آخر الأخبار

الموارنة سريان سوريون

يحاول الجاهلون الذين لم يدرسوا التاريخ ولا العلم إيهام الناس انه يوجد في لبنان شعب خاص ليس جزءاً من الأمة السورية القائمة شعباً واحداً في جميع سورية الطبيعية.

في أول عهد نغمة "إستقلال لبنان"، الذي أعلنه قائد الجيش الفرنسي المحتل، لجأ المهتمون بتأمين مصير الجماعة المسيحية في لبنان

إلى فكرة إيجاد "قومية لبنانية" خاصة، بالاستناد إلى خرافة الأصل الفينيقي في لبنان، متخذين المدن الكنعانية البحرية التي قامت على الساحل أمام جبل لبنان كصور وصيدا وجبيل، أساساً لهذه الخرافة.

ولو افترضنا غير الواقع، وسلّمنا بهذا الأصل "الفينيقي" أي الكنعاني، لوجب القول إن الشعب اللبناني مربوط من الوجهة "الإتنغرافية" بالشعب الفلسطيني أشدّ الارتباط، أي أنه والشعب الفلسطيني شعب واحد، لأن أساس الفينيقيين -الذين سماهم اليونان بهذا الاسم واشتهروا به في تاريخ المتوسط والتمدن المديتراني الذي نشأ في سورية- هو في فلسطين التي عرفت "بأرض كنعان" والتي هي مقر "جسم" الكنعانيين وحافظة بقيتهم.

ولكن التحقيقات العلمية أثبتت بما لا يقبل الجدل، اختلاط الأقوام الرئيسية الثلاثة التي انتشرت في سورية الطبيعية كلها، أي "الكنعانية (الفينيقية) والآرامية-الكلدانية والحثية"، وامتزاجها واندماجها بعضها ببعض، حتى نشأت فيها شخصية واحدة جديدة واضحة هي الشخصية السورية.(..)

والموارنة خاصة الذين فيهم كثير من الشكل الحثي أيضاً هم آراميون أصلاً ولغة، أي سريان "سوريون" ومجيئهم كان من الداخلية. وقصة دير رهبان مار مارون قرب حمص، وهرب الموارنة من ذلك المكان لبنان حقيقة ثابتة،.. حتى أن المطران مبارك رأى أن يذكرها من أيام معدودة في خطبة له.

فالمورانة الذين هم من الشعب السوري الذي هو في داخل سورية هم سريانيو اللسان لا فينيقيوه وهم، ثقافة ودماً، سوريون كغيرهم، وأدبهم الديني والاجتماعي هو بعض الأدب السوري السرياني عامة الذي له ازدهار عظيم في ما بين النهرين: الفرات، ودجلة، كما في أورفة "أوديسة" وغيرها.

وإذا عدنا إلى الأساس الفينيقي وجدنا أن الفينيقيين امتدوا من فلسطين على طول الساحل السوري. وأعظم الآثار الفينيقية التي اكتشفت مؤخراً بين سنة 1929 و1932 كان في رأس شمرا قرب اللاذقية وليس على الساحل أمام فم الميزاب او صنين والكنيسة.

إن الأقوام السورية الرئيسية قد امتزجت بعضها ببعض مع مرور الزمن. وكان شعورها بوحدة مصيرها قبل امتزاجها، يدفعها إلى التحالف الجزئي أو الكلي فيما بينها، والتاريخ يروي لنا عدة تحالفات من هذا النوع، خصوصاً ما نشأ بينها ضد الغزوات المصرية التي تلت الفتح السوري لمصر وسيادة السوريين على مصر مدة غير يسيرة من الزمن.(..)

وإذا عدنا إلى الموارنة خاصة وجدنا انهم الذين يحفظون بقية التقاليد السورية القديمة، ويشترك معهم فيها بعض جماعات الداخلية وما بين النهرين. فلغتهم الكنائيسية هي السريانية أي السورية عامة التي عمّت سورية كلها، وكانت مدة من الزمن اللغة الرسمية في المعاملات الإنترناسيونية، حتى أن معاهدات بين الفرس ومصر عقدت باللغة الآرامية (السريانية).

والبطريرك الماروني ليس بطريركاً لكرسي لبناني، بل لكرسي سوري عام، فهو "بطريرك انطاكية وسائر المشرق" وانطاكية في شمال سورية، وكانت عاصمة الإمبراطورية السورية في العهد السلوقي الذي كانت العائلة المالكة فيه من اليونان ولكن الدولة كانت سورية.

وفينيقية نفسها كانت تعرف بأنها سورية وليس "لبنانية" وقد خصها بالسورية الإنجيل المقدس فقد ورد فيه في وصف انتقال يسوع الناصري إلى الجليل ونواحي صور وصيدا.

وقبل الحرب العالمية الأولى كان جميع اللبنانيين يعدّون أنفسهم سوريين، ولا يعرف أحدهم نفسه بأنه لبناني إلا تعريف المنطقة وليس تعريف القومية، كقولك "بطرس البستاني اللبناني" و "يوحنا الدمشقي" و "ديك الجن الحمصي"، الخ.

إن الموارنة خاصة يحملون تراثاً سورياً، وتاريخ طائفتهم مندمج في تاريخ سورية كلها ومنهم تنتظر المساهمة في حفظ هذا التراث، وكل فكرة تقصد عزلهم عن مجرى هذا التاريخ هي فكرة مقوّضة لأساسهم ومعطلّة لمستقبلهم.

المسألة اللبنانية لم تكن قط مسألة أمة خاصة أوجنس خاص أوبلاد خاصة، بل مسألة جماعية دينية دفعتها الحروب الدينية الماضية وفقد الحقوق المدنية والسياسية العامة إلى طلب وضع تأمن فيه على معتقداتها الروحية وتقاليدها، حفظاً للتراث القديم لا تهديماً له.

حقيقة هذه المسألة معروفة عند المسيحيين والمحمديين على السواء. وتشكيلة "الكتائب اللبنانية" نفسها كانت تعترف بعدم وجود "أمة لبنانية" إذ هي تقول في المادة الأولى من دستورها التأسيسي إن غايتها "السعي المتواصل إلى إنشاء أمة لبنانية" أي إن هذه الأمة ليست موجودة و"الفلانج" تريد إيجادها.

وحتى الآن لم تصدر "الفلانج" بلاغاً بانتهائها من صنع الأمة السورية، ولم تدع الناس إلى رؤية نتاجها في معرض رسمي.

جبران خليل جبران، الماروني، لم يسعه، عندما رأى إنشاء الكيان اللبناني السياسي، إلا أن يقول في مقالة أنشأها خصيصاً لهذا الموضوع "لكم لبنانكم ولي لبناني".

المطران الماروني المغفور له الدبس ألف تاريخ سورية، وعدّ سورية كلها وطنه والأمة السورية أمته.

سليمان البستاني الماروني، الأديب الكبير، قال، وقد اشرف على الوفاة: "وارض سورية محط الأمل.

إلى حماها يسير الرفات، وأهلها تلقى قبيل الممات، بمرتع الرغد وعيش خضيل".

لا تخونوا أرواح آبائكم وأجدادكم، ولا تعطلوا خلودهم إن كنتم تعقلون.

ليس الموضوع نقض الكيان اللبناني فهذا الكيان مسلّم به، فلنفرق بين الكيان وسلامته من جهة، وبين الحقائق الاجتماعية من جهة أخرى.

أنطون سعاده

جريدة الزوابع العدد 1، 1948