آخر الأخبار

اسماء حارات دمشق :بين الغرابة والطرافة


يشكل الدخول في عالم اشتقاق تسميات بعض الحارات الدمشقية مفتاحاً واسعاً لتاريخ غني بالروايات الطريفة والتخيلات التي تشبه في كثير من حالاتها الأساطير ما منح هذه المدينة خصوصية روحية وإنسانية ساهمت إلى حد بعيد في خلق هالة خاصة بها ورافداً هاماً من روافد وحكايا الخيال الشعبي.


وتحمل تسميات بعض حارات دمشق التي مازال متعارفاً عليها حتى اليوم نوعاً من الطرافة وخاصة التشبيهات والكنايات الغريبة لها حيث تعد تسمية هذه الأماكن جزءاً لا يتجزأ من طرافة الإنسان الدمشقي المعروف بالدماثة واللباقة المبالغ فيها لكونه ابن بيئة تجارية منفتحة على الآخر.
ومن هذه التسميات زقاق "مطرح ما ضيع القرد ابنه" الذي حمل هذه التسمية كناية عن ضيقه وكثرة تقاطعاته وزواريبه وتعرجاته الضيقة لدرجة يكاد الإنسان يضيع فيها عن سبيله حيث يقول محمد الحبال أحد سكان المنطقة إن حارة "محل ما ضيع القرد ابنه" تصح على كل حارة ضيقة ومتشعبة في دمشق القديمة وأصل هذه القصة قديم جداً حيث أتى شخص من إحدى القرى ومعه قرد يقدم استعراضاً بهلوانياً وفجأة هرب القرد منه فلحق به صاحبه حتى ضاع الاثنان في هذه الحارات.
أما حارة الكلبة الواقعة داخل سوق ساروجة فسبب تسميتها بهذا الاسم كما يذكر بعض قاطنيها يعود إلى أن كلبة كانت ملازمة لها ولدت جراءها فيها قديماً عندما كانت غير مأهولة بينما "حارة القط" الواقعة جنوبي حي الأمين بمحاذاة السور من الداخل فكانت تسمى قديماً "بستان القط" وتعود هذه التسمية بحسب بعض سكانها إلى اسم عائلة ولقب شخص ولا علاقة لها بالقطط.
وبالقرب من جامع الورد في سوق ساروجة تتربع "حارة الجردون" التي لم يجر تدوين اسباب تسميتها تاريخيا سوى ما يتبادر إلى الذهن من قصص مبتدعة.
ومن هذه الحارات أيضاً "حارة الزط" الواقعة في الشاغور الجواني والممتدة من الباب الصغير حتى شارع الأمين وتسمى حالياً "جادة الإصلاح" حيث ترجع تسميتها تاريخياً إلى أناس قدموا من منطقة شرقي البنجاب في الهند بين مدينتي أكرا ومهترا وسكنوا فيها زمنا وكانوا يلقبون بالزط من قبل السكان الدمشقيين.
ومن الأماكن الدمشقية التي حفلت بروايات الخيال الشعبي أيضاً زقاق "الجن" الشهير اليوم كسوق صناعي لبيع قطع تبديل السيارات وتعود تسميته كما هو متداول لدى العامة إلى أن المنطقة كانت مسكونة بالجن قبل أن تعمر وكان الجن ينشرون في أجوائها العطر والبخور إذ يرى الباحث علي الشريف إن وجود مثل هكذا اعتقاد لدى سكان المدينة قديماً يعود إلى كون المنطقة كثيرة الرياح لوقوعها على ممر الريح بين جبلي الربوة والمزة حيث أن هذه الرياح عندما كانت تهب تحرك شجارها العالية وتصدر أصوات حفيف تشبه الهمهة والصفير الأمر الذي رسخ لدى هؤلاء إلى جانب الحوادث التي جرت مع المارة كسقوط أغصان الأشجار عليهم أحياناً الاعتقاد بوجود قوى خفية في هذه المنطقة تحركها الجن.
ومن اللافت أن من تلك التسميات ما يحمل معاني سلبية تعكس إلى حد ما سمات المكان رغم أن دلالات التسمية في ظاهرها قد لا تتوافق مع اصل اشتقاقها فتسمية سوق "قميلة" التي يظن للوهلة الأولى أنها مشتقة من قمل تبدو عكس ذلك فهذا السوق القريب من سوق النسوان ورد ذكره في عهد المماليك في القرن التاسع للهجرة في رسالة نزهة الرفاق في شرح حال الأسواق للمؤرخ يوسف بن عبد الهادي إذ قال.. سوق البيمارستان أو سوق برا أو سوق قميلة ثلاثة أسماء لسوق واحد تحت القلعة تباع فيه الخلقان أي البضاعة الرديئة رخيصة الثمن وحالياً تغير اسمه ليصبح سوق ميله أو سوق الألبسة المستعملة الباله فيقال باللهجة الدمشقية العامية أثناء التعبير عن عدم الإعجاب بالبضاعة أو السلعة "شو جايبه من سوق ميله".
كما أن بعض التسميات الطريفة في دمشق أطلق على بعض المقاهي مثل "قهوة خبيني" الواقعة في آخر سوق القباقبية تجاه مقهى النوفرة خلف الجامع الأموي حيث شاعت هذه التسمية الشعبية بين الناس في العهد العثماني لأن الشبان يلجؤون إليها للاختباء قائلين لمن بها.. خبيني عندما كان الجنود العثمانيون يتقدمهم ضابط مفرزة السوق أو الشاويش يعمدون إلى البحث عن الشبان لسوقهم إلى الخدمة العسكرية المعروفة بـ السفر برلك حيث كان الأهالي يرددون بصوت عال بكلمة سر هي "عباية.. عباية" لدى مرور هؤلاء حتى يتمكن الشبان من الهرب والاختباء.
وبينما كانت قهوة خبيني ملاذاً للهاربين من مستقبل مشؤوم كانت "قهوة الله كريم" بقرب جامع "يلبغا" في البحصة مكانا يرتاده المتفائلون آنذاك إذ أن روادها كانوا من ضباط الجيش العثماني المتقاعدين والذين تم تسريحهم بعد خلع السلطان عبد الحميد وكان هؤلاء كلما مر أمامهم ضابط شاب بزيه العسكري المهيب وشاراته وأوسمته المذهبة يرددون مع تنهيدة عبارة "إيه.. الله كريم" أملاً بعودتهم إلى الخدمة ورجوع أيام العز السابقة إليهم برجوع السلطان.
أما قهوة "خود عليك" في منطقة الشادروان على طريق بيروت القديم فجاءت تسميتها بهذا الاسم كناية عن ازدحامها بالزبائن لوقوعها في مكان جميل على ضفة النهر إذ كان الداخل إليها يطلب مكانا من الجالس بالقول "خود عليك" وقد زال أثر هذا المكان بعد أن احتلته المقاصف والمطاعم بشكلها الحديث وتغيرت ملامح المدينة.
ومما يشير إلى توقد الروح الدمشقية في اختراع تسميات أماكنها تسمية "مقهى التايبين" الواقعة عند مفرق المزة من ربوة دمشق حيث حملت هذه التسمية لعدم وجود ألعاب يمكن أن تستخدم للقمار في صالتها ما جعل روادها يطلقون عليها اسم التايبين إذ التصقت هذه التسمية بالمقهى حتى تم هدمه عام 1976 لإقامة عقدة جسر الربوة.
ويوجد في دمشق ايضا العديد من الأمكنة ذات التسميات التي تحمل دلالات ومعاني سلبية تبدو غير منسجمة مع روح دمشق المشهورة بالورود والياسمين مثل "حارة المزابل" بحي العمارة الجوانية التي حملت هذا الاسم في الفترة التي أقام فيها الأمير عبد القادر الجزائري قصراً في العمارة الجوانية أوائل القرن التاسع عشر وكان لهذا القصر جسر خشبي على فرع نهر العقباني يصل بين زقاق النقيب وحي الشرف الاعلى حيث كانت بقرب الجسر أرض خلاء استخدمت لمزابل القصر.
ومن هذه الأمكنة أيضاً زقاق البرص وزقاق البلطجية وسوق الشراطيط إلى جانب تسميات كثيرة يصعب حصرها كحي الطنابر في محلة الشيخ محي الدين في الصالحية الذي كان أغلب سكانه من أصحاب الطنابر "الطنبرجية".
كما تعتبر دمشق مكاناً غنياً ومتنوعا بسكانه وعاداتهم وأهوائهم ولهجاتم حيث كان الحي وحدة اجتماعية مميزة من خلال الصفات المشتركة التي تجمع أبناءه والخصوصية التي تميزه في أحيان كثيرة ولاسيما لهجته الخاصة به.
فالشاغوري لهجته تتميز بتفخيم الرقيق من الكلمات حيث أن أهل الشاغور كانوا يقولون الرصول بدلاً من الرسول وقطعة صلاح بدلاً من سلاح بينما كان ينسب الكلام الرقيق لأهالي الصالحية فيقولون السمس بدلا من الشمس والزوزة بدل الجوزة وقعل بدلاً من عقل وزواز بدلاً من زواج.
أما في حارة المغاربة فالكلام الجزائري والمغربي يطل على زائره بلكنته الحادة والسريعة المقترنة باللهجة الشامية والنكتة المشهورة عن هذا الحي في دمشق تقول إن رجلاً قال لأحد سكان هذا الحي إنت منظوم وشهم وابن حلال لولا فيك هذه العلة فقال له بحدة ونزق.. وسنو هيه.. فأجابه.. هي هيه.
وساهم اندماج المهاجرين من أصول تركية وشركسية وارمنية وغيرهم ممن أتوا إلى دمشق وأقاموا فيها بتعلم هؤلاء اللغة العربية التي تقترن لدى تحدثهم بها بخفة دم لترقيقهم الكلام المفخم منها يقولون مثلاً "ننبست" بدلاً من "ننبسط" و"تلعه" بدلاً من "طلعه" إضافة إلى أخطائهم المتكررة في المذكر والمؤنث

علي عباس.(