حافظت مدينة دمشق القديمة على الكثير من عاداتها وطقوسها الشعبية وبقيت العراضة الشامية بكل ما تحمله من هتاف وأهازيج يتغنى بها الأهل والأحبة في الأفراح والمناسبات ناقلاً أساسياً لمظاهر البهجة والسرور التي كانت مازالت تعيشها أحياء المدينة.
وتعتبر العراضة الشامية من التراث السوري القديم الذي لعب السيف والترس فيه بالإضافة إلى استخدام الآلات الموسيقية الصاخبة كالطبل الضخم والمزمار والطبلات الصغيرة دوراً كبيراً في الحفاظ على الموروث الشعبي الذي أبقت عليه الكثير من العائلات الدمشقية حتى يومنا هذا.
وقال الدكتور صائل سلوم مدير مديرية التراث الشعبي في وزارة الثقافة ان تاريخ هذه العادة الشعبية غير محدد بشكل واضح فقد بدأت مع ظهور المجتمع الدمشقي وهي عبارة عن ابتداع شعبي اقترن بالمناسبات العديدة التي كان يعيشها سكان دمشق سواء الأعراس وعودة الحجاج والأعياد الدينية وليالي رمضان أو قدوم أحد الأبناء من السفر أو ولادة احد الاطفال بالاضافة الى المصالحة بين المتناحرين.
ولفت إلى أن ظهور هذه العادة واستمرارها حتى ستينيات القرن الماضي كان قويا جدا ثم اخذت تضعف شيئاً فشيئاً ماعدا مناسبات الرمضانيات حيث حافظ أهالي الشام عليها مع المسحراتي والحكواتي ثم عادت الى الظهور من جديد وبقوة في تسعينيات القرن الماضي من خلال فرق باتت معروفة في دمشق والمدن الأخرى.
وأضاف سلوم أن العراضة لم تعد تقتصر فقط على المناسبات الوطنية والأهلية والأعراس بل اصبحت تعمل بشكل تجاري ومنظم وخاصة في افتتاح المحلات التجارية أو التخرج من الجامعة أو في المهرجانات التراثية التي تقيمها الجهات الثقافية والبلدية حتى أن العديد من المشرفين على المسلسلات التلفزيونية يطلبونها لتقديم وصلات خاصة في المسلسلات التي تتناول البيئة الدمشقية أو العادات الاجتماعية في دمشق مبيناً أن السبب الأساسي في عودتها هو الحنين إلى العادات القديمة التي كانت تحمل معاني لرجولة والمحبة بين الناس بالإضافة إلى الدور الذي لعبته الدراما السورية في إعادة تنشيط وإحياء هذه العادة الدمشقية.
وأوضح سلوم أن العراضة قديما كانت تتألف من 10 إلى 15 عضواً بينهم الرئيس والنائب وعضو ثالث مهمته تنظيم الدخول والخروج اما الذين يقومون باللعب بالسيف والترس فهم أعضاء من الدرجة الأولى وهناك أعضاء درجة ثانية يكونون بمثابة احتياط في حال غياب احدهم اما باقي اعضاء الفرقة فمهمتهم التصفيق وترديد الأهازيج مبيناً أن العراضة في العرس الدمشقي تقوم على فكرة الحضور الى بيت العريس ثم الخروج به الى حمام السوق مع مجموعة من الأهل والمقربين والأصدقاء ثم العودة به الى البيت لاحياء العرس وكان دائما في كل حارة دمشقية كالميدان والشاغور والعمارة وساروجة وباب السريجة والصالحية وغيرها فرقة عراضة خاصة بها لاحياء المناسبات ضمن الحارة الواحدة وفي حال عدم توفر فرقة عراضة في احد الاحياء فكانت تستعين بعراضة الحارة المجاورة.
وبين سلوم أن الأهازيج التي كانت تستخدمها العراضة منقولة من جيل إلى جيل مشافهة ولم تكن العراضة مهنة يعيش منها الأعضاء وإنما كانوا يقومون بها بشكل مجاني كنوع من المشاركة مع الأهالي بهدف اسعاد ابناء الحي الواحد.
وأضاف مدير التراث الشعبي أن السيف والترس الذي كانت تستخدمه العراضة ما هو إلا لون من ألوان السلاح الأبيض للدلالة على أن التاريخ السوري القديم كان يحمل ومضات جميلة من نماذج القتال بين الفرسان في ساحات الوغى وكلما اشتد الوطيس بين اللاعبين بالسيف والترس كلما دل على الفرحة العارمة بالمناسبة لبعث البهجة في نفوس الناظرين وتاكيد قيم الرجولة والصمود في ساحات القتال مبيناً أن اللعب بالسيف والترس نوع من أنواع الرقص الشعبي ترافقه حركات منظمة للأيدي والأرجل بشكل يتناغم مع الموسيقا الصاخبة التي يؤدونها.
ورأى سلوم أن التطور الذي شهدته العراضة الشامية في يومنا هذا شمل نواحي عديدة حيث أصبحت ترافقها الالات الموسيقية في حين كانت سابقاً تعتمد فقط على الطبل كما تم ابتداع نداءات حديثة تتناسب مع المناسبة واصبح استخدام المشاعل دارجاً في حين أنها لم تكن مستخدمة قديماً حتى أن اللباس أصبح موحداً في حين كان سابقاً يعتمد على الزي الدمشقي دون الاهتمام بمبدأ الزي الموحد الكامل من حيث اللون والشكل لافتاً إلى أن الفرق الحالية اصبح لها إدارات ومكاتب وإعلانات وبطاقات للدلالة على عناوينها بحيث يمكن الاتفاق مع أي فرقة عبر الهاتف واللافت أيضاً أن عدداً منها انتقل إلى المحافظات والمدن السورية الأخرى فأصبح هناك فرق العراضة الحموية والحمصية والحلبية وغيرها.
بدوره قال وائل لحاف المشرف على أحدى فرق العراضة الشامية في حي الأمين بدمشق إن العراضة الشامية تقوم على تقديم الأهازيج الحماسية بشكل عفوي للتعبير عن المشاركة بفرحة أحد الأعراس أو المناسبات الأخرى مبيناً أن الفرقة تتألف من 10 إلى 25 عضواً يستخدمون عبارات كتبت خصيصا للمناسبة فمثلاً عبارات العرس تختلف عن عبارات عودة الحجاج وهي غالباً مستمدة من التراث مع بعض التطوير عليها وقد ازداد الطلب على الفرق كثيراً في الآونة الأخيرة في كل مناسبة اجتماعية أو وطنية.
وأضاف لحاف أن أعضاء الفرقة هم من الشباب الذين ينتمون إلى الحارات الشعبية ويعرفون البيئة الدمشقية بشكل ممتاز كما تتوفر لديهم الخشونة والصوت الجهوري القوي وخفة الحركة وسرعة البديهة ومن الضروري أن يكون لدى كل منهم شاربان كبيران يرمزان للرجولة لافتاً إلى أن أعضاء الفرقة ليسوا محترفين أو متفرغين بشكل كامل للعمل في فرق العراضة فهم يزاولون أعمالا أخرى ولكن تجتمع الفرقة مساء بشكل يومي في مكتبها لتتدارس الدعوات الموجهة إليها ولوضع الحركات والأهازيج التي ستؤديها حسب المناسبة المدعوة إليها.
بدوره بين أبو محمد مشرف على إحدى فرق العراضة الشامية في منطقة القيمرية بدمشق أن لباس أعضاء الفرقة عبارة عن الشروال العربي المطرز والصدرية العادية والشملة والشالة والطربوش أو الطاقية البيضاء الشبيهة بطاقية الحجاج وإذا كانت المناسبة في الشتاء فيلبس أعضاء الفرقة الدامر وهو الجاكيت العربي السميك المطرز بأشكال جميلة مبيناً أن الكثير من الفرق وبهدف جذب الانتباه إليها والحصول على شهرة اوسع تقوم بجلب خيالة للمشاركة في تقديم الألعاب والعروض.
واضاف أبو محمد أن فرق العراضة الشامية تستخدم اهازيج سجع مع زغاريد وصيحات قوية مأخوذة من التراث فمثلا في حفل العريس تهتف الفرقة المرافقة للعريس بعبارات استعراضية يرافقها الطبل والموسيقى القوية ومنها "عريس الزين يتهنا .. يطلب علينا ويتمنى.. عريس الزين يا غالي .. ويا مسهرني الليالي.. عريس الزين ما بيعو.. لو جبلي الدهب غالي.. شن كليلة شن كليلة.. الله يعينو على هالليلة.. من هالليله صارلو عيله .. شو هالليلة ما أحلاها .. للحبايب بنتمناها.. طقي وجني حيص بيص.. نحنا في معنا عريس".
وعند عودة احد الحجاج من الحج يتم استقباله بأهزوجة.. أول ما بدينا.. على النبي صلينا.. يا صلاتك يا محمد .. وبالصلاة صلواعليه .. وا علينا وا عليه .. وعلى من زار قبره .. حجيت الحجاج لاجله .. وعلى من حج إليه .. وادللي ياعيني . .على هالحج الزيني .. وادللي ياغاليه .. لاطلع لك العالية.. مسا الخير ومسا الخير .. الله يمسيكم بالخير.. الله يمسي حارتنا.. يللي لمت شملتنا.. يا سباع البر حومي .. اشربي ولا تعومي .. اشربي من بير زمزم .. زمزم عليها السلام.. يا سلام اضرب سلام.. محمد زين محمد زين.. محمد يا كحيل العين.
وبين أبو محمد أن أهم الأهازيج التي يهتفون بها للدلالة على الرجولة والقوة واشتداد المعركة بين اللاعبين بالسيف والترس.. اضرب واجرح لا تخاف.. وين السبعة يجاوب تسعة .. ويا فشك مالك خرسان.. سمعنا الصوت الرنان .. وان هلهلتي هلهلنالك .. حطينا البارود قبالك .. وان هلهلتي يا عروبية .. الواحد منا يقابل مية .. ويللي بدو يتحدى .. هي الحارة مين قدها".
يذكر ان سورية منذ عام 2004 وقعت على اتفاقية حفظ التراث الثقافي اللامادي واصبحت تتعاون مع كل الدول العربية والمنظمات الدولية للحفاظ على تراثها اللامادي بكل ما يحتويه من فنون كالعراضة والأغاني الفلكلورية والدبكات الشعبية والعادات والتقاليد وغيرها الكثير.
(فداء حوراني -سانا)