للأغنية مساحة زمنية تنتهي عندها، لكن في أستوديو «نوتة» حيث يتمرّن زياد رحباني مع العازفين والمغنيتين على سلسلة حفلات تبدأ اليوم، لا يحد الأغنية زمنٌ. فتبدأ «ما تفل» بنسختها المسجّلة المعروفة، يهتز المستمع تبعاً لإيقاعها، قبل أن تباغته الفرقة الحية بالتقاط اللحن من نوتة، والانطلاق في توزيع جديد، فيلتحق الجسم والأذن به استناداً إلى المألوف وإلى رغبة عارمة بامتلاك الجديد. كأنك في مصنعٍ عمّاله يمتهنون هوايتهم.
تسرح عينا لوريت وهي تغني، في فحوى الأغنية. تركّز نيكول وهي تغني، على زياد، صانع الأغنية. صوتان يأتيان من مكان أليف جداً في الأذن، صوتان كآلتين موسيقيتين ثابتتين في فرقة زياد، محفوظان. كأنهما نقطة التقاء الحكي بالغناء، أي أنهما «أداء».
شاب يوزع أوراق النوتة على العازفين، يقرأها عازف أجنبي ولا يقرأها آخر لبناني مثلاً، كونه يحفظها. فيلقي بنكتة من هنا، تتلقفه نكتة من هناك، وينتهي كل حديث عندما تبدأ الموسيقى، وهي تبدأ فجأة. لكن «فجأة» هذه تجوز فقط على الضيف ، لا على الموسيقيين. فيمسك آفو بساكسوفونه، وتبعاً لمضمون اللحن، إما ينحني فوقه، أو يواجهه، ولكل لحن مقام. يعزف سحراً، ويقول كلما أنهى سحره: «لازم أعمل غلطة!». أين الغلطة؟ لا تسأل، فأنت ضيف وأذنك تتفرج منبهرة، أذنك تحتاج إلى قرار كي تنصت، أذنك لا تنصت بديهياً ودائماً، كعازف.
«أنا ولا مرة قلت وليه / ما تجرّب تكسفني وله!»، إنها «جينجيليه» من شريط «مونودوز». تبتسم وجوه العازفين للقفلة، ويبتسم معها وجه الضيف.. مع أنها ليست المرة الأولى التي يترك الكلام صداه في النفس، لكنها بالتأكيد مرة أخرى.
في الغرفة المتاخمة للاستوديو، حيث الكلام وليس الموسيقى، تحضر صورة حمراء لكارل ماركس تشكل ملصق عيد العمال في العام 1996، يدعو «حزب العمل البلجيكي» للاحتفال به، تحت شعار «تحيا الاشتراكية». صورة غير مفاجئة في محيط زياد، كصورة صوفيا لورين، أو صورة مادونا اللبنانية، أو أسطوانة فيروز «كيفك إنت» في إطار الأكثر مبيعاً.
10 حفلات يستعد لها زياد والفرقتان «غران بري» و«راي باند» حالياً، تبدأ اليوم وتنتهي في 16 الجاري، هي محور اللقاء به.. لكن اللقاء به، جينياً، لا يمكن أن يقف عند محور واحد، مهما كانت مدته سريعة. فلنبدأ من حفلات الفرقتين، ومن ثم نتجه إلى أماكن أخرى، كالكتابة في السياسة، مثلاً.
يقول زياد إن فرقة «غران بري» تحمل اسمها «مسخرة على حالنا، منذ كنا نجهّز حفلات سابقة في «كلوب سوسيال». إنو نحن شي مهم يا با». فرقة «غران بري» تعزف وتغني «فترة «البيبوب»، يعني شارلي باركر وتيلونيوس مونك، بيسموها «كلاسيك جاز»، ولاتيني. أضف إليها أغانينا اللي بيركبوا معها».
أما «راي باند» فقصة اسمها أطول بقليل. تبدأ من رجل اسمه سامي شبشب، كان يمتلك استديو «نوتة» الحالي. خطف مسلحون في منطقة رأس بيروت فتيين مسيحيين في حوالى العام 1986، وطلبوا فدية، وكان جار سامي أحد المخطوفين. خاف والده عليه، فرحل سامي إلى أميركا. يخبر زياد أن المسلحين حينها، أبلغوا والد المخطوف عبر الهاتف، بأن تهمته الانتماء إلى «القوات اللبنانية»، وفاوضوه على قيمة الفدية: «ولشو الفدية يعني؟ إنو إذا ردّوه، بيبطل «قوات» الصبي؟ بيظبط يعني؟ مخلوطة، عصابات على سياسة». عاد سامي مرة إلى بيروت ليتفقد أباه، فمازحه زياد حول اسمه وكيفية لفظه في أميركا: «عارفين هني إنو إنت شبشب؟ سامي طيب، بس شبشب! أنا بحس ع شكلك، إسمك «راي» لأنك بتلبس عوينات. فقال لي: أنا بحس إسمك «جو» لأنك عامل حالك شي جغل مهضوم. وسحبنا فيها، وصارت المراسلات بيننا «راي» و«جو». وهو اكتشف إنو في راي براون، موسيقي فظيع، فاقتنع براي». من هنا أتت تسمية «راي» للفرقة. وعن هويتها الموسيقية التي تبرر هذا الاسم: «أنا مأثر كتير بموسيقى السبعينيات والثمانينيات، بالـ «فانك» الذي أنتجه سود أميركا. في حفلة الأونيسكو، أضفنا التمثيل على العرض. وقلنا منجمع كام اغنية «فانك» و«ديسكو» بالفصل التاني، ومنفوت فيهن بتياب الفترة اللي طلعت فيها هيدي الموسيقى. وبتصير طبيعية على المسرح، لما تشوفيهن بـ«ولعت كتير» عم يلبّدوا. «ولعت كتير» جاية جوها على تينا تيرنر». وبما أن «تنكّر» أعضاء الفرقة تطلب نظــارات «راي بان» التي تمـــيّز تلك المرحـــلة، واستذكاراً لقصة راي، كان الاسم: «راي باند».
«قررت أعمل الحفلات لأؤمن إقامة عازف الدرامز الهولندي آرنولد نيوينهايزيه هنا. يوميته 300 يورو لو اشتغل أو ما اشتغل، بدنا ياه هون ليخلص «سي دي» فيروز. «سي دي» فيروز صار جاهز، بس بطّل بدهن المنتجين ينزلوه قبل عيد الفطر». في ألبوم فيروز هذا، حوالى 12 أغنية صنعها زياد.
لكن، لماذا يعاني موسيقي بحجم زياد، وبجماهيريته، من مشاكل مادية؟ تبدأ القصة من الاستديو. يقول زياد إنه ركّب استديو «نوتة» في مبنى أطباء الجامعة الأميركية بيديه، بعدما انتقلت ملكيته من شبشب إلى ثلاثة شركاء هم: فيروز، وزياد بالآلات والجهد، و«شخص حط معنا مبلغ». تم تجهيز هذا الأستوديو في العام 1992، وبدلاً من أن يقصده الراغبون بالتسجيل بحيث يؤمنون مدخوله، «راحت تنتشر الأستوديوهات الأصغر والأرخص. ثم أضحت هذه الأستوديوهات نفسها أغلى، وأكثر. هاي معادلة نادرة. هلق، كل الأستوديوهات أغلى منا: بيجيب كومبيوتر «بروتول» و«هارد ديسك» وشوية كهرباء، بعشرين ألف دولار، وبيعمل استوديو. نحن سعر البيانو عنا المستعمل، 39 ألف دولار! هلق، أي صوت بيطلع معهن؟ في «ديستورشن»، بتسمعه بدَيْني، وقديش مكبوس الصوت، مش مهم! هيدا الشي بلّش مظبوط مع «روتانا». لأنو بسعر أغنية أو اتنين، صار في الموزع يشتري المعدّات! وهالمعدات ما بيعملوا استوديو بالعالم، هول بيعملوا استوديو بالبيت لتجهيز «ماكيت» يروحوا فيها على الأستوديو. هون، بيعتبروها نهائية. متل، ضوّت عندك؟ إيه، ضوّت، وخلص». وأعماله، كهذه الحفلات، ألا تجلب له ما يحتاجه من تمويل ليعيش وينتج؟
«القصص اللي عم نعملها ما بتبيع. لما طلبنا أربع عازفين معنا، استكتروهن. بستحي قول قديش بيطلع لنا من الحفلات. أنا بتمنى إخد أكتر من هيك، لأنو فيني عيش من الدق، وفكّر ما لحّن لحدا بالمرة، واترك مسؤولية الاستديو كمان. من وقت ما صرت مساهم بهالملكية، تغيرت كل حياتي، وعلى بشع. هول الحفلات هدفهم كمان إنتاج موسيقى لإلي. عامل «سي دي» واحد لهلق، وعملناه «تروك» بين موسيقيين بالحرب، اسمه «هدوء نسبي». في «سي دي» غيره هو تبع سلمى، اسمه «مونودوز»، أنتجه واحد بيديّني من دون فايدة ومن دون زمن، اسمه سامي خوري. هو ما بيطيق نقول اسمه، بس بدي قوله، لأنو بحفلات الأونيسكو كان «السبونسور» الوحيد، وبصعوبة! شريكه الكويتي قال «زياد رحباني لأ». ليه؟ لأنو بكتب بالسياسة».
وكحل، يحاول أن يجد صيغة عزف ثابت في مكان ما، «حتى يتفرّغ الواحد للموضوع السياسي. كان لازم الواحد بأول الحرب ياخد قرار، متل اللي فلوا مثلاً، مع صعوبة إنو واحد عربي يشتغل موسيقى شرقية غير هزّ خصر وغير هيدي الموسيقى تبع الأرواح.. على اعتبار إنو الشرق هيك. هيدي موسيقى الأرواح بتنتج لها شركة اسمها «آي سي أم» بألمانيا. الاستشراق متل ما حاكي عنه إدوار سعيد، كل واحد بيضهر من هون بيواجهه. متل ما في بالكارت بوستال صحاري وجمال، في بالموسيقى هالعوالم. هو تعميم للنوتة الواحدة عن الشرق، يعني نحن تبع «وحّدوه»، الزنّة، بصفتها الموسيقى الشرقية، أو هز الخصر».
لكنه لم يرحل مع بداية الحرب، وبقي هنا، معنا. وها هو اليوم يقول ان كتاباته في السياسة تصعّب عليه عملية الفوز بإنتاج، أكثر فأكثر. وقد تؤثر أيضاً على حجم جمهوره، أو نوعيته المستجدة، كأن يتوزع «مؤيدوه» بين الثامن والرابع عشر من آذار، وتنقسم في آذانهم الموسيقى.
يقول إنه، رغم توقعه لهذه المشكلة على مستوى الجمهور، فقد اتضح من الضغط على البطاقات وتوزعه على مناطق مراكز البيع، أن هذه الفرضية ساقطة: «كان الجمهور مخلوط كتير». ويكمل شارحاً عن إصراره على الكتابة في السياسة: «أكتب بالسياسة لأنو بحس هيدا شغلي. بيعيش الواحد بمرحلة بيحس إنو ما في يقعد على جنب. من بعد 7 أيار، مر 8 أشهر مش كاتب شي. لأنو الواحد حسّ إنو يا إما بده يكتب مظبوط، أو أفضل إنو يسكت. كان «حزب الله» عم يشتغلوا بذكاء قدر الإمكان، وقعوا وقعة بسبعة أيار، واستعملوا سلاحهم. فكان لازم ينكتب إنو هيدي غلطة، وكان لازم يعترفوا إنو هيدي غلــطة، غلطة بالــسياسة. كتابة هيدا الشي كانت صعبة شوي بأي جريدة. فطلع إنو أحسن ما يكتب الواحد».
واليوم؟ «أنا بالسياسة مع الماركسيين الفعليين في العالم، اللي ثبت إنو معن حق بكتير أشيا. شوفي الإصلاحات اللي عم ينجبروا يعملوها بالعالم، بيقولوا كلها لازم تمر بمشروع الدولة المركزية، هيدا حكي عكس العولمة. العولمة هي مشاع بس مملوك (هيدي كتبتها بـ«السفير» سنة 1998)، العولمة هي نفس الشي اللي بيطمحوله الشيوعيين، أي إلغاء الحدود وإلغاء الدولة، لكنها مملوكة من قلة، بدل ما تكون مملوكة من الكل. مقلوبة. عم تكبر الملكية ويقلوا الملاكين. أكلوا بعضن التجار، الشركة الاكبر عم تاكل الأزغر، وهيدي ذروة الرأسمالية. هاي أزمة مستمرة بالرأسمالية. بدن كام إنسان يستفردوا بالكون، وفي ناس من داخل هذه الطبقة مش رح يقبلوا بالوضع. بشكل عام، هيدا الاتجاه اللي الواحد بدو يكتب فيه، مش إنو نبيه بري شو قال لوليد جنبلاط».
لماذا لا يصـنع موسيقى في هــــذا الاتجاه، مثلما صنعها وبقيت لتخبر عن أحواله وأحوال الناس في زمـن الحروب اللبنانية؟
«إذا طلعت أغنية بهذا الاتـــجاه، بيعملها الواحد. في كام أغنية، بس بدك صوت يقولن. هيدي مشكلة. هلق ممكن نحلّها متل ما عم نعمل على المسرح، إنــو كذا شخص يقولها. توجد أغاني بتشبه «أنا مش كافر». هــــلق، في واحدة بحب أدائها كتير اسمها ريم البنا، ما بعــــرف إذا ممكن تغني هيدا الشي. بس ما لاقي رجال يغنوا هيك شي.. مع أداء؟ لأ ما عم لاقي!».
(سحر مندور-السفير)