إن البقعة الصغيرة التي اسمها الكرسي الرسولي (الفاتيكان)، والتي لا يتجاوز تعداد المقيمين بها الالف شخص ، تمثل الجماعة الكاثوليكية والتي هي أكبر تجمع بشري منظم على وجه الارض ، حيث يبلغ تعداد الكاثوليك 1 مليار و165 مليونا، وبالتالي يمثلون اكثر من 17% من التعداد الإجمالي لعدد سكان العالم ، وهذا بدوره يعطي الكرسي الرسولي عمقاً للتأثير في السياسة وفي الخريطة العالمية.
لن ندخل في تفاصيل حول هرمية الكنيسة الكاثوليكية وتعدادها، الا أنني سأنقل ما كتبه الاب د. يوآنس جيد حول تعريفه للكنيسة الكاثوليكية حيث كتب : "هي المؤسسة البشرية الأكبر والأكثر تنظيما على وجه الأرض حيث أن كل الكاثوليك يشتركون في اعتبار قداسة بابا روما، خليفة القديس بطرس وبولس، رأس الكنيسة المنظور وذلك انطلاقا من إيمانهم الكاثوليكي، هذا الإيمان الذي يجعل من قداسة البابا أكثر الشخصيات تأثيرا على الخريطة العالمية، فلا يوجد شخص أخر يتبعه 1 مليار 165 مليون."
لنأخذ مثلاً كيف يبني الكرسي الرسولي خطوط اتصالاته ، له علاقات دبلوماسية مع 179 دولة، ومع الاتحاد الأوربي وفرسان مالطة. وعلاقات ذات طبيعة خاصة مع روسيا ومع منظمة التحرير الوطني الفلسطيني. ومن إجمالي البعثات الدبلوماسية هناك 73 بعثة غير مقيمة وبالتالي فالعدد الفعلي للبعثات المقيمة هو 106، بالإضافة لمشاركة الكرسي الرسولي في أغلب المؤسسات والهيئات العالمية. وعدد الدول التي لا توجد بينها وبين الكرسي الرسولي علاقات دبلوماسية حتى الآن هو 16 دولة. وعدد سفراء الكرسي الرسولي حوالي 101 يعاونهم 142 دبلوماسي بالإضافة إلى الموظفين المحليين.
والسؤال الذي يتبادر الى ذهني هو: لماذا لا تقوم سورية بفتح سفارة مقيمة لها لدى الكرسي الرسولي (الفاتيكان) ؟
من المعلوم أن الكرسي الرسولي لا يقبل أن يكون أي سفير لدولة ما في ايطاليا هو سفير غير مقيم لهذه الدولة لديه. كما لا يقبل سفيراً غير مقيم لديه ولا مركز له غير بلده، بل يقبل سفيرأ لدولة ما مقيماً في بلد آخر (غير ايطاليا) ليكون سفيراً غير مقيم لديه.
دأبنا في سورية على أن يكون لدينا سفيراً غير مقيم لدى الكرسي الرسولي، وذلك للتمثيل الدبلوماسي فقط، غير ملاحظين أو مهتمين بمدى القدرة الواسعة المتاحة لنسج العلاقات العامة الدبلوماسية من خلال وجود سفارة مقيمة.
أتيحت لي الفرصة - منذ مدة - أن ازور الكرسي الرسولي وان اتحاور مع مرجعيتين مهمتين فيه هما رئيس مجمع الكنائس الشرقية ورئيس المجلس الحبري للحوار بين الاديان. ولقد لمست الاحترام الكبير لسورية رئيساً وشعباً ومدى الامكانية الكبيرة لسورية كي تكون نموذجاً حياً للعالم في مجال العيش المشترك واظهار الاسلام الحقيقي بنكهة سورية. إضافة الى الاستغراب من عدم الاعتماد على الفاتيكان من الناحية الدبلوماسية لعرض وجهات النظر.
ما يحز في النفس أن الاهتمام بنسج علاقات أكثر قوة مع الكرسي الرسولي يقع في لفية الاهتمامات الدبلوماسية السورية، في الوقت نفسه الذي نرى ان دولاً كثيرة تهتم لوجودها المباشر لدى الكرسي الرسولي
إن دور الوجود الدبلوماسي لدى الكرسي الرسولي - كما سبق وقلته - هي وظيفة تمثيلية . فمجرّد تواجد البعثات الدبلوماسية لدى الكرسي الرسولي باعتباره كياناً قانونياً وروحياً وسلطة معنوية يعبّر عن رغبة الدول في إقامة علاقات ودّ واحترام وتعاون مع كرسي بطرس وتالياً مع الكنيسة. وهذا التمثيل يفترض طبعاً مشاركة الدبلوماسيين في مختلف أوجه النشاطات العامة للكرسي الرسولي، ولاسيما في الإحتفالات والمناسبات الدينية المقدسة، سواء احتفل بها الحبر الأعظم شخصياً أو فوّض أحداً لتمثيله فيها، مع اتباع بروتوكول محدّد ونظام تشريفات وتصدّر وبروتوكول احتفالات واضحين، مع ما يفترض ذلك من ارتداء البذلة الرسمية وغالباً الأوسمة التي تفيد عن مدى رسمية المناسبة. وهذه الإحتفالات غالباً ما تُبَثّ إلى أقصى المعمورة (وهو موضوع يهم -برأي- لاظهار صورة سورية اعلامياً على الأقل) وهو يعني أن نعكس صورة الدولة التي أوفدتنا ، ولا شك - برأي مرة ثانية - أن الكرسي الرسولي هو المكان الأكثر من أي مكان آخر الذي نوضح فيه - من خلال العلاقات الثنائية - الصورة الطيبة لبلدنا ، مع ما يتعيّن على الدبلوماسيين أن يتقيّدوا بقواعد سلوك صارمة سواء على صعيد السلوك في المجتمع أو في الحياة الخاصة لتكسبهم الإحترام والثقة والتقدير بين نظرائهم في / أو لدى الفاتيكان.
كما أن الكرسي الرسولي ذي الرقعة الجغرافية الصغيرة ، يساعد تماما ، من خلال أقنية كثيرة متعددة ، على تقارب وجهات النظر بين ممثلين دبلوماسيين لديه من خلال عالميته ، فالكنيسة كونية بالفعل وهي تدافع عن قيم كونية تحظر كل أشكال اللجوء إلى القوة والعنف في العلاقات الإنسانية والدولية. ولأجل ذلك فإن للتمثيل الدبلوماسي الناشط أهمية نقل وجهات النظر الى الكرسي الرسولي التي بدورها تستطيع ان تنقل وجهات النظر هذه الى بقاع كثيرة في العالم .
من اجل ذلك أرى أنه من الضروري التفكير باقامة سفارة لسورية مقيمة لدى الكرسي الرسولي، وهذه السفارة التي حتماً لن تكون مهمتها مثل السفارات السورية الأخرى ، يجب أن تنحصر مهمتها في فتح اقنية دبلوماسية مع كل انحاء المعمورة من خلال تواجدها لدى الكرسي الرسولي ، على أن تقوم الاقنية الدبلوماسية السورية المنتشرة في العالم بمهمة المتابعة.
هذا يتطلب ليس سفارة مقيمة فقط ، بل وطاقماً مختاراً موثوقاً به ومتاحٌ له امكانيات كبيرة.