تخيلوا لو أن المرء يمدح آخر لأنه يمشي بثيابه أمام الناس، وأننا نمدح أحد الزوجين لعدم خيانته الزوجية، و شخصاً لأنه غير فاسد ولا يسرق، أو أننا نمدح نادل المطعم أو موظف البنك أو المطار لقيامهم بوظائفهم. كلها أمور لا توجب المدح باعتبارها التصرف الطبيعي وفقاً للمعايير المتعارف والمتفق عليها.
هذا السخي في الإطراء والمديح تفتّق عن انقلاب الكثير من السلوك والمنطوق، تماماً مثلما تمتدح الصحافة، مثلاً، مذيعاً لرفعه الفاعل ونصبه المفعول، وما ذلك إلا أساس من هذه المهنة ولا يحمل بطولات خارقة. لكن القحط في ما هو طبيعي صيّر الطبيعي من ضروب المعجزات يلازمها التهليل والتصفيق. لذلك تصبح لنقطة الماء قيمة للتائه في الصحراء، بينما لا تحمل أياً من جزيئات القيمة وهي على مائدة عامرة .
في هذا السياق أمثلة لا تشغل الذهن في تخيلها لكينونتها الواقعية وبينونتها الجلية، ومنها، على سبيل الخصر لا الحصر، مطربة عربية تصرّح في أحد البرامج الفنية التلفزيونية بأن القدس عاصمة الدولة الفلسطينية ، فيتم التصفيق لها ومن بعد التصفيق يأتي التصفيح أي امتلاء صفحات المجلات وبعض الصحف في إمطارها بالمديح على موقفها هذا وما هو إلا الموقف المتوقع من كل بني يعرب والمسلمين باستثناء من تناسى التاريخ والجغرافيا ،على عكس لو كان موقفاً صادرا،مثلاً، من المطربة الإسرائيلية زهافا بِنْ أو من الأمريكية بريتني سبيرز.
مثل السخاء في المدح ،كرم في القدح ،هذا هو تشخيصنا الحقيقي كعرب ومشرقيين، ذلك لانعدام الضوابط العقلية التي تقود المرء إلى رؤية الأمور بعقلانية وتحليلها بمنطق وموضوعية بعيداً عن الانفعالات العاطفية التي كثيراً ما قادت إلى التهلكه اللفظية وحتى السلوكية. فالعقلانية لا ترى عملا بطوليا ً يوجب المدح بحق شاب يقرأ الكتب ،وما هذا إلا غذاء للروح والذهن منذ فجر التاريخ ، إذنْ فلنمدحه على غذاء معدته أيضاً.!! والمنطق لا يوجب وضع الأوسمة والنياشين على صدر من يحترم زوجته ويبتاع لها الهدايا وما ذلك إلا سيرورة الحياة الزوجية ولا يجعل من الزوج "سوبرمان".
لن يكون مستبعداً بعد هذا الإغراق في المدح، والإخفاق في الموضوعية، أن تتشكل لجان متخصصة في منح الجوائز عن فئات لم تكن تخطر على بال أحد. وسيكون كل يوم، وعلى مدار السنة، بمثابة مهرجان لتوزيع الجوائز، حينها سينال الزوج جائزة عدم إهانة الزوجة، وسيكون المذيع أو الصحافي حائزاً جائزة النحو في الرفع والجر والنصب، وأمين الخزنة جائزة عدم الاحتيال والنصب .