كالضباب الذي يتخلل الأشياء، كالليل يقع للنهار في خيوط من ماء، عاودتني تلك المشاعر المرهِقة التي يمتزج فيها الحنين بالاحباط، باللهفة، بالغضب و تضمُر الذاكرة حتى لا تعرف إلا شبحا واحدا تراه في كل الأشباح و تطاردها ريحُه في كل الارواح و توقد سُرادق عزلتها مُحتفية إلا بالفراغ فلا يلبث الشبح أن يجعل عزلتها دارَه فيطلع منها كلما تكوّرت كمارد من قمقم.
تلك النهاراتُ الغريبة تصفو فيها الذات العاشقة فتصير المعشوقَ بلحمه و دمه، بِحسّهِ للأشياء و بنظرته لأدقّ التفاصيل و بتوحّده بِكلّ التفاصيل كأن يطلّ من البحر و من فنجان الشاي و من شبّاك النافذة و أنت تحاول معرفة الوقت من نسبة الضوء ذاهبا إلى عملك، و أنت تضع جوربا أو تُزرّر معطفا.
إنها تلك الصباحات المزعجة المعطّرة برائحة الحب الحزينة و لَوْنِهِ الحزين، و ملمسه على الأوراد الذابلة في مزهرية الباحة...صباحات الشهوة السوداء و الورد الأسود و الابتسامة السوداء التي تتغرغر بالفراق و الشارع الأسود الذي يبتلعك ليرحمك بالوظيفة من الغرق في تلك الحالة "المناخولية" من العذاب العذب. و رُبّما أنْسَتْكَ قرقرة الماء و قرقعة الصحون للحظة ذلك الامتداد الرائع لنرجسيتك و هو الحب و ربّما سرحت في أثاث مُبهرج أو ثياب مُنتقاة أو حديقة لن تذبُل و لكن أين تهرب من ذاتك، من ذلك الحب الذي تُردّ إليه كل العواطف و الشخص الذي يُردّ إليه كل الأشخاص و اللون الذي تُردّ إليه كل الألوان، كيف تُلغي ذاكرتك و الحال أن هذا الشعور العُصابي يُلغي كل ما قبْله و يَرُدّ إليه كل ما بعده..
و يأتي الليلُ تتشامخ فيه قلعة الأرق بِناءً خافتَ الأضواء كأنها حيوان متربّص: الحبّ من وضع صخرتها الأولى ثم تختلط اللبِنات فتستدعي الطفولة و التجارب و القراءات و أشواق الحرية و انتظارات الآخرين منا...قلعة تغرق في فقاعات النشوة لحظة، تتراقص و تتلون و تختال و تهتزّ لمجرّد أن ترى ذلك الكائن الذي ترتسم فيه صورة المحبوب الأسمى..و لو للحظات ثم تعود ليغمرها السواد و سكون الأموات حتى ترى الحياة في لحظة جديدة تكون هبة الدهر لقتيل الدهر (الانسان).
إن ذات الفنان بما هي ذات عارية، مُنكشفة على العالم و متأثرة به أكثر من غيرها لقدرتها أكثر من غيرها على على استقبال الذبذبات و الكهرباء العامة للكون تمثل ضُعفا في قلب الكون لأنها تتأثر أكثر مما تؤثر و استجابتُها شعورية كانت أو
لاشعورية لا "تستفيد" منها الذات الشاعرة لأنها تُعيد انتاجها للتوّ في شكل عمل فني و تظل بعيدة "انسانيا" عن ذلك التأثير حتى تُعيد قراءة عملها بعين ثانية تكون فيها مُستقبِلة لا مُرسِلة و عندها يتحقق الامتلاء.
إن العمل الفني لا يعني لمُنتِجِهِ ما يعنيه لمُستهلكهِ فإذا كان المستهلك مُحبّا للعمل أو نافرا منه فإن المسألة غير محسومة بالنسبة للفنان. إن علاقة هذا الأخير بِفنّهِ تعكس تماما علاقته بِذاته فنرجسيته تصبغ رؤيته للعمل و كذلك احترامه أو سوء تقديره لذاته و ربما اختلطت النرجسية بسوء التقدير للذات و الاحترام بالكراهية في حالات التلامس مع الواقع المُحبط.
يبدو الفن حياة موازية للحياة الواقعية، سماءً ثامنة للمخيال و الحلم أو ما يراه الانسان العادي حُلما و يبدو (الفن) أحيانا قاربا للنجاة يحمي الفنان من (الجنون) في واقع لا يحترم حساسيته و اختلافه و لكن الأهم من ذلك أن الفنان و الانسان العادي يعيشان الفن و الواقع بتناسب معكوس فإذا كانت نسبة الفن في حياة الانسان العادي خمسة بالمائة مثلا فإن نسبة الواقع في حياة الفنان تعادلها تقريبا و ما يراه الانسان العادي تَرَفا و تساميا يراه الفنان حقيقة فأول من "شبّه" المرأة بالوردة لم يَرَ اُمرأة في تلك اللحظة بل رأى وردة و لم يصِفْ إلا ما رآه و الحلاج الذي قال أنا الله و الله أنا فقد عرف الله بذاته و بصيرته و لم يصف إلا ما عرفَهُ و الذرّة و الجراثيم لو لم يرها الفيزيائي بخياله و الطبيبُ لما بَنَيَا حولها النظريات ! فما يبدو غير واقعي بالنسبة للانسان العادي هو الواقع نفسه بالنسبة للفنان و لهذا أليس علينا أن نرى اختلاف الآخرين من الآن فصاعدا بأسلوب آخر؟ ألم يكن الأشخاص الذين أضافوا إلى تاريخ البشرية الفني و العلمي أشخاصا مُختلفين؟ أليس كل منا مُختلفا على طريقته؟ أوَلا يُخفي كل نقص موهبة؟ أولا يُخفي مُعظم الأشخاص الأسوياء عاهات نفسية تظهر في أوقات معيّنة؟
إن الفن هو القادر على كشف طبقات النفس البشرية و تهذيبها و الارتفاع بها و لكن العمل الفني الذي لا يصهره الحب و يُخرج أفضل ما فيه يظل صناعة لا تُلامس القلب و لا تُؤثر و لا تُغيّر بل يصير أشبه بأريكة جميلة أو مزهرية لطيفة.. إن الفن بما هو كتابة و رسم و نحت و مسرح هو ما يأخذ بمجامع الروح و الحس بالفرنسية و معناها l enthousiasme و الفكرو هو ما يُعبّر عنه بحالة
(الله-فيك) أي استحضار الذات الالهية عند مشاهدة الجمال في الطبيعة أو في العمل الفني...و لا يصل المستهلك للفن إلى الارتقاء بنفسه و بذوقه و بفكره إلا بمعاشرة الأعمال الفنية و الجمال في الطبيعة و المكابدة حتى يصل مرحلة "التطهير" التي هي أصل الفن الاغريقي و أصل الفن عموما.
14ديسمبر2009