فاستقبلني المخرج بحرارة وقدّم لي بنفس الحرارة شخصا يقول إنّه درس حوالي عشر سنوات بأمريكا كما اشتغل حوالي خمس سنوات بالمسارح الفرنسية...
رفعت يدي أحيّي هذا الشخص الذي سيشاركني البطولة. لم أعرفه إلا حين نطق المخرج باسمه.........انه هو. يا إلاهي إنه هو... شعرت بالدّوار وأنا أرى الفكرة التي خامرتني إلى درجة الاقتناع تلبس ثوب الواقع والحياة وتكتمل أشدّ ما يكون الاكتمال.
كان حديثنا طيلة شهور التمرين لا يخرج عن إطار العمل وكانت هذه عادته فهو لا يحبّ أن يخلط العمل بالعلاقات الإنسانية... لبست الشخصية ولبستني حتى صرت أعيد مقاطع من كلامها في منامي وأصحو وأنا اردّدها... وفي اليوم المحدّد لتقديم المسرحية فعلت ما فعلته البطلة ودخلت إلى المسرح ومسدّسي في حقيبتي...قمنا بعمليات الماكياج والتركيز ثم قدّم لي المخرج مسدّسا خراطيشه مزيفة هدفها إحداث الطرقعة لا غير...أخذت المسدس ثم رفع الستار...
قُدّمت المشاهد بإتقان كبير وحين وصلنا للحظة الحاسمة لم أشعر بنفسي إلّا وأنا في دوّامة الضحك الهستيري أشهر في وجهه المسدّس "الحقيقي "والطلقات تخترق جسمه واحدة تلو أخرى وهو يصرخ "أنا أحبك، أنا أحبك ".
أغمي عليّ عندها وارتجفت في داخلي الكلمات التي كنت أتمنى أن أقولها له حين رأيته أوّل مرة ولكن وقع كلماته الأخيرة كان كضرب المطارق في رأسي وجسدي...
ما ذنبي أنا إذا كانت الصدفة قد حملته هو بالذات ليكون البطل؟ ما ذنبي أنا إذا كان هو المراد بالثأر فربّما أرسله قدره ليدفع في لحظة ما دفعته أنا في خمس عشرة سنة و ما سأواصل دفعه وراء القضبان.
ارتكز دفاع المحامي على فرضية حبّ الممثلة العظيم لفنّها و التقمص الشّديد لأدوارها مما أدّى بها إلى التماهي مع شخصية البطلة و دفعها إلي اقتراف الجريمة كما أكّد على فرضية الإعجاب الشديد بالشخصية و ملامحها و تعقداتها إلى حدّ التعاطف معها... أشار المحامي إلي فرضية الحب المخدوع و الفراق الذي دام سنين طويلة و هو ما اعتبرته موكّلته استهزاء من القتيل بمشاعرها وأحلامها... ثرثر المحامي كثيرا و طويلا و لكن كلمات القتيل الأخيرة كانت تبرّئه و تلقي بالمسؤولية كاملة على عاتق القاتلة، و هكذا حكم عليّ بالسجن مدة خمسة عشرة سنة أخرى....
في هذه اللحظة أطلقت نفس الضحكة الهستيرية لكنها كانت ضحكة تخنقها العبرات... خمسة عشر سنة أخرى من العذاب ! كانت السنوات الماضية طويلة جدّا ولكن عندما رأيته شعرت أنها لم تكن بالطول الذي تخيّلته ولكن خمسة عشر سنة أخرى من السجن دون انتظار دون أمل......كم سيكون مقدارها ولا أحد ينتظرني في الخارج، لا معجبون ولا مخرجون ولا حتى حبيب خادع !
خسرت الآتي ولكني قتلته قتلته وليتني أستطيع أن أقتل كلماته الأخيرة حتى يكفّ ضرب المطارق على جمجمتي حتى يكفّ هذا الصمت الجهوري الصوت داخل هذه الغرفة المعتمة عن صمّ أذنيّ بأصدائه الهائلة... إنه يعيش معي داخل سجني.. داخل وحدتي ليثبت لي أنني كنت أعيش بجسد ميت فصرت أعيش بروح ميتة..